الكاتب المسرحي : فخري مياس
عضو الهيئة الأردنية للثقافة الإنسانية
بيسان : وبعد كل هذا أقدم اعتذاري
بيسان ذاكرتي وتاريخ ميلادي : لقد حان وقت الاعتراف, وآن الأوان الذي لم أحسب حسابه , لقد كبرت أكثر مما كنت أتصور, وبدأت تفرقين بين الحقائق والأكاذيب, وجاء الوقت الذي لا بد فيه من الاعتراف بأن كل قصص وحكايا ما قبل النوم كانت مجرد أكاذيب واستعراض عضلات وتبرير مخالفات وتزوير معلومات , فأنا لم أكن أسطورة سلسلة من القصص والحكايا التي كنت ارويها كل ليلة وكان بطلها الشاطر فخري , وأن كل الأشرار وقرى العمالقة وجموع الغيلان التي انتصرت عليها بمفردي ليست سوى أكاذيب من وحي الخيال, فأنا لم أنقذ القرية من الطوفان , ولا أنا الذي أنقذ الأميرة من شرور السجان, أنا لست الأمير الشجاع ولا الأمير المسحور بين الجدران ولا الأمير الذي انتشل الأطفال من القهر والحرمان, أنا لست بطل طروادة, ولا المنتصر في موقعة الجان, ولا أنا الحكيم في المدينة ولا أنا البحار الذي هزم الألف قرصان, أنا يا ابنتي لم أرد غزاة الفضاء إلى كواكبهم خائبين, ولم أملك يوماً خريطة الكنز ولا مفتاح المغارة, وليس لدي تفويض بقيادة جيش يتجه لفتح خراسان, ولست أنا صاحب مقولة ( البحر من خلفكم والعدو من أمامكم ) ولا أنا المستشار المقرب من السلطان, ولا أنا الوزير الأمين الرافض لحقيبة بيت المال , أنا يا ابنتي لم اكتشف قانون الجاذبية ولا كمية السائل المُزاح ولا أنا أول من صنع طاحونة تديرها عقارب الرياح ولا أنا أول من وصل إلى الفضاء, ولا أنا الخارق الذي تتناقل عنه الألسن قصص البطولة والكفاح.
بيسان الروح التي نشترك معاً : هذه الأكاذيب ربما أجد لها تبريراً فهي لا تعدو أكاذيب استدرجتكِ فيها إلى عالم النوم, وتزوير للتاريخ واعتداء على قصص وحقوق تأليف ليس إلا, ولكن الأكاذيب التي ترددت كثيراً في البوح بها ,وخشيت أن لا تغفريها لي أعظم وأكبر بلاءاً, ولكن ما العمل ؟ والأيام القادمة ستكشفها ولو بعد حين, وأولها أن الشاورما يا ابنتي ليست طعام الشياطين وليس ملعون آكلها إلى يوم الدين , وأن التفاح والموز والعنب ليست طعام الكفرة والمرتدين, وأن الأحذية الجديدة لا تصيب الأقدام بالداء اللعين, وأن مدن الملاهي ليست مكاناً لا يرتاده إلا المجانين, وأن الألعاب الجديدة ليست مخالفة للأعراف والقوانين, وليست أصناماً يقتنيها الآثمين, وأن الخبيزة ليست معشوقة الملايين, وأن الخروج عن جادة الزيت والزعتر ليست نهاية محتومة إلى النار وخروج عن الصراط المستقيم., وأن الثياب الجديدة لا تُقوس الظهر ولا تشل الأقدام ولا تشوه اليدين, وأن اللحوم ليست سبباً لكل بلاء ولاهي سبب البلاهة والغباء , وأن المدفأة يا بنيتي لم تكن يوماً سبباً في انحