بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
من أروع ماقيل في حب الأوطان..
قال امرؤ القيس بن عمرو الكندي
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
(حيث ذكر سقط اللوى، والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة) وهي مواقع لها أهمية لارتباطها بمحبوبته.
وها هو طرفة بن العبد البكري يذكر مكان محبوبته ويسمى (برقة ثهمد):
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وأحب زهير بن أبي سلمى محبوبته، ومواطنها (حومانة الدراج، والمتثلم، والرقمتان) حيث قال:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتثلم
ودار لها بالرقمتين كأنها
مراجيع وشم في نواشر معصم
وكذلك بقية شعراء المعلقات اشتاقوا قديماً إلى أوطانهم واشتد حنينهم إلى منازل الصبا، ومواطن الأهل، وقد يحب الإنسان وطنه مع عدم توفر ما يسعى إليه. قال الشاعر:
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها
ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
بل إن حب المكان يحول ترابه إلى مسك وكافور، وأشجاره ذات الأعواد الجافة إلى رند
وهو نبت طيب الرائحة:
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه
من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية
تمشت وجرت في جوانبه بردا
حيث خلد هذا الحب وادي الجزع، وخلد الشعراء القدماء حب الدياروتحديدها بالجبال والاودية، والسهوب، وتشرب ذلك الحب ابناؤهم، واصبحت الاجيال تردد ذلك الشعر، وتعلم موطن الشاعر بجباله واوديته التي عاش فيها وخلدها شعره فهذا الشاعر «عائذ بن محصن» ولقبه المثقب العبدي رصد خمسة مواطن في بيتين من الشعر:
لمن ظعن تطالع من ضبيب
فما خرجت من الوادي لحين
مررن على شراف فذات رجل
ونكبن الذرائح باليمين
حيث ذكر الشاعر من الاماكن «ضبيب» و«الوادي» و«شراف» و«ذات رجل» و«الذرائح» وهي مواقع لها اهمية لدى الشاعر، لارتباط ذلك برحيل حبيبته «فاطمة» ومطالبته اياها ان تمتعه قبل رحيلها بالحديث والنظر والتحية قبل ان يحول البعد بينه وبينها او كما خاطبها في بداية قصيدته قائلاً:
افاطم قبل بينك متعيني
ومنعك ما سئلت كأن تبيني
فلا تعدي مواعد كاذبات
تمر بها رياح الصيف دوني
قال الشاعر:
لقرب الدار في الاقتار خير
من العيش الموسع في اغتراب
قيل لاعرابي: اتشتاق الى وطنك؟
قال: كيف لا اشتاق الى رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها!
وكنا الفناها ولم تك مألفاً
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
كما تؤلف الأرض لم يطب بها
هواءً ولا ماءً ولكنها وطن
وهاهو ابن الرومي وقد عصف به الشوق الى وطنه فكيف يفرط به او يبيعه او يتنكر له:
ولي وطن آليت الا ابيعه
والا ارى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم اصبحوا في ظلالكا
وحبب اوطان الرجال اليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
اذا ذكروا اوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقدالفته النفس حتى كأنه
لها جسد ان بان غودر هالكا
وما ذاك الا ان الوطن جزء غال من الشخص ومسرح احداث حياته بمراحلها المختلفة وحياة اجداده وعبر عن ذلك ابن الرومي ايضاً في تشوقه الى بغداد، وقد طال مقامه بسر من رأى:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه اغصان الشباب تميد
ولان ذكر الديار يهيج العواطف الكامنة، فقد جعله العرب من مهيجات قول الشعر عندهم، حيث وقف الجاهليون على اطلاق الاحبة. ذكر ذلك ابن قتيبة في سبب وصف الاطلال والوقوف عليها:
وركز الشعراء على مواطن محددة او مدن معينة وذلك كالشعر الذي ورد في الحجاز او مكة المكرمة، او المدينة المنورة، وبعض الاودية والجبال، وهذا النوع من الشعر اكثر من ان يحصر، وقد تتفاوت درجة الحب من موقع الى آخر، ولكن اكثرهم حباً وارتباطاً بالإنسان الموقع الذي ولد فيه، قال ابو تمام:نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
