سواد الذكرى الثالثة والستين لمذبحة دير ياسين يلف المدينة المقدسة
تكتسي مدينة القدس المحتلة اليوم بسواد الذكرى الثالثة والستين لمذبحة "دير ياسين"، إحدى قراها الثلاثين المدمرة على يد الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948، ما أسفر عن استشهاد 300 فلسطيني وإقامة مستوطنة "جيفات شاؤول" على أنقاضها.
وقد اختبرت قرية "دير ياسين"، الواقعة إلى الغرب من القدس المحتلة، نكبتها مسبقاً بأقل من شهر تقريباً، حينما شهدت أراضيها في التاسع من نيسان (ابريل) أبشع جرائم الاحتلال من أعمال الإرهاب والتنكيل والذبح، بينما حضن باطنها جثث شهداء المقاومة، ممن طمر غالبيتهم لمواراة مجازر العصابات الصهيونية عن الأنظار.
فيما تمتد المستعمرة الإسرائيلية اليوم، بقلق المحتل، على مساحة تقترب من 3000 دونم، جرى مصادرتها بعد نكبة فلسطين، وتدمير قرية دير ياسين وإبادة سكانها، المقدرين آنذاك بنحو 600 نسمة، وتشريد البقية منهم.
ويمتد استلاب الأرض الفلسطينية إلى القرى المقدسية المحيطة بدير ياسين، مثل عين كارم ولفتا وقالونية، التي تم تدميرها في العام 1948 والاستيلاء على مساحات أراضيها موئلاً للمستعمرات الصهيونية.
وتشكل مجازر الاحتلال المرتكبة بحق القرى الفلسطينية، إحدى الوسائل التي انتهجتها المنظمات الصهيونية المسلحة من أجل السيطرة على الأوضاع في فلسطين تمهيداً لإقامة "الكيان المحتل"، فكان الهجوم وعمليات الذبح والإعلان عن المذبحة جزءاً من نمط صهيوني عام يهدف إلى تفريغ فلسطين من سكانها عن طريق الإبادة والطرد.
ففي فجر التاسع من نيسان (ابريل)، اقتحمت منظمتان عسكريتان صهيونيتان هما الأرجون (برئاسة مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي فيما بعد) وشتيرن (برئاسة إسحق شامير الذي خلف بيغن في رئاسة الوزارة)، القرية من كافة الجهات، ما عدا الطريق الغربي لها، وحاصروها وأهلها نائمون.
ولكن المقاومة الفلسطينية تصدت لهم، فاستعانت قوات الاحتلال بدعم عسكري إضافي لمواجهة صمود أهل القرية، وذلك من خلال قوات البالماخ الصهيونية في أحد المعسكرات بالقرب من القدس المحتلة حيث قامت من جانبها بقصف القرية بمدافع الهاون لتسهيل مهمة المهاجمين.
وقررت قوات الاحتلال استخدام الأسلوب الوحيد الذي تعرفه وهو الديناميت، حيث استولوا على القرية عن طريق تفجيرها بيتاً بيتاً، وبعد أن انتهت المتفجرات لديها قامت "بتنظيف" المكان من آخر عناصر المقاومة عن طريق القنابل والمدافع الرشاشة، حيث كانت "تطلق النيران على كل ما يتحرك داخل المنزل من رجال ونساء وشيوخ وأطفال"، وفق شهادات الناجين.
وفيما بعد، أوقفت العشرات من أهل القرية إلى الجدران وأطلقت النار عليهم، واستمرت أعمال القتل على مدى يومين، بينما قامت القوات الصهيونية بعمليات تشويه نازية من تعذيب واعتداء وبتر أعضاء وذبح الحوامل.
كما ألقت بحوالي 53 من الأطفال الأحياء وراء سور المدينة القديمة، واقتادت 25 من الرجال الأحياء في حافلات ليطوفوا بهم داخل القدس طواف النصر، على غرار الجيوش الرومانية القديمة، ثم تم إعدامهم رمياً بالرصاص، وألقيت الجثث في بئر القرية وأغلق بابها بإحكام لإخفاء معالم الجريمة.
ومنعت المنظمات العسكرية الصهيونية مبعوث الصليب الأحمر آنذاك جاك دي رينيه من دخول القرية لأيام، بينما قام أفراد الهاجاناه الذين احتلوا القرية بجمع جثث أخرى وفجروها لتضليل مندوبي الهيئات الدولية، وللإيحاء بأن الضحايا لقوا حتفهم خلال صدامات مسلحة.
وقد حاولت القيادات الصهيونية الأخرى التنصل من مسؤليتها عن وقوع المذبحة، وقامت الدعاية الصهيونية على أساس أنها "مجرد استثناء وليست القاعدة وأنها تمت دون أي تدخل من جانب القيادات الصهيونية بل ضد رغبتها"، حسب قول قائد قوات الهاجاناه في القدس المحتلة آنذاك ديفيد شالتيل.
ولكن اعترافات ارتكاب المذبحة جاءت من داخل عقر الكيان المحتل نفسه، حيث اعتبر بيغن في كتاب الثورة، أن جنود الاحتلال "صنعوا التاريخ في إسرائيل نتيجة الانتصار العظيم"، وأن "مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي"، حيث شكل "الاستيلاء على دير ياسين جزءاً من خطة أكبر للاستيلاء على القدس"، بينما تمت "العملية بعلم وموافقة القيادة الصهيونية".
وإبان ثلاثة أيام من المذبحة تم تسليم القرية للهاجاناه لاستخدامها مطاراً، ومن ثم جرى الاحتفال بإقامة مستوطنة "جيفات شاؤول" على أنقاضها، وسميت شوارعها بأسماء مقاتلي الأرجون الذين نفذوا الجريمة، ما يثبت أن مذبحة دير ياسين وغيرها من جرائم الاحتلال لم تكن مجرد حوادث فردية أو استثنائية، بل كانت جزءاً من نمط ثابت ومتواتر ومتصل، يعكس هدف تفريغ فلسطين من سكانها وإحلال المستوطنين محلهم وتثبيت دعائم الكيان المحتل وفرض واقع جديد في فلسطين المحتلة.
وأعقبت قوات الاحتلال جريمتها بأخرى بعد أيام قليلة فقط، حينما فتحت نيران أسلحتها على أهالي قرية ناصر الدين المدمرة في 14 نيسان (ابريل) 1948 ولم ينجُ منهم سوى 40 عربياً استطاعوا الفرار إلى القرية المجاورة.