وأعظم ما يجب أن يتأدب به طالب العلم هو: خشية الله ومعرفة الله، فمن عرف الله عز وجل فقد عرف كل خير، ومن جهل ربه ولم يعرف قدره فمهما حوى من العلم فهو كما ضرب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المثل بعلماء بني إسرائيل كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] علماء بني إسرائيل لم يكن ينقصهم العلم، ولكن كان ينقصهم قول الحق والعمل به كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79] أي لا ينهون أتباعهم عن قولهم الإثم وأكلهم السحت.
كانوا يرون المنكر فيأمرون أول الأمر ثم لا يمنعهم بعد أن يكون أحدهم لفاعل المنكر قعيداً وأكيلاً وجليساً، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ولعنهم على لسان دواد وعيسى بن مريم، نسأل الله العفو والعافية.
مع أنهم علماء لكن أخفوا أحكام الله وغيروا وبدلوا دينه، كما حدث ذلك في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قدم المدينة أن زنى رجل بامرأة، فلما فعلا الفاحشة المحرمة، قالوا: قد جاءنا هذا النبي وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلمون أنه نبي، ويعترفون بذلك فيما بينهم، فلنذهب إليه فإن أفتانا بشيء غير الرجم قبلناه، وإذا سألنا ربنا يوم القيامة قلنا: يا رب! هذا نبيك بعثته وأخذنا بحكمه، وإن لم يفتنا به عدنا إلى ما كنا نعمل. فالمسألة كما هو حال كثير من الناس، وهذه القضية مهمة.
وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما سمع رجلاً يقول في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال -وهو صادق-: هذه في بني إسرائيل -وهذه سوف نذكر قصتها قريباً- قال حذيفة رضي الله عنه: [[نِعْمَ أبناء عم لكم اليهود، ما كان من حلوة فهي لكم، وما كان من مرة فهي لهم ]]، معنى هذا الكلام أننا إذا جئنا وقرأنا كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] قلنا هذه في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإذا قرأنا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] قلنا: نزلت فينا هذه الآية.
وإذا قرأنا قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] قلنا: هذه فينا والحمد لله، وإذا جئنا وقرأنا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قلنا: هذه نزلت في اليهود.
وقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] قلنا: هذه في اليهود، ونحن من أمة محمد، ونحن على خير! وهكذا. فيقول حذيفة : [[نعم أبناء العم، لو كان الأمر كذلك ]] أي كل شيء فيه مدح فهو لنا، وكل شيء فيه ذم فهو على اليهود.
وقد فسر الصحابة والتابعون المغضوب عليهم: باليهود، والضالين: بالنصارى.
وقال ابن عباس وسفيان بن عيينة رضي الله عنهما: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى ]].
هؤلاء اليهود لما غيروا حكم الله، وبدلوا دينه، قالوا: {سلوا محمدا عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه } وكان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد سبق وأنزل الوحي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين له الحكم، وقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [المائدة:43] فالحكم في التوراة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستطيع أن يقول: الحكم الرجم، فارجموهم.
هنا الشاهد؛ حتى يعلم أن هؤلاء علماء ضلالة، وأنهم ما أتوا في أمور أخرى، فلم جاءوا هذه المرة. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تحكمون في هذا أنتم؟
قالوا: نحن نحكم أن يجلد ويحمم وجهه ويطاف به في الأسواق.
قال: هل هذا الحكم في التوراة؟
قالوا: هذا الذي في التوراةُ.
قال: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] فاتفقوا كلهم على حذف هذا الحكم من التوراة فأخذ أحدهم يقرأ -وتعلمون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمي, ولكن الله عز وجل يظهر الحق له دائماً، وكان شاهد بني إسرائيل موجوداً- فوضع القارئ يده على آية الرجم وتجاوزها لأنهم لا يريدون حكم الله ويكرهون ما أنزل في التوراة، لأن فيه فضيحة على العاصي، فلجئوا إلى تبديل حكم الله } .
وهذا ذنب على ذنب، أولها غلط وتبديل لكلام الله، وآخرها تبديل لدين الله، وغمط وجحد لما أنزل الله.
{فقال له عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ارفع يدك! فإذا آية الرجم تظهر فقرأها عبد الله فقال: هذه يا رسول الله، والله تعالى قد أخبر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بهما فرجما.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي حملكم على ذلك؟
قالوا: كنا قد أقمناه زماناً، ثم فشا فينا الزنا وانتشر في أشرافنا } كما قال الله: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:67] إنهم الكبراء والوساطات، فإذا زنا ابن الفلاح, قالوا: ارجموه؛ لكن إذا زنا ابن الأمير أو كبير من الكبراء في بني إسرائيل قالوا: لا، هذا لا يرجم. فاستمروا على هذا يرجمون الضعفاء ولا يرجمون الكبراء، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه } فالذي ليس لديه وساطة، لا في شرطة، ولا في محكمة يقيمون عليه الحد، أما الشريف فلا؛ لأن شرفه وشفاعته تحول بينه وبين الحد فلهذا يتركونه.
ثم اصطلحوا على حكم مناسب للقوي والضعيف، فقالوا: نجعل التحميم والتشهير والجلد؛ فإن كان ضعيفاً تحمم ومشى إلى سبيله، وإن كان من أولاد الكبراء فيصبر على التحميم قليلاً، لكن الكل لا يرجم, وقالوا: هذا حل وسط.
ولكن هل هذا حل وسط حقيقة؟!
كثير من الناس من العلماء وطلاب العلم والقضاة -وكلنا نحتاج أن نفقه هذا الشيء- يحكمون أو يقضون بغير ما أنزل الله ويظنون أن هذا من قبيل الإصلاح إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً [النساء:62] ويقولون: ما قصدنا إلا الخير، ونريد أمراً يرضي الجميع.
لكن لا يجوز ذلك أبداً، ما كان من حكم الله فينفذ، وما كان من صلح لا يحلل حراماً أو يحرم حلالاً فهذا له أبواب أخرى.
المقصود أن هؤلاء الناس الذين كانوا على علم، ولكن كانوا على غير الحق والهدى، وباعوا دينهم وعلمهم من أجل أبناء الأشراف, ومن أجل الزنا الذي انتشر فيهم، وهم من أشراف القوم نسأل الله العفو والعافية.
إذاً من أعظم ما يجب أن يتحلى به العلماء وطلاب العلم هو خشية الله وقول الحق كما قال الله تعالى في أوصافهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
وإذا الأمة ركنت واستكانت، وطالب العلم والداعية لم يقل كلمة الحق، وانتشر المنكر وطغى، وظهر الفساد في البر والبحر، فالأمر كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] ولن يضيع دينه أبداً.
بل يذهب الله بهؤلاء ويأتي بقوم أول صفة من صفاتهم أنهم يحبهم ويحبونه، ومن أحب الله فإنه لا يقدم على مرضاته شيئاً، ومن أحبه الله حفظه وعصمه وأنجاه بإذن الله تعالى، وبعد ذلك فإن قوتهم وشدتهم وغلظتهم تكون على الكفار، أما على المؤمنين فإنهم رحماء فيما بينهم, بل هم أذلة على المؤمنين، ثم إن من صفاتهم أنهم يجاهدون في سبيل الله، وهذا العلم جهاد, بل هو أفضل الجهاد، كما بين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {نشر العلم جهاد }، بل قد جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث بإسناد حسن أنه قال: {إن الشهيد الذي قتل في سبيل الله إذا رأى أجر العالم يوم القيامة يتمنى أنه كان مكانه } فالشهيد الذي هو أعظم الناس أجراً، يتمنى أن يكون عالماً عندما يرى الخير والبركة لهذا العالم، ولطالب العلم الذي كان يعمل بالحق وينشره، ويعلم الناس الحق والخير. مع أن الجهاد باليد هو ذروة سنام الإسلام.
حتى قتال الكفار إن لم يكن على علم وإن لم يكن قادته علماء كما كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله عليه وغيره من العلماء الأفذاذ يقودون المعارك، إن لم يكن كذلك؛ فإنه قد يدخله الخلل وقد يدخله الدخن، لابد أن يكون المجاهد على علم: من يجاهد, ومتى يكون الجهاد، وما هي أحكام الصلح، وما هي أحكام الرق.. إلخ, وكل ذلك نحتاج فيه إلى العلم.
فلا يستطيع أحد أن يستغني عن العلم في حال من الأحوال، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس فقال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] الواجب علينا أن نسألهم، ولا خير في الدنيا بعد ذلك كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً } إن لم تكن عالماً فكن متعلماً، وقليل من الناس من يكونون علماء، وهذا شيء معروف فكن طالب علم {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة } حتى تكون معه وتحشر معه و{المرء يحشر مع من أحب } ويحشر الخليل مع خليله يوم القيامة، ولا نعني بطالب العلم الذي تفقه وتخرج من كلية الشريعة ويخطب الجمعة فقط، مع أن هؤلاء طلاب علم في نظرنا، لكن طالب العلم هو الذي يطلب علم الكتاب والسنة ولو كان في أي مكان.
تعلمون أن بعض الناس يتعلمون ويتفقهون على الإذاعة! وكلكم تتابعون برنامج نور على الدرب، والله إننا نعيش في نعمة لا تقدر والحمد لله على ما فينا، نحن الآن نستطيع أن نطلب العلم ونعمل ونتعلم والحمد لله، وهناك دول قريبة منا على حدودنا لا يستطيع الواحد أن يقرأ كتاباً واحداً، ولا أن يطلب علماً، ولا أن يلتقي بشيخ وهم يتعلمون عبر برنامج نور على الدرب! وبرامج أخرى في الإذاعة يستمعون إليها، ولذلك كم يأتي من العراق ، ومن غيرها, لكي يتفقهون ويتعلمون.
ونحن والحمد لله عندنا كثير من الوسائل، فحلقات العلم يجب أن نحضرها ونحييها، وعندنا أيضاً إذاعة القرآن الكريم ولا نعني التي فيها غناء وموسيقى.
فالوسائل كثيرة، والمهم أن تكون طالب علم وأن تتعلم العلم، وهذا من أعظم الآداب فيه وهو أن تأخذه عن أهله -أهل الذكر- وأن تأتي البيوت من أبوابها وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] وهذه قاعدة عامة في ديننا، والمقصود بها: ليس مجرد إتيان هذا الباب أو ما فسرت به من تفسير، كل ذلك إن شاء الله حق؛ لكن كل شيء يؤتى من بابه، ومن أبواب العلم أن تأخذه عن أهله، وتتأدب بآداب أهله وشروطه.