"جزء عمَّ" به الآيات الكونية المحسوسة الملموسة وأنَّ بالنظرات الكونية التأملية بصفاء بها ينتقل طالب الوصول للإله العظيم للإتصال بربِّه، حتى إذا عقل عظمتها توصَّل لعقل عظمة مُبدعها، صانعها العظيم، والتفتت نفسه التي خشعت للصنع واستعظمته إلى الخشوع والاستعظام للصانع وتنعَّمت بهذه المشاهدة التي انتقلت من المشاهدة العينية إلى المشاهدة القلبية النفسية، فسرى نوره تعالى وعظمته إلى نفس طالبه مشاهدة نفسية تركع لها النفس وتعود إليها في ركوع كل صلاة من الصلوات الخمس، فتغدو الصلاة والاتصال حقيقياً لا صوريّاً فقط.
عندها تخرُّ النفس على بحور مشاهدات أسماء الله الحسنى مستغرقة به تعالى، حيث تفتَّحت منها عين البصيرة وتنعَّمت بالقرب بمن به الكائنات بأسرها تنال وتتنعَّم، وعادت إلى الوفاء بعد الجفاء والقُرب بعد البُعد، والحب والهيام بالله بعد جفوة الانقطاع، بذا تشتق النفس وتستقي من معين الحضرة الإلهية تغذية لا تميل بعدها إلى الدناءات وتسمو وتتسامى بأنسها بربِّها، وتشرب وترتوي من ربِّها شراب الحياة السرمدية ماءً غدقاً لا تظمأ ولا تموت بعده أبداً، فكل نفسٍ خالدة، ولكن هذه النفس الصادقة خلدت بإيمانها وصلتها وصلاتها بربِّها واستنارتها الوثيقة بنوره تعالى إلى الروح الدائمية المرفقة بالريحان وجنَّات النعيم، فبالوصول بهذه الأصول تكون قد نالت الكمالات الإنسانية، وتنمحي منها صفات السوء والمكر والخداع وتغدو وقد تدثرت بوشاحات الفضائل كلّها وازدانت بسعادة لن تخرج منها وتكسب المعالي وتسمو للإنسانية الحقَّة.
فكل من صدر بالتفكير بهذه الآيات الكونية التي تُشير إليها آيات جزء عمَّ وتحثُّنا عليها ورد شهود الحقائق وغدا عالماً حكيماً، فبها موادُّ مدرسة عظمى بها درس أبونا إبراهيم فصار عظيماً وغدا أبا الأنبياء...
بمواد هذه المدرسة صدر أهل الكهف نُوَّامُهُ، طلبوا الإله الحق، وبهذه المدرسة وصلوا لربِّهم حينما أعملوا تفكيرهم بالصنع المشار إلى آياته بجزء عمَّ، فتوصَّلوا إلى الصانع العظيم، فكشف عنهم لثام العمى واستناروا بربِّهم وشاهدوا عظيم جلاله فأحياهم تعالى نفسياً وجسدياً، نموذجاً كاملاً لمن أراد النجاة والفوز، سموّاً وعلواً فوق الكائنات، ليكونوا عبرة وأنموذجاً كاملاً لكل طموح للمعالي.
وصحابة الرسل الكرام وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم طبَّقوا آيات جزء عمَّ فتوصَّل المهاجرون الكرام إلى درجاتٍ من السمو والعلو وتَبِعَهم الأنصار بتطبيق هذه الآيات المكِّية فثبتوا على الحق حين ارتد العرب بالردة إثر انتقال الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثم ردُّوا الفرس والبيزنطيين إلى فراديس النعيم والسعادة الدنيوية والأبدية.
بآيات جزء عمَّ بحثاً وتحقيقاً وتدقيقاً يصل المرء إلى العلم بلا إله إلا الله بعد تفكيره المتواصل، وهو العلم المطلوب من الله تعالى لهذا الإنسان ليحقِّق إنسانيته على علم بقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ...} سورة محمَّد (19).
ويحصل على الخشية بجناب العظيم جلَّ وعلا "وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله".
وبذا يصبح الإنسان في حال يشهد وجود الإله ويشهد معه أن الله تعالى ناظر رقيب، ومشرف قريب، فيستقيم ولا يتحرَّك إلاَّ بأمر الله. وتستحكم صلته بالله ومحبته به وبرسوله فيغدو من أهله ويسمو لأوج إنسانيته ويحقِّق مراد الله تعالى من خلْقه سموّاً وعلواً متدرِّجاً بمنازل الكمال ومراتب الأنس بالله.
والحمد لله رب العالمين