ضوابط ومقاصد الإنفاق في الإسلام
* حوار: سلوى النجار مع الدكتور كامل القيسي
الأصل أن يسد الإنسان حاجاته بنعم الله، مادامت تلك النعم قد أباحها الله تعالى أو أمر بها كثرت أو قلت، وليس في ذلك محظور، مادامت الضوابط الشرعية تتحكم فيها. إلا أنّ المطلوب في إستخدام هذه الإباحة في الإستهلاك وسد الحاجة هو القصد والإعتدال. فإذا تجاوز الحدود الشرعية كان ذلك إسرافاً، وقد ينمو ويكبر فيكون تبذيراً، وقد يتعدى الأمر إلى البطر فيتحول إلى الترف المهلك، ولذلك تدخل الإسلام في تحديد مستوى الإنفاق ورسم له سبيلاً سوياً وطريقاً سليماً.
قال الله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ...) (البقرة/ 143). ودور المسلم هو تطبيق منهج الله تعالى في الوسطية، التي تعتبر إحدى السمات المميزة لهذه الأُمّة. وفي سياق منهج الوسطية يأتي الإنفاق والإستهلاك، حتى لا ينحرف الإنسان فيقع في مزالق البخل أو الترف، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67). وفي بيان معالم هذا المنهاج وضوابطه ومقاصده كان هذا اللقاء مع الدكتور كامل صكر القيسي، الباحث في إدارة الإفتاء والبحوث في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي.
ويشير في بداية حديثه إلى أنّ الله تعالى أحل للإنسان التمتع بالنعم والطيبات من الرزق، فقال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32)، وقال الرسول (ص): "إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، أي أنّ الله تعالى يحب أن يتنعم عبده بنعمه ويتمتع بالطيبات من الرزق.
لكن الإسلام يدعو إلى تحري منهج وسطي في الإنفاق والإستهلاك، ويمنع الجنوح إلى كل من التقتير والإسراف، يقول تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29). وقد نهى الله عزّوجل عن الإسراف فقال: (... وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام/ 141). كما آخى بين الشيطان والمبذرين، فقال تعالى: (... وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27).
ويدخل "التقتير" في البخل، أمّا الإسراف فهو مجاوزة الحد أو القصد أو الإعتدال، أو ما أُنفق في غير طاعة. وقد عرَّفه بعض الفقهاء بأنّه تجاوز الحد في النفقة، أو أكل ما لا يحل، أو الأكل فوق الشبع، أو تجاوز المباح إلى المحظور. الإسراف إذن هو الإنفاق في حرام ولو قل، أو الإنفاق في مباح، إذا زاد على الحد. والتبذير: أشد من الإسراف، فهو المغالاة في تجاوز الحد، والتوسع في الإنفاق على المحرمات والمعاصي والشهوات.
- الحاجة إلى الترشيد:
يوضح الدكتور صكر المعنى الحرفي لـ"ترشيد الإستهلاك" مبيناً أن كلمة ترشيد وأصلها "رشد" أي الإستقامة على طريق الخير مع تصلب فيه، وضدها البغي. ورشد الرجل إذا أصاب وجه الأمر والصواب. أمّا الإستهلاك فيعني النفاد والإنفاق وبذل الجهد والبيع. وإصطلاحاً هو الإستخدام المباشر للسلع والخدمات التي تشبع رغبات الإنسان وحاجاته. وترشيد الإستهلاك يعني الإستخدام الأمثل للمال وسد الحاجات والتوازن والإعتدال في الإنفاق والإستقامة في تحقيق مصلحة الإنسان وعدم البغي أو الشطط في البذل، والإستقامة على الحق، والهداية إلى طريق الرشد والخير والصلاح.
وهكذا فإنّ الدعوة إلى ترشيد الإستهلاك لا يقصد بها الحرمان من التمتع بملذات الدنيا، إنما يقصد بها العمل على تربية النفس حتى يتمكن المسلم من القيام بدوره في النهوض بواجبه الإستخلافي الأرض، وفقاً لقول الله عزّوجلّ: (وما خلقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إلاَّ ليَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56). كما يقصد منها الدعوة إلى التوسط وعدم الإسراف في الإستفادة من نعم الله عزّوجلّ.
لذا فإنّ الدعوة إلى ترشيد الإستهلاك إنّما ترتبط بحسن عبادة المؤمن لربه، وتفعيل دوره في حماية الأرض والبيئة وتأمين الحياة السليمة للأجيال التي تأتي بعده. ذلك أنّ العبادة بمعناها الشامل لا تقتصر فقط على أداء الشعائر الدينية فقط، بل تشمل أيضاً كافة السلوكيات الإيجابية في التعامل مع مكونات البيئة الطبيعية والمشيدة، أمر الله سبحانه وتعالى عباده بها بقوله: (... وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
- ضوابط الإنفاق والإستهلاك:
وضع الإسلام حدوداً وضوابط للإستهلاك تقوم على مفهوم متوازن يجمع بين الإعتدال والترشيد ويعتمد على إستخدام المقدار المناسب دون إسراف ولا تقتير. ومن ناحية أخرى حرصت الشريعة الإسلامية على الحفاظ على المال وحسن إستغلاله، قال رسول الله (ص): "إنّ الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". ولذلك فإن تحصيل المال برفق، وإستثماره بحكمة وروية، سبيل إلى إصلاحه والحفاظ عليه.
وإذا كان الرفق في تحصيل المال والتوازن في طلبه يمنع ضياعه، فإنّ التوازن في إستهلاكه وإنفاقه يحافظ عليه ويسهم في جمع الثروة وعدم ضياع الإنتاج، حيث لا قيمة للإنتاج إن لم يكن إستهلاك متوازن يحميه.
ولتحقيق هذا الغرض جعل الإسلام الإستهلاك المتوازن وترشيد الإنفاق وسيلة للتنمية وديمومة الإنتاج، ومن ثمّ عدَّ الإسراف والتبذير أمرين مفسدين لكل شروط إصلاح المال، ونقيضين لتنمية المال، أو جمع الثروة، قال تعالى: (... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31). وقال عزّوجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29). كما قال رسول الله (ص): "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف".
- أولويات الإنفاق:
بيَّن الإسلام سبل تحقيق مفهوم التوازن في الإنفاق من خلال إستخدام ما يمكن أن نطلق عليه سلم الأولويات، حيث يبدأ الإنسان بسد حاجات نفسه أوّلاً، ثمّ أهله، ثمّ أقربائه، ثمّ المحتاجين. قال رسول الله (ص): "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا". يقول: "بين يديك وعن يمينك وعن شمالك".
كما يتضمن سلم أولويات الإنفاق قيام المستهلك بتلبية الضرورات أوّلاً، ثمّ الحاجات ثمّ الكماليات، وهذه هي رتب المصالح عند علماء الأصول. والضرورات هي ما يترتب على فواتها ضرر لا يطاق كالمأكل والمشرب والمسكن. والحاجات هي ما ترفع الحرج عن الناس وتدفع المشقة، والكماليات هي ما يتجوز الحاجات إلى ما من شأنه رغد العيش والرفاهية، بغير سرف ولا ترف ولا تبذير، كالمأكل الطيب والملبس الناعم والمسكن الواسع. قال (ص): "من سعادة المرء المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء".
هذا ويتحدد مستوى الإستهلاك والإنفاق على النفس والعيال والمحتاجين بالقدرة المالية للشخص، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. كما لا يجوز أن يشمل الذهب للرجال، أو آنية الذهب والفضة، أو الخمر أو لحم الخنزير.