موضوع: النكبة .. 62 عاماً شهود أحياء ... 10/5/2011, 16:46
النكبة .. 62 عاماً شهود أحياء ...
كأن الزمن لا يشيخ، أو هو حاضر أبداً بزهوه الماضي وعنفوانه، بكل رموزه وأبطاله وحكاياته التي تحكي الوجع والشتات . لا عودة عن حق العودة، سنظل منزرعين في الأرض كأشجار الزيتون، وسيبقى المفتاح و”طابو” الأرض في القلب ينتظران بشوق وحنين يوم العودة الذي لابد سيأتي . اثنان وستون عاماً هي عمر النكبة لم تجعل الفلسطيني ينسى، ففي كل يوم يتجدد الأمل في العودة إلى
الوطن السليب . إنها فلسطين القابعة في أعماق الوجدان وقعر القلب وتلافيف الذاكرة . إنها عصية على النسيان والتحريف والتزوير . هي فلسطين غير القابلة للحذف أو التقسيم، هي فلسطين من البحر إلى النهر المزهوة بعاصمتها القدس الشريف الوارفة الظلال الحاضنة لمسرى الرسول ومحمد ومهد عيسى . في الذكرى ال 62 للنكبة تفتح “الخليج” الجرح القومي المفتوح الذي ينزف دماً وألماً .
وحشية العصابات الصهيونية قتلت البشر ودمرت الحجر والشجر
يحضرك الزمن . يبتعلك من رأسك حتى أخمص قدميك، ويفتح لك ذراعيه على وسعهما لتحضنك يافا وحيفا وعكا وصفد والناصرة في وجوه تألقت فيها بامتياز . هنا التاريخ عصي على التحريف والتزوير . هنا الصورة أصيلة وبلا رتوش وحقيقية حتى الصدمة والوجع .
اثنان وستون عاماً والنبض لا يهدأ ولا يتراجع . من قال ان الوطن حروف وكلمات؟ ومن قال إن الزمن عدو الذاكرة أو إنه دواء للنسيان؟
هنا فلسطين ذاكرة عصيّة على الزمن . متوهجة . حاضرة وفياضة يختلط فيها الحنين مع الأمل والعتب مع الوجع، واليأس مع الأمل .
أجيال ترحل وأجيال تولد . والقبضة على مفتاح البيت في حيفا لا تتراخى . كما هي حفنة الرمال من على شاطىء يافا أو هي تلك الصور النابضة لحفلات الزفاف ودبكات الأعراس في الجليل .
اثنان وستون عاما والسؤال نفسه: أين نحن من فلسطين اليوم وأين هي فلسطين منّا؟
في أزقة مخيم شاتيلا والبرج في لبنان لا نحتاج لطرح السؤال . تحضرنا فلسطين بكامل زهوها وبكل محطات الوجع والانتظار فيها وذلك الطوفان الهادر من الذاكرة المفتوحة على بوّاباتها أبداً .
أبو مجاهد مدير مركز الاطفال والفتوّة في مخيم شاتيلا يعتبر أن الحفاظ على هذه الذاكرة مهمة انسانية ووطنية معا . يتطرق الى الواقع المأساوي الذي يعيشه شيوخ فلسطين وحيث لا يجد معظمهم اليوم ثمن الدواء ولا ما يحفظ لهم كرامتهم وانسانيتهم . الكثير منهم ناضل من أجل فلسطين ونذر حياته لها . ويتساءل إن كان ثمة من فكّر في ايجاد مشروع لدعم اولئك الشيوخ واحتضانهم في بادرة وفاء لفلسطين التي تحتضنها عيونهم وقلوبهم وتمتلىء بها ذاكرتهم؟
تدمير وتجويع وإرهاب
عبدالله طالب صالحاني يرفض ما يقال عن الهجرة . هو كما أهل فلسطين انتُزعوا من أراضيهم ولم يهاجروا . يقول ابو صالح بنخوة الشباب وهو قرب التسعين من عمره إنه “من الظلم ألا تذكر الحقائق كما هي . شعب فلسطين تعرّض ليس فقط للارهاب ومجازر الصهاينة، انما لحرب اقتصادية الحصار والتجويع والمطاردة” . يضيف وهو يستعرض صوراً من قبل التهجير “لماذا لا أحد يشير الى دور جيش الانقاذ السلبي في اخلاء مدن وقرى فلسطين؟ هناك شريط كامل لوقائع ومعارك نجح فيها الثوار بالاحتفاظ بأرضهم رغم عدم تكافؤ الأسلحة ومعدات القتال والتآمر والحصار . لكنهم اضطروا لإخلائها تحت وعود وعناوين مختلفة تؤكد على الحفاظ عليها ليفاجأ الجميع بأن تلك الوعود كانت كما البالونات في الهواء . يضيف: “انا من مواليد البصّة سنة 1932 كنت وما زلت شاهداً على جريمة احتلال فلسطين . كان ابي يمتلك مزارع شاسعة للقمح، وكمزارعين كان اعتمادنا على الأرض الاّ أن الاحتلال البريطاني في اضراب سنة 1936 مارس حصاراً اقتصادياً رهيبا ضد المزارعين والاهالي حتى اضطررنا لتناول خبر النخالة . منعوا تسويق مزروعاتنا واغلقوا الطرق على تسهيل بيعها، طاردوا الثوار وصادروا السلاح وفي الوقت نفسه بادر الثوار الى مطاردة العملاء في ظاهرة عرفت انذاك ب”الكف الاسود” فإن وجد العميل كفاً اسود على بابه، يعني انكشاف أمره ونهايته وفعلا كان يتم اعدامه .
