تربية العقل بين الإيمان وتحديات العصر
خلق الله الإنسان قبضةً من طين ونفخةً من روحه، وهذا الروح الإلهي الذي دخل في تكوين الإنسان كان عقلاً؛ عقلاً يتحرك ليجعل الإنسان خليفته في الأرض، وليحرّك العقل ليعقلنها في كلّ عناصر الحياة، في عملية نموّ وإبداع وحركة. أن تكون الحياة عقلاً ينفذ إلى العمق إلى كل ما في الحياة من عمق، من أجل أن يكتشف أسرارها بالعلم.
نحن نعرف أن الله سبحانه وتعالى قال للعقل أقبل إليّ، انفتح عليّ، اصعد إلى سمواتي، انفتح على آفاقي، لأعطيك كل ما في مواقع القدرة عندي ومواقع الرحمة لديّ، أقبل إليَّ لأعطيك الطهر والنقاء والصفاء، حتى تتجه إلى الأعماق لتكتشف الحقيقة. وتوجه العقل إلى ربِّه فأقبل، ليستوحي من ربِّه كلَّ ما يغني عناصره في اكتشاف الكون، ليعرف كيف يدير الكون ويعقلنه.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(فصلت/53). وهكذا، أقبل العقل إلى ربِّه ليتعرَّف أولاً ربَّه، ليتعرف سر الوجود عندما يتعرف سرَّ الربوبية والألوهية. وهكذا ينطلق العقل من المعرفة بالله تعالى، لتمتدَّ إلى معرفة كل ما خلقه الله تعالى، وكل ما أبدعه، "ثم قال له أدبر فأدبر"، امشِ أمامي وتحرَّك، لأعرف كيف تتوازن خطواتك في خط مسؤوليتك. ثم قال له، وقد أعطى الله تعالى معنى العقل للعقل: "ما خلقت خلقاً أعزَّ عليّ منك"، فالعقل هو سر كل عظمة الخلق، هو القيمة التي تعطي للإنسان قيمته، فالإنسان عقل قبل أن يكون جسداً، بل إن هذا النوع من التواصل بين العقل والجسد، استطاع أن يعقلن الجسد، حتى الأنبياء والأولياء، عظمتهم أن عقولهم قد أخذت أساليب الكمال، فكان الرسول عقلاً وقيمته هي عقلانيته.
وقد ورد عندنا: "أنَّ الرسول عقلٌ من خارج، والعقل رسولٌ من داخل"، هذا النوع من التزاوج بين العقل والرسول، يجعل الرسالة عقلاً. وبذلك، فإن الرسالة لا يمكن أن تلتقي بالخرافة، ولا يمكن أن تلتقي بالتخلّف، أو تلتقي بالجهل، بل إنَّ الرسالة تحتضن العقل وتختزنه من أجل أن تغيِّر العالم على صورتها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال/24)، وقالها الله: «إياك آمر وإياك أنهى، وبك أثيب وبك أُعاقب». عندما يقوم الناس لربِّ العالمين، يقف العقل، وتتحرك كل العقول أمام الله تعالى لتقدم حساباتها بين يديه تعالى، بأنه هل استطاع العقل أن يعقلن مسيرته، أم أنَّه أعطى مسيرته خطاً لا يلتقي بحسابات الفكر، على طريقة لهم قلوب لا يعقلون بها؟!
"وبك أثيب وبك أعاقب". إن الله تعالى يعطي القيمة للإنسان من خلال حجم عقله وحركية عقله، ونحن نعرف أن الله تعالى عندما ينظر إلى الإنسان ينظر إلى عقله، لأنه يريد للإنسان أن يُعقلن مسؤوليته وعاطفته وغريزته، لأن المادة التي تعيش في داخل الغريزة، قد تقتل الإنسان عندما تنحرف غريزته عن مسارها العقلاني الطبيعي لتهلك واقعه.
لذلك، لا بد من أن نعطي الغريزة جرعةً من العقل، لنوظِّفها في طبيعة حاجة الحياة إلى الغريزة في استمراريتها وحيويتها، ولكن مع التوازن في حركتها وواقعها، كذلك، لا بد من أن نعطي العاطفة جرعة من العقل، لتتوازن وتتأصَّل، لأنّ الإنسان قد يجمح في عاطفته، فيحب من دون حساب، ويبغض من دون حساب.
ولذلك، يأتي العقل ليخاطب في الإنسان أساس العاطفة، ما هي العناصر التي تجعله يحب الآخر أو يحب الشيء؟ ما هي العناصر المادية؟ ما هي العناصر الروحية؟ ما هي الأسس التي يرتكز عليها حبُّه؟ لأنّ الحبَّ لا بد من أن يكون مفتوح العينين، ولا يجوز أن يكون أعمى، لأنّ العمى في الحبِّ يجعل الإنسان يتخبَّط ويسقط في كل المهاوي، ويجعل حبه حباً فوضوياً غير متوازن. وهكذا عندما يبغض، لا بد من أن يعرف العناصر التي تبرّر له هذا البغض، حتى لا يكون الحب حالة انفعال والبغض حالة انفعال، بل ليكون الحب _ أيّ حب _ منطلقاً من حبه لله تعالى، ومن حبه لرسل الله، ومن خلال هذا الحبّ ينطلق حبه للناس من حوله، وحبه للحياة ولما يلتذ به ويحلو له، حتى يكون حبه منطلقاً من دراسة، بحيث يقترب من معادلة 1+1=2، لا الحب كيفما كان، ولا الحب من خلال نظرة طارئة أو من خلال لذة آنيّة، لأنّ اللذة تزول، والنظرة تختفي.
وهكذا أيها الأحبة، نحن في حاجة إلى نعقلن كل شيء عندنا؛ أن نعقلن الفكر حتى لا ينطلق من السطح، بل من العمق، وحتى لا يختلط بالخرافة، كما أدخلها البعض في الفكر والدين، وحسبوها فكراً وديناً، فعاش العالم المتخلّف هذا الخلط، وقدّس الخرافة باسم الدين.
إنّ علينا أن نعقلن وعينا للدين، وتصوّرنا له، من خلال الفهم العقلاني الثقافي المتوازن، الذي يجعلنا نفهم الدين بجذوره العقلية والفكرية. نحن لا نعتبر الإيمان فوق العقل كما يعتبره بعض أتباع الديانات، بل إن العقل هو الذي ينتج الإيمان، ولا عمق لإيمان لا يرتكز على العقل. نحن نؤمن بالله تعالى لأن العقل قادنا إلى وجوده، وقادنا إلى توحيده... فنحن وحَّدناه، لأنّ عقلنا اكتشف توحيده، ونحن عبدناه، لأن عقلنا اكتشف عبوديتنا له وطاعتنا له.
وهكذا أيها الأحبة، لا بدّ لنا من أن نعقلن الحياة الاجتماعية، حتى لا تسقط في خطِّ العصبية العمياء، بل لتتحرّك على أساس نظم وخطوط وقواعد، تجعل من المجتمع جسماً واحداً، ينطلق كلُّ أفراده لتحقيق الأهداف الكبرى للمعنى الاجتماعي في المجتمع الذي يؤكِّد قضاياه الكبرى، كما يؤكِّد للأفراد قضاياهم الحيوية.
ولا بدّ من أن نعقلن السياسة، حتّى لا تكون انفعالاً وحالةً طارئة وعاطفة، بل لتكون خطة تدرس كل حاجات الإنسان وأهدافه ووسائله، بطريقة عقلانية تحسب حساب القوة والضعف، والربح والخسارة، والبداية والنهاية.
ولذلك، فإنّ عقلنة السياسة تفرض أن لا يستقلّ بالسياسة أفراد ينطلقون من خلال ذاتية فكرهم، ليتبعهم الناس تصفيقاً وتهليلاً وتكبيراً واتّباعاً أعمى. إنَّ عقلنة السياسة تعني أن يكون لكل شخص ممن تتصل حياته بالسياسة، فكرٌ سياسيّ وخطّ سياسيّ، وأن يتعرَّف مواقع السياسة عندما يرتبط الداخل بالخارج، وعندما تندمج القضايا الإقليمية بالقضايا الدولية، وعندما تتحرك مصالح المستضعفين في مواقع مصالح المستكبرين. أن لا تكون السياسة تقليداً، بل تكون إنتاجاً وإبداعاً. أن لا نتحرك لأنّ الآخرين يريدون لنا أن نتحرك، بل لأننا نحن نريد ذلك، ولأنّ الآخرين الذين ربما يملكون موقعاً في مركز القيادة، لا بُدَّ لهم من أن يتكاملوا معنا.
أن يكون هناك اندماج بين القاعدة والقمة. ولعل مشكلة السياسة في العالم الثالث، أو في العالم العربي والإسلامي، أنها سياسة انفعالية، عاطفية واتّباعية، تصفيق وحركة دون معرفة للبداية والنهاية.
ولهذا، لا سياسة في عالمنا العربي والإسلاميّ إلاّ القليل، وما لدينا هو شعارات وهتافات، وعبودية الشخص والحزب والحركة والمنظمة، هؤلاء الذين لا يسمحون للقاعدة أن تعترض وتناقش وتفهم، لأن القضية أننا أدمنّا السّير من دون أن نفهم، لأنّ الشعب إذا فهم، فإنه يسبّب مشكلة للآخرين.
أيها الأحبة، لا بد لنا أيضاً من أن نعقلن المستقبل، من خلال دراسة المتغيرات التي يسير بها العالم في سرعة قياسيّة، ولا بدّ من مواكبة هذه المتغيّرات ورصد المستقبل، من خلال كل هذه الهزات الثقافية والاجتماعية والسياسية والأمنية، لنعرف كيف نصنع المستقبل بتخطيط عقلي وموضوعي، وحتى لا نقع بما وقع فيه الآخرون، عندما تصوّروا أنّ العالم جامد وثابت. فالعالم متغيّر وعلينا مواجهة كل التحديات فيه، سواء كانت ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، لنعرف كيف نرتفع إلى مستوى هذه التحديات، حتى نعرف كيف نواجهها، وكيف نخفف من أخطارها، أو لنتعايش معها في بعض المراحل.
وعلى ضوء هذا، لا يجوز لأية جهة أو قيادة، مرجعيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة، أن تبقى على الحياد، في عالم يسقط الحياديين، لأنّ العالم، سواء كان عالماً خيّراً أوً شريراً، هو عالم الموقف، أما الذين لا موقف لهم، فإنهم يخرجون من العالم حتى لو كانوا قياديّين، لأنّ من لا يشارك العالم في كل تطوراته وتحدياته وأوضاعه، يخرج منه ويكون ميتاً بين الأحياء.
إن علينا أن نشارك في كل حركة العالم، سلباً أو إيجاباً، لأننا إذا كنا أصحاب قضية أو أصحاب دعوة، فلا بد لنا من أن نحرك هذه القضية في مفاصل العالم، وأن نطلق هذه الدعوة في كل عقول العالم، حتى إذا أغلقوا علينا باباً من هنا، نحاول أن نفتحه من هناك. لا يكفي أن نأكل فتات موائد الآخرين، بل يجب أن نصنع موائدنا؛ أن نطبخ، أن ننضج، أن نزرع، أن نصنع، أن نستعمل كل طاقاتنا لنصنع العنفوان في مستقبلنا، حتى لا نعيش اللامبالاة والغياب، كما قال ذاك الشاعر:
ما مضى فات والمؤمَّلُ غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها
ما مضى فات، ولكن لا بدّ من أن نأخذ منه الدرس والعبرة، والمؤمَّل غيب لا بد من أن نكتشف ما فيه مما هو في داخله، مما يفتح لنا الله تعالى بعض جوانبه. أما الساعة التي نحن فيها، فعلينا أن لا نهملها، بل أن نجعلها ساعة محملةً بكل عناصر القوة التي يمكن أن تصنع المستقبل، ولا نقول كما قال ذلك الشاعر:
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
نبني ونعلي البناء، ولكنّنا نتقدم عليهم في ذلك، لأنّ الحياة هي حالة تطوّر، إنّ العقلانية تتحدَّى كل إنسان في وجوده ليعقلن وجوده، وليعقلن ساحته، وليعقلن حركته في الانفتاح على الله تعالى، ليعرف كيف يتحرك في معنى انفتاحه على الله تعالى، وعلى الناس وعلى الحياة، لنحوِّل العالم إلى عقل.
لقد قال بعضهم إنّ العالم ليس عقلاً، وكأنه ينتقد ما في العالم من حركة، ونحن نقول، إذا أردنا عالماً ينطلق من أجل الحالة التصاعدية، فعلينا أن نجعل العالم عقلاً، أن نسلِّط العقل عل كل خرافاتنا ليمحوها، أن نسلط العقل على كل تقاليدنا وعاداتنا ليصحّحها، أن نسلّط العقل على كل ثقافاتنا لينميها وليؤصلها، أن نسلّط العقل على كل واقعنا من أجل أن يخطط له في الخط المستقيم.
إن ساعة العقل يمكن أن تهيّىء لك مستقبلاً كبيراً في مستوى القوّة وفي مستوى العنفوان، وقد ورد عندنا حول مسألة التفكير الذي هو نتيجة العقل: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة"، لأن هذه الساعة تضيء لك معنى عبادتك ومعنى إيمانك ومعنى حياتك.
أيها الأخوة والأخوات، عليكم وأنتم تتحركون في مواقع التخطيط للتّربية، أن تنمّوا عقولكم بالفكر والتأمّل والتجربة المستمرة والممارسة، وأن تدرسوا كلَّ خطوة لتتعرفوا إيجابياتها وسلبيّاتها. إنّكم الآن تعملون على أن تعطوا الجيل الجديد علماً وتربية، ولكن مع ذلك، وقبل ذلك، حاولوا أن توجِّهوا الجيل الجديد إلى أن يفكر، لا أن توجهوه إلى أن يقلّد.
إنّني أدعوكم إلى تربية أولادنا منذ البداية على التّفكير النّاقد. علموا أجيالكم كيف ينتجون الفكر، كيف يعتمدون على أنفسهم، كيف ينمّون عقولهم، ليتعلم الآباء والأمّهات أن لا يقمعوا الأبناء ليمنعوهم من التفكير، وليمنعوهم من الحوار معهم والمناقشة، حتى ننشئ جيلاً يملك الاستقلال في عقله، وفكره، ويخطط لمستقبله.
إنها المسؤولية الكبيرة؛ أن نصنع إنساناً في عقله وعاطفته وحركته في الحياة. تلك هي المسألة، وتلك هي المسؤولية غداً أمام الله تعالى الذي يسألنا كيف صنعنا هذا الإنسان الغض الطري الذي قد يكون في المستقبل قائداً أو مصلحاً أو طاغية أو ما إلى ذلك؟ لذلك فلنبدأ المسؤولية.