وتوفيق الله عبدَهُ للحق والحقيقة واليقين الصحيح كتوفيقه له بصرفه عن المعاصي إلى الطاعات، فالأول صرف عِلمِهِ ويقينِهِ واعتقاده والثاني صرف عِمِلِهِ بقلبه وجوارحه وهمته، ولا يخفى على عاقل أن العاصي لا يكون هُداهُ من نفسه بل ربما جاهد نفسه على ترك معصية أو إتيان طاعة لسنين ولا يتحقق له ذلك لضعف إيمانه وإخلاصه وقصده وتوكله، ولنا في أنفسنا مثل، فما منا أحد إلا وعصى الله وقد استشعر أنه إنما انصرفت عنه تلك المعصية أو انصرف عنها بتوفيق الله وفضله ومنته لمّا صَدَقَ مع ربِّه في توبته وندمه، ولا نجد صادقا مع نفسه يقول أنه إنما تاب لأنه أراد ذلك أو أنه قادر على التوبة متى شاء، إذ هو حقيقة غير قادر على ذات الفعل حتى يصرف الله قلبه إليه، هذا فضلا عن قبول تلك التوبة أصلا، وهذا هو أصل الدعاء فإننا ندعوا الله بالهداية ثم إذا هو هدانا دعوناه أن يثبتنا عليها وهذا لافتقارنا إليه في كل حال فنحن إنما نكون به ونقوم به سبحانه القيوم، ولهذا كان التسويف في التوبة من أشأم ما يقع فيه العبد إذ أن التسويف يخالف العقل والمنطق والدين من جهتين، الجهة الأولى: أنه يستحيل على العبد أن يتيقن من بقائه حيا حتى يأتي الوقت الذي يزعم أنه يتوب فيه، كما أن المسوف في الأغلب الأعم إنما يفعله ليعذر نفسه ولا يكون صادقا فيه ولا يعزم على وقت معين للتوبة بل يكون تسويفه هربا من نقاش أو حرج من إنكار أحدهم عليه أو أنه يمنّي نفسه، ولو كان صادقا في نيته ورغبته في التوبة لعَجَّلَ بها ولَمَا سوف، والجهة الثانية: أنه بتسويفه إنما يزعم أن التوبة تكون له متى أراد وأنه قادر عليها متى شاء، وهو بتسويفه ينقض هذا الزعم إذ لو كان قادراً عليها حقاً وعالماً أن الخير فيها وأنها النجاة حقا ثم هو سوف مع قدرته عليها لكان أحمقا غرّاً ساذجاً سفيهاً إذ يؤثر الشر على الخير، فالمسوف يدرك يقينا ضعف قدرته عن اتباع الخير وترك الشر فيكون تسويفه هربا من إظهار ذلك وكأنه على التوبة قادر غير أنه لا رغبة له بها في وقته هذا، كالثعلب الذي لما لم يقدر على العنب قال لعله حصرما، ودليل ذلك كله قول الله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، فإن الله لو حال بينك وبين قلبك ثم رحت تطلب الهدى والتوبة لما وجدت إليها سبيلا حتى يشاء الله ويرضى لقلبك بالهداية واليقين.