تجارب ومآس كثيرة عايشتها قبل النكبة، يقول عبدالله صالحاني . وما حدث في بلدة البروة قضاء عكا والتي استعيدت من قبل الاهالي لثلاث مرات من عصابات الصهيونية يؤكد ما أسوقه . كان ممثلو جيش الانقاذ يطلبون اخلاءها وتسليمها لهم بحجة التمترس فيها وحمايتها لنفاجأ لاحقاً باخلائها واحتلال اليهود لها . وهكذا حدث معنا ايضاً اذ ارغمنا على مغادرة البلدة بوعد العودة اليها بعد اسبوع على الاكثر . فاذا بالاسبوع يمتد شهوراً وسنوات تجاوزت الستين عاما . حين غادرت بلدتي كنت خاطباً بانتظار فُسحة من الهدوء ليتم الزفاف فيها، الأمر الذي لم يحصل الا خارجها . غادرت وفي قلبي غصّة أنا الذي قاوم العصابات الصهيونية وتصدى لها وصار شاهداً على جرائمها قديمها وجديدها، وما سوف يستجد اعظم لأن الصهاينة يريدون أرضاً بلا شعب . وهذا ما يعملون على تحقيقه .
ابادة قرية بكاملها
تتذكر فطّوم العلي من بلدة فرادة في الجليل الأعلى مشهد المجزرة التي ارتكبها الصهاينة بحق بلدتها . تلملم دموعها بطرف منديلها الفلسطيني الرائحة والتطريز تقول تلك العجوز الطيّبة والوحيدة التي بقيت من عائلتها على قيد الحياة: “لم أكن صغيرة حين حدثت المجزرة سنة 1948 في بلدتي فرادة . كنت واخي واختي بين الناس المحاصرين . عمي كان مختار البلدة والذي تولى رعايتنا بعد استشهاد والدي . كانت مجزرتا دير ياسين وكفر قاسم قد وصلت اصداؤهما الينا ولم نغادر بلدتنا حتى اقتحمتها عصابات الصهاينة وراحت تنكل فيها ذبحاً وعبر زخات الرصاص، ولم تكتف بذلك بل طلبت ممن تبقى على قيد الحياة الخروج والتجمع فوق التلة لتبدأ حفلة اطلاق الرصاص علينا . كنت امسك ببنطال عمي المختار وارتجف ركضت خلف حجر كبير احتمي به، شاهدت زوجة عمي تسقط مضرجة بدمائها، كانت صبية رائعة الجمال لم تتجاوز السابعة عشرة وقد تزوجها عمي المختار لتنجب له كون زوجته الأولى لم تنجب، اصيب عمي بالذهول وهو يشاهد استشهاد عروسه . أما انا ومن شدة الذعر قبضت على يد اختي واخي ورحنا نركض باتجاه الجنوب ورصاص الصهاينة يطاردنا . اصيب اخي واسشهد ولم يبق سوى شقيقتي ومعها وصلت الى بلدة رميش في جنوب لبنان، جلسنا تحت شجرة تين وقد انهكنا الرعب والتعب . وضعنا حجرين تحت راسينا وحاولنا عبثاً ان نغفو في العراء . كان العطش والجوع قد هدّ قوانا . شربنا مياها قذرة في خلال ثلاثة ايام امضيناها في العراء الى ان اخذتنا زهرة علي موسى وكانت متزوجة فلسطينياً استشهد في تلك المجزرة الى بلدتها حيث رحنا نعمل في تكسير الحجارة وبيعها بعشرة قروش لكل حجر، الامر الذي مكننا من استئجار غرفة صغيرة اقمنا فيها . كانت شقيقتي صغيرة فتوليت إعالتها وتربيتها حتى كبرت وتزوجت وانجبت ثلاثة ذكور . لكنها قتلت لاحقاً في مجزرة تل الزعتر مع كل عائلتها وهكذا بقيت وحدي بلا أرض ولا أهل ولا سند .
دعم بريطاني
حافظ علي عثمان (ابو هشام) من مجد الكروم قضاء عكار ومواليد 1929 استذكر متكئاً على على عصاه ليقول: هكذا انتهيت عاجراً بعد ان كنت شاباً مقاوماً وناجحاً في عملي، اذكر عن فلسطين الكثير وهل يمكن للمرء الذي عاش فيها وشرب مياهها وتنفس هواءها ان ينسى لحظة واحدة من لحظات حياته فوق ترابها؟ ابي كان ضابطاً لأحد سجون عكا، وفي الوقت نفسه كان يدير بساتين الزيتون التي نملكها في مجد الكروم، كنت قد تعلمت مهنة تصليح السيارات الى جانب تدربي على السلاح والمقاومة، إذ إن العصابات الصهيونية كانت في الاربعينات في اوج نشاطها الارهابي وكانت فلسطين لا تزال تحت الحكم البريطاني وبالتالي لم يتحرك البريطانيون قيد أنملة امام عصابات الصهاينة، ولم يردعوهم بل سهلوا لهم عمليات القتل عن طريق امدادهم بالاسلحة وتسهيل دخولهم فلسطين . وفي المقابل مطاردة الثوار وملاحقتهم لقد امدوهم بكل اشكال الدعم وربما ليسوا وحدهم من قام بذلك فالمؤامرة ضد فلسطين وشعبها شاركت فيها اطراف عربية كثيرة . شاهدت بنفسي مجازر العدو في عكا وحيفا وكيف اندثرت على اثرها عائلات بأكملها، كانوا يلغمون المنزل ويزنروه بالمتفجيرات ليلاً وأهله نيام لينفجر بهم فتتطاير الجثث وتحترق وعلى غفلة من الجميع هذه المباغتة دفع ثمنها عائلات كثيرة اطفالاً ونساء وشيوخاً وشباباً، ومع هذا لم يكن الاستسلام واراداً امام احد، بل كان الشباب يطاردون هذه العصابات حتى اوكارها ولطالما نجحوا في مواجهتها وردها على اعقابها . كان مشهد الرعب يمتد من عكا لمجد الكروم ولانه لم يكن آنذاك من وسائل نقل سريعة كالسيارات كان الناس يقضون ضحايا إصاباتهم ونزفهم ما اضطرنا احياناً لنقلهم على البغال وعلاجهم بوسائل بدائية .
وها هي الأيام تمتد سنوات وسنوات لأتزوج في الغربة وأعيش في الغربة وانجب اربعة ابناء وليستشهد بعضهم وليغترب الآخر مرة أخرى ولتستشهد زوجتي وابقى وحدي بانتظار ان يتحقق الحلم . فهل سيتحقق؟
هذه هي اوراق ملكيتي لأرضي وبيتي احتفظ بها حتى اليوم كأنني اعزّي نفسي بها بان فلسطين حقيقة هي وطني، وانني أنا حافظ علي عثمان كان لي في يوم من الايام وطن وبيت وارض وان لي فيه جذوراً ورائحة جذور وعبق وتاريخ . . انا حقيقة ولست وهماً كما هي عروبة فلسطين حقيقة وليست وهماً كما يريدون ان يقنعونا بعد اثنين وستين عاماً على نكبة التهجير .
أحرقوا الشجر والبشر
تمام محمود سحويل من سعسع قضاء حيفا تقول وهي تتأمل البوم صورها طفلة في فلسطين “كنت حينها طفلة في الرابعة لكني أعي تماماً ما كان يتردد على السنة أهل بلدتنا وأدرك ما اسمعه جيداً . كان أهلي يحرصون على التناوب ليلياً لحراسة منزلنا وارضنا بعد ان توقفوا عن الذهاب الى حيفا للتسوق ولبيع الألبان والأجبان والخضار في اسواقها . لقد فهمت يومها ان الصهاينة كانو يضعون المتفجرات في براميل الزفت في الاسواق في حيفا وفي وقت الذروة حيث تشهد هذه الاسواق حركة بيع وشراء ولتستقبل الفلاحين المقاومين من البلدات المجاورة لبيع الخضار والبيض والالبان فتنفجر بهم تلك البراميل . وشاهدت كيف كانت تلك العصابات تتسلل الى القرى لتحرق البساتين “وبراكيات” الدواب فتقتل الابقار والاغنام وحتى اخشاش الدجاج والطيور . هذا ما رأيته طفلة وما زلت اشاهده اليوم يحدث في فلسطين وعلى مرأى العالم ومسمعه وموثقاً بالصور وتبثه القنوات كافة . الا يقتل العدو الفلسطينيين في الضفة والقطاع؟ الا يحرق البساتين؟ ويفجر المنازل ويلغم الطرقات والسيارات؟ الا يذبح الاطفال والنساء . . انها المجازر ذاتها تمتد عبر السنوات وتتسع دائرتها ولا من احد يجرؤ على قطع تلك اليد الغادرة التي لا تتوقف عن سفك دماء شعب فلسطين وانتهاك ارضه وحقوقه ماذا اقول؟
وهل ثمة فائدة ما من الكلام؟ اننا نتكلم منذ اكثر من ستين عاماً ما الذي تغير؟
محمود خضر داود من الياجور قضاء حيفا يتحدث عن سلسلة المجازر التي ارتكبها العدو 1949 في البلدات المحيطة بحيفا قبل دخوله لحيفا وهي باجور والشيخ وحواسا . تلك المدن التي تشكل سلسلة محيطة بحيفا . يقول محمود ان مجزرة العنيزي كانت هي الأبشع وقد جرت بالسلاح الابيض بالسكاكين التي كان يحملها العمال اليهود والذين كانوا قد اعدوا العدة لها في الوقت الذي لم يكن العمال العرب يملكون أي سلاح ولا فكرة لهم عن نية العدو بارتكابه للمجزرة البشعة تلك والتي حصدت مئات العمال، ويتابع محمود كانت تلك المجزرة قبل عام 1948 وبعدها دخلت العصابات الصهيونية الى حواسا وعملت تذبيحاً وتنكيلاً بسكانها . كان دخولها للبلدة من الجبل حيث تجمعات قطعانهم وبحماية من الاحتلال البريطاني وبتغطية منه . يقول محتدا من قال ان البريطانيين لم يسهلوا للعدو ارتكابه لتلك الفظاعات ولم يضعوا بين يديه امكاناتهم العسكرية واللوجستية؟
ويختم بالقول: انا قرفان من الحكي . . انظروا مجازر صبرا وشاتيلا والبلطات التي استعملت فيها انها غيض من فيض لجرائم مستمرة يرتكبها هذا العدو بحق فلسطين ارضاً وشعباً .
أوراقنا الثبوتية جذورنا وهويتنا
قاسم محمد قاسم جاموس من عمقه قضاء عكا فلسطين لا يزال يحتفظ بهويته الفلسطينية القديمة وأوراق الطابو لأرضه ومنزله وبالمفاتيح الخاصة ببوابة بيته الكبير . قاسم تجاوز التسعين من عمره يذكر الكثير عن بلده وعن عمله كموظف احصاءات في مطار عكا منذ 1938 وحتى ،1947 ويؤكد ان مجزرة دير ياسين على بشاعتها لم تكن الوحيدة وانما هنالك مجازر اخرى كثيرة فاقتها بشاعة ارتكبتها عصابات الهاغاناه القادمة من الشومرية والهارباج، وهي مستعمرات صهيونية كانت قرب الناصرة وتحيط بها ومنها كانوا يتناوبون عمليات الذبح والتنكيل في بلدة الشيخ وحواسا، ولطالما اقتحموا تلك البلدات على غفلة من أهلها أو وهم نيام وعملوا ذبحاً وتقطيعاً وتنكيلاً . لم يترددوا في تحطيم الابواب او نسفها للوصول الى اسرة الاطفال وذبحهم على فراشهم، كان الهدف تفريغ فلسطين من اهلها اما قتلاً او تشريداً ولم يترددوا باستعمال ابشع وسائل الارهاب والقتل سواء بالذبح او بالرصاص او نسف البيوت واحراقها وتدميرها، ولم تنج من جرائمهم حتى زرائب الحيوانات ولا اعشاش الطيور ولا حقول الزرع والبساتين . انا مازلت رغم كل تلك السنين احتفظ بأوراقي الثبوتية والتي تشكل لي حصن امان الوذ به كلما اوشكت الغربة تسحق عظامي . تذكرني بطاقة الهوية بجذوري العميقة الضاربة في ارض فلسطين الطيبة وتعيدني الى حضنها الدافئ الذي اشتاقه بجنون . . هي الوجه الاخر للوطن والذي لا يفارقني ابداً والذي سأحمله حتى القبر . ووصيتي لأولادي ألا يضيعوا هذا الوجه الذي يعكس تاريخي وتاريخهم ويحدد ملامح تاريخ ابنائهم ويشكل جسر عبورهم للوطن . . لفلسطين .