والهداية رعاك الله –هداية الدلالة- إنما تكون بالوحي لا بالعقل المجرد على انه لا تعارض بين الوحي والعقل الصحيح، ولما كنا نعلم يقينا –بل هو من لوازم الإسلام- أن الوحي صحيح كله لا سقيم فيه، وأن العقل قد يصح وقد يسقم في الناس عامة فضلا عن الفرد الواحد أيا كان -إلا من عصمه الله-، كان الوحي أقوى دلالة من العقل بل وبه يستدل على صحة العقل من عدمه فالعقل الصحيح هو الذي صدَّقَ به ولم يتعارض معه والعقل السقيم هو الذي يتعارض معه، فالوحي إنما هو من عند الحكيم العليم نزل به الروح الأمين على أعقل البشر بلا نزاع وأفضلهم وأفهمهم وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو مع فضله هذا ما عرف الله ولا توصل إليه بعقله بل بالوحي، يقول تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، وقال تعالى على لسان نبيه {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}[سبأ: 50]، فكيف يُعقَلُ أن يصل إنسان دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحق والإيمان والحقيقة بعقله المجرد؟!!، وقد أمر الله رسوله أن يخبرهم بأن هداه إنما هو بما يوحي إليه ربه فحسب فإنما هنا تفيد الحصر، وكذلك يخبرهم أنه إن ضل فإن ضلاله يكون من نفسه، فكيف هو الحال مع غيره من البشر؟!.
ولا يقولن قائل أنه لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّاً لم تتحصل له المعرفة وأنه لو كان عالما لحصلت له المعرفة، فإن كل عالم ومفكر وفيلسوف قبله كان كافرا إلا من آمن برسول قبله وكان إيمانه لتصديقه بذلك الرسول وإن خالف ما توصل إليه عقله، فشأن الرسالة شأن عظيم لا استقامة لهذه الدنيا إلا بها ولذا يقول سبحانه وتعالى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، فلم يرد الله أن يصل إليه البشر بعقولهم المجردة وهو قادر على ذلك بل جعل الوصول إليه بتصديق رسله واتباعهم وجعل الإيمان بالغيب بكل ما فيه مما قد يخالف العقول السقيمة والعليلة من ركائز هذا الدين وكل دين قبله، وهو مع هذا لم يهمش العقل بل حاجَّ الملاحدة والمشركين بحجج عقلية دامغة على أنه الخالق المدبر الواحد الأحد وعلى أنه يبعث الموتى كما خلقهم أول مره وغيرها من الحجج المذكرة في كتابه الكريم، هذا كله في أصل الإيمان، فإن انعقد الإيمان كان من واجباته الاتباع المطلق والانقياد التام إذ أنه لو عرض كل خبر أو أمر ونهي في الشريعة على عقله بعد إذ زعم الإيمان بها لكان كاذبا في زعمه الإيمان، إذ الإيمان هو التصديق، فلا يكون بهذا مصدقا بل شاكّاً والشك كفر، أما أن يكون مصدقا وطالبا الحكمة فلا حرج، غير أن طالب الحكمة إن لم يجدها اتهم عقله وأيقن أن الله لم يظهر كل حكمة في أمره ونهيه مع تيقنه بوجودها لإيمانه بأنه تعالى حكيم عليم خبير، وكذا أمور الغيب التي لا تتصور كيفيتها ولا صورتها يؤمن بها لتيقنه أنه تعالى قادر قاهر مسيطر، ويقول اعتقادا {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران: 7].
ولهذا كانت أعلى مقامات الإيمان التصديق التام بلا تردد وهذا الذي امتدح به الصديق أبو بكر رضي الله عنه إذ أنه مهما نقل إليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور غيبية أو مستحيلة عقلا تنكرها العقول لأول وهلة، إنما كان يقول: لإن كان قاله فقد صدق، فذلك التصديق التام هو الذي قدمه رضي الله عنه، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما فضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صيام ولا صلاة ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام ولكن بشيء وقر في صدره"[1] ، وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق"[2] ، ولذا كان إيمان الأمة كلها لو وزن بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر ولذا كان رضي الله عنه أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، ولذا قال صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي"[3] ، وقال صلى الله عليه وسلم "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم"[4].