عندما يشيخ الحكام
.. وأنت تصغي إلى الحاكم العربي، هذه الأيام، تتذكر فيلما سينمائياً قديماً ورواية حديثة الصدور تقريباً. لم تعد تذكر عنوان الفيلم، لكنك تتذكر زمن مشاهدته تقريباً. كنت تقيم وحيداً في مدينة (بامبرغ) الألمانية، وكان عليك أحياناً أن تتعلم اللغة من الأفلام، أيضاً، وهكذا وجدت نفسك تقلب محطات التلفاز، فراق المنظر لك، وهكذا تابعت الفيلم. كانت المرأة مولعة بالرجل، وبدا عاشقين أفضل ما يكون العاشقان، ثم اختلف الأمر، فقد حل محل العاشق القديم عاشق جديد أقوى وأكثر نحولة، وراق للمرأة، وهكذا تخلت عن عاشقها القديم. هل كان الفيلم مستوحى من الأساطير الرومانية القديمة؟ (ربما تذكرت "حرافيش" نجيب محفوظ و"قبضاي الحارة". يظل القبضاي زعيم الحارة، حتى يهزمه قبضاي جديد، وهكذا يغدو القبضاي القديم مهملاً وحيداً، ويتجمع من كانوا رجاله حول القبضاي الجديد. قبل سنوات عرض التلفاز حلقات من "حرافيش" محفوظ مثلها نور الشريف).
وأنت تصغي إلى الحاكم العربي، هذه الأيام، تتذكر فيلماً سينمائياً قديماً ورواية حديثة الصدور تقريباً. صدرت الرواية في طبعتها الأولى في العام 2005، ولم تلفت الأنظار على مستوى الوطن العربي. أغلب الظن أنها ظلت معروفة في الأردن، وربما قرأها قراء عرب أهداهم المؤلف بعض نسخها، ولكنها، حين رشحت في العام 2010 لجائزة "البوكر"، أعيدت طباعتها وصدرت منها غير طبعة، وهي مرشحة، مثل الروايات الست لجائزة "البوكر" للترجمة. ومؤلفها هو الكاتب الروائي الأردني/ الفلسطيني جمال ناجي وستقرأ الرواية التي تحكي قصة امرأة من شرق العاصمة الأردنية عمان لا توفق في زواجها، فتطلب الطلاق وتناله، وفي هذه الأثناء، أثناء إجراء معاملات الطلاق، يوقعها جارها المتزوج بحباله ويتزوج منها. كان هي امرأة فوارة نارية، وكان زوجها يقترب من بدايات الخمسينيات، وكان خيره، في البداية، فيه، ولكنه سرعان ما أخد يضعف جنسياً، ولم تجد معه محاولات رجوعه، إلى صباه بالقوة على الباه. لقد شاخ. كان ذئباً وشاخ، وبقيت النعجة نعجة في أوج شبابها. (تتذكر (بامبرغ). تتذكر فولتا. تتذكر استدعاءها لك كي تساعدها في قراءة نصوص أدبية و.. . لم تكن هناك يوسفاً، ولكنك لم تعان ذات نهار من عقدة أوديب. تتذكر قصتك: لماذا كنت يوسف؟ من قال إني كنت يوسف؟ تتذكر هذا، ولكن الذئاب، الذئاب كلها ستشيخ يوماً). وتحاول سندس/ بطلة عندما تشيخ الذئاب مع الشيخ، تحاول مع ابن زوجها، ثم تنشد الطلاق من زوجها وتناله باحثة عن ذئب لم يشخ؛ ذئب ما زال فتياً. (تتذكر ثانية "حرافيش" نجيب محفوظ. تتذكر نور الشريف في دور "عاشور". تتذكر رجال الحارة الذين يقفون مع الحيط الواقف حتى ينهار).
وأنت تصغي إلى الحاكم العربي، هذه الأيام، تتذكر الفيلم الذي نسيت اسمه والرواية التي قرأتها العام المنصرم، وتكرر: عندما تشيخ الذئاب.. عندما تشيخ الذئاب والرواية كلها إجابة للسؤال المنبثق من العنوان بعد قراءته: ماذا يحدث عندما تشيخ الذئاب؟
قدم بن علي الرئيس التونسي المخلوع، وهو يلحظ أنه غدا ذئباً في مرحلة الشيخوخة، قدم عروضاً لأبناء شعبه يعدهم فيها بالإصلاحات التي ينشدون. لم يتوعدهم، فما عاد قادراً، ولهذا أخذ يعدهم، ولكن أنّى له ذلك والثورة ثورة شباب؛ شباب مثل سندس في رواية جمال ناجي، شباب مندفعون ما عادت وعود الشيوخ ترضيهم. وهكذا أقصى الشباب الشيخ ناشدين غيره، مثل بطلة الفيلم.
ومثل بن علي حسني مبارك. كان في الثانية والثمانين، وقام، مثل بن علي، بمحاولات عديدة ليبدو شاباً: صبغ شعر رأسه، وشد جلد وجهه، و.. وربما تناول أقراص "الفياجرا"، ثم سرعان ما أذعن وأعلن أنه لن يترشح ثانية للرئاسة. كان مطلبه أن يستمر في الحكم حتى نهاية فترة رئاسته، ولكن أنّى له ذلك؟ كلما قدم تنازلاً تقدم الشباب بمطالب جديدة، وكان لهم ما أرادوا، ولم يكن له ما أراد، وذهبت عروضه أدراج الرياح، فالشباب، مثل سندس في رواية جمال ناجي "عندما تشيخ الذئاب"، لا يريدون شيوخاً هرمين، ذئاباً افتقدت إلى الحكمة، ظانة أنها بملياراتها تشتري الشباب. (تتذكر إحدى مسرحيات توفيق الحكيم: خذ مالي كله وهات لي الشباب، ولكن أنّى يتم هذا. تتذكر مجلة "القاهرة" في ثمانينيات ق20. كانت تصل المجلة إلى فلسطين، ولم تكن تقاطعها بسبب اتفاقات "كامب ديفيد" فهي متنفس في زمن الحصار. تتذكر قصصاً قصيرة طريفة نشرتها المجلة لكاتب غربي فحوى إحداها أن رجلاً ثرياً شيخاً يشتري بعض سنوات من الشباب بمبالغ من المال. يتفق الثري مع الشاب على أن يبيعه من عمره عاماً بالتمام والكمال. يموت الشاب عاماً وحين تنتهي المدة يصحو ويذهب إلى بيته، فيجد الثري مع زوجته ـ زوجة الشاب ـ في الفراش).
ومثل بن علي ومبارك، القذافي. شاخ الثائر المقاتل القادم من خيمة بدوية، لكنه ما زال يظن أنه شاب وثائر ومقاتل وبدوي، ولم تنجح معه محاولات التجميل. بذل المال وقدم عروضاً وأعطى الأمر وهدد وتوعد، وما زال يتكلم بلهجته القديمة. ما الذي سيلم به؟ إما الكراسي وإما المآسي. إما المآسي حاكماً، وإما المآسي بعيداً عن كرسي الحكم، وكل ما بُني في السنوات الأربعين غدا رماداً. (تتذكر نيرون روما. تتذكر أدولف هتلر. هل ستتكرر الحكاية؟ أنا الدولة والدولة أنا).
هل يختلف حال الرئيس اليمني ومثله غيره؟
وأنت تتابع ما يجري في اليمن، وأنت تصغي إلى خطابات الرئيس صالح يتحدث عن عروضه المستمرة ورفض المعارضة المستمر لها تحزن لحاله. كان لا بد له من أن يشاهد الفيلم. كان لا بد له من أن يقرأ رواية "عندما تشيخ الذئاب"، فلعله يتعظ منهما، ومما آل إليه بن علي ومبارك و.. و.. لعله.
الخبر وتداعياته: أنت ومالك للحاكم
صباح الجمعة أتناول الجريدة الملقاة على بسطة مدخل الدار. أُمعن النظر في عنوان لافت: "قضايا فساد بدأت تلاحق نتنياهو". وسأقره من ألِفِهِ إلى يائِه، وسأتساءل: ترى ماذا سيقول قسم منا عن دولة أبناء عمومتنا؟ وربما تذكروا ايهود اولمرت، ربما فما زالت ذاكرتنا بكراً، إن لم تكن الأحداث في العالم العربي أنهكتها. أما رئيس الدولة (موشيه كتساف) وما ألمّ به، فأظن أن أخباره على كل لسان: رئيس فاسد، مراهق، مثل الرؤساء العرب، أيضاً، ولا أحد أحسن من أحد. لم يخلعه شعبه. سجنه القانون، فكان مثل مواطن عادي.
ترى ماذا سيقول قسم منا عن دولة أبناء عمومتنا المصونة والمصونين، أيضاً؟ هل سنمدح الدولة ونمدحهم كعادتنا؟ لا ننسى أبداً ما ألمّ برابين العام 1977، بسبب سلوك زوجته (ليئا). نعم لا ننسى أبداً. بضع آلاف من الدولارات هزّت الدولة وأسقطت "حزب العمل" مؤسسها. لقد اضطررنا أن نمدح الدولة التي شردتنا. ترى لو كنا نحاكم حكامنا العرب بتهم الفساد، ترى هل كانوا ظلوا على سدة الحكم ثلاثة وعشرين عاماً، تسعة وعشرين عاماً، ثلاثة وثلاثين عاماً، اثنين وأربعين عاماً؟
الحاكم الوحيد الذي تترحّم عليه الجماهير العربية، لأنه مات دون أن يترك ثروة، هو المرحوم جمال عبد الناصر. ثروة مبارك أربعون ملياراً. ثروة بن علي وأسرته مليارات عديدة. ثروة القذافي مائة وثلاثون ملياراً. لم أحفظ رقم ثروة صالح.
ترى لو نظرنا إلى المؤسسة التي نعمل فيها. ألا نجد فساداً؟ رشوة. محاباة. تطبيق ألف قانون وقانون. محمد يرث ومحمد لا يرث؟
الحاكم العربي مثل أبي. كان أبي ـ رحمه الله ـ يقول لي: "أنت ومالك لأبيك". والحاكم العربي يقول لشعبه: أنت ومالك لأبيك. وبما أن الحاكم العربي هو الأب، فشعبه كله أسرة واحدة، فالمال له. حقاً لماذا نستغرب حين نصغي إلى الأرقام الفلكية عن ثروة هذا الحاكم أو ذاك؟ حقاً لماذا نستغرب ألسنا وأموالنا لأبينا؟.