أما نجد فلها شأن آخر في الحب، لا يتسع المقام لذكره، حيث أنها موطن لجميع شعراء العربية حتى الذي لم يتمتع بالحياة فيها. قال أعرابي:
أقول لصاحبي والعيس تهوي
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد
وريا روضة غب القطار
وقال آخر حيث أن وطنه وطن محبوبته سواء كانت في تهامة أو في نجد:
لله أشواقي إذا نزحت
دار بنا، وطواكمو البعد
إن تتهمي فتهامة وطني
أو تنجدي، يكن الهوى نجد
وتخرج كلمات خير الدين الزركلي من أعماق قلبه حباً لوطنه، ولعل قصيدته التي تم اختيار بعض أبياتها تعتبر من أجمل ما قرأت في حب الوطن:
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكنا ألفت ولا سكنا
ريانة بالدمع، أقلقها
ألا تحس كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحة
حسناً، وباتت لا ترى حسنا
والقلب لولا أنة صعدت
أنكرته وشككت فيه أنا
ليت الذين أحبهم علموا
وهم هنالك ما لقيت هنا
ما كنت أحسبني مفارقهم
حتى تفارق روحي البدنا
أما أمير الشعراء أحمد شوقي.. فقد أكثر في حب الوطن وأصبحت قصائده في الوطن، وبعض أبياتها شواهد يتمثل بها كل محب لوطنه ومن أشعاره:
لا تلوموها، أليست حرة
وهوى الأوطان للأحرار دين؟
وقال أيضاً:
في هوى الأوطان مقدرة
لذوي الأخلاق والفطن
أنت في فقر إذا افتقرت
وإذا استغنت فأنت غني
وإذا عزت عززت بها
وإذا هانت فرح فهن
إن إنساناً تقابله
ليس إنساناً بلا وطن
وقال أيضاً:
ويا وطني لقيتك بعد يأس
كأني قد لقيت بك الشبابا
وقال في غربته تشوقاً إلى وطنه:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني
شخصه - ساعة - ولم يخل حسي
وقال أيضاً:
إنما الشرق منزل لم يفرّق
أهله، إن تفرقت أصقاعه
وطن واحد على الشمس والفص
حى، وفي الدمع والجراح اجتماعه
وقال أيضاً:
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
وقال أيضاً:
وطني أسفت عليك في عيد الملا
وبكيت من وجد ومن إشفاق
لا عيد لي حتى أراك بأمة
شماء راوية من الأخلاق
وللوطن حقوق يذكرها الشاعر حافظ إبراهيم:
رجال الغد المأمول إن بلادكم
تناشدكم بالله أن تتذكروا
عليكم حقوق للبلاد أجلها
تعهد روض العلم، فالروض مقفر
قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم
يداً تبتني مجداً ورأساً يفكر
فكونوا رجالاً عاملين أعزة
وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا
وكم ردد الشباب ما قاله مصطفى صادق الرافعي:
بلادي هواها في لساني وفي دمي
يمجدها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خير فيمن لا يحب بلاده
ولا في حليف الحب إن لم يتيّم
وعبّر شعراء المهجر على بعدهم عن شدة الشوق والجوى للوطن حيث قال جورج صيدح:
وطني طيفك ضيفي في الكرى
كلما أطبقت جفنيّ رقد
يتجنى فإذا ملت إلى
ضمه أعرض عني وابتعد
أترى طيف بلادي مثلها
كلما رق له القلب استبد
وها هو الشاعر نزار قباني يبرز حبه للوطن ضمن قصيدة بدأها:
أتراها تحبني ميسون
أم توهم، والنساء ظنون
كم رسول أرسلته لأبيها
ذبحته تحت النقاب العيون
ثم يقول:
ما وقوفي على الديار وقلبي
كجبيني قد طرزته الغضون
هل مرايا دمشق تعرف وجهي
من جديد، أم غيرتني السنين
هل هي الشام بعد فرقة دهر
أنهر سبعة، وحور عين
النوافير في البيوت كلام
والعناقيد سكر مطحون
ويطلب من الوطن أن يحتضنه:
احتضني ولا تناقش جنوني
ذروة العقل، يا حبيبي، الجنون
أهي مجنونة بشوقي إليها
هذه الشام أم أنا المجنون
ويخاطبه قائلاً:
وطني يا قصيدة النار والورد
تغنت بما صنعت القرون
إلى أن يقول:
اعذريني إذا بدوت حزيناً
إن وجه المحب وجه حزين
وقال محمود درويش:
وأبي قال مرة:
(الذي ماله وطن
ماله في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر)
وطوف الشاعر القروي بلاد الله ولكنه عاد لوطنه ليموت فيه:
بنت العروبة هيئي كفني
أنا عائد لأموت في وطني
أأجود من خلف البحار له
بالروح ثم أضن بالبدن!
منقول