لا حرمان في الإسلام
- هل الحرام تضييق للحرِّيّة؟
إنّه تضييق الخناق على الفساد والضرر والإستهتار بالقانون، وهو حماية من المضاعفات والآثار الجانبيّة.. إنّه وقاية، والوقاية خيرٌ من العلاج.
إنّنا لو دققنا النظر في قائمة المحرَّمات رأينا أن في قبال كلّ محرم ليس شيئاً محللاً واحداً، بل صفاً من المحللات أو الأشياء الحلال تعوّض عنه وتسدّ الحاجة إليه، فلا يخلق عدم تناول المحرَّم أزمة.
فإذا مُنعت من تناول (لحم الخنزير) فإنّ هناك عدداً من اللحوم الصحية والشهية التي تدخل في تركيب عشرات الأنواع من الأطعمة أو المأكولات، وإذا منعت من اللواط والسحاق والزِّنا فلأنّ هناك الزواج، وإذا مُنعت من (الرِّبا) فلأنّ هناك البيع والتجارة، وإذا منعتُ من المُسكر – خمراً كان أو غير خمر – فلأنّ هناك تشكيلة رائعة من المشروبات والعصائر السائغة الهنيئة اللذيذة.. وهكذا.
فليس في الإسلام حرمان، بل فيه تنظيم وتقنين، وما من حاجة مُنعت على الإنسان إلا ولها قناة تصريف نظيفة ولطيفة وشريفة. فلماذا أترك (الجنّة) بكل سعتها وكلّ أشجارها الطيِّبة وثمارها الغنية، ولا أُفكِّر إلا في (الشجرة الممنوعة)؟! لماذا أترك حرِّيتي في الغرف الـ(39) وأحصر نفسي في الغرفة الأربعين التي كتب عليها (ممنوع الدخول)؟!
إذاً، أنا الذي أبحث عن الضيق في مقابل السعة، وعن الحرمان في قبال الحرِّية، وعن (الخبيث) بإزاء (الطيِّب)، وعن (الممنوع) بإزاء المسموحات الكثيرة جدّاً.
- تعويضات خسائر الحرام:
ولو افترضنا أن امتناعي عن الحرام سيُكبِّدني بعض الخسائر، أو يحرمني من حرِّية التمتُّع بالممنوع، فإنّ المُشرِّع الإسلامي قد تعهّد لي بتعويضات مجزية لا يقاس ثمن وقيمة المحرّم بقيمتها وثمنها، تأمّل معنا في قائمة التعويضات التالية، وهي هنا للمثال لا للحصر:
1- (تعويض الخمر):
وعنه (ص) كما في الرواية: "مَن ترك الخمر لغير الله سقاه من الرحيق المختوم. فقيل له: لغير الله؟! قال: نعم والله، صيانةً لنفسه".
2- (تعويض النظرة المحرِّمة):
رُوِي عن رسول الله (ص) قوله: "ما من مسلم ينظر إلى إمرأة أوّل رمقة ثمّ يغضّ بصره إلا أحدث الله تعالى له عبادة (إيماناً) يجد حلاوته (حلاوتها في قلبه".
وأُثِر عن الإمام الصادق (ع) قوله: "مَن نظر إلى إمرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمّض بصره، لم يرتدْ إليه بصره حتى يزوِّجه الله من الحور العين".
3- (تعويض كظم الغيظ):
وفي الخبر، عنه (ع): "مَن كظم غيضاً ملأ الله جوفه إيماناً".
4- (تعويض الكذب والمراء):
وجاء في الأخبار عنه (ص): "أنا زعيم ببيت في ربض (أطراف) الجنّة، وبيت في وسط الجنّة، وبيت في أعلى الجنّة، لمن ترك المِراء (الجدال) وإن كان محقاً، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً، ولمن حسّن خلقه".
5- (التعويض عن الحرام بصفة عامّة):
ورُوِي عنه (ص): "مَن أعرض من محرّم أبدله الله به عبادة تسرّه".
من ذلك كلّه نفهم، أنّ التعويضات في قبال التحريمات، وهي مقدّمة للزهد بالحرام الذي حتى ولو لم تكن هناك مكافآت أو تعويضات عن الخسائر المحتملة التي يُسبِّبها اجتنابه، فهو – بما ينطوي عليه من ضرر، وما ينتج عنه من جرأة على محرّمهِ وهو الله تعالى – جديرٌ بأن يُترك.
إنّ (مرتكب الحرام) في مفاهيم الشريعة (عاصٍ)، أمّا (مستحلّ الحرام) والذي يجعله حلالاً فهو (كافر)، وبين المعصية في إرتكاب المحرّمات، وبين الكفر بإستحلالها، هناك مساحة من حرِّية.
فعلماء النفس يتحدّثون عن أنّ أفعال الإنسان تتراوح بين (المُنبِّه) وبين (الإستجابة)، ولا يشذّ أو يندّ أو يخرج فعل من أفعاله عن ذلك ويرون أنّ حرِّية الإنسان تكمن في المسافة الفاصلة بين (المُنبِّه) وبين (الإستجابة)، فإذا عرضَ لك محرّم ورفضتهُ اتسعت تلك المسافة، وإذا ترددت ضاقت، وإذا أقبلت وتعاطيت ضاقت حتى تصل في بعض الأحيان إلى درجة الصفر، ويمكن لنا أن نُوضِّح ذلك من خلال الرسم البياني التالي:
(المنبِّه) ___ (الحرِّية)____ (الإستجابة)
إنّ أقوياء الإرادة هم الذين نجحوا في توسعة مساحة الحرِّية بـ(الرفض) و(الممانعة) و(الصبر) و(الصوم)، فلم يأسرهم المحرَّم على الرغم من الكثير من الأضواء الباهرة المسلّطة عليه، والدعايات المروّجة له، والإعلانات المغرية التي تُحبِّبه وتُحبِّذه وتُزيِّنه وتُحسِّنه، وطابور الآخذين به المتعاطين له.
إنّ مَن ترك (الحرام) أصابه بـ(الحلال).. تلك قاعدة مجرّبة، ولك أن تُجرِّبها أنت أيضاً، وإذا سألتنا: أين هذا في كتاب الله؟ أجبناك: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ...) (الطلاق/ 2-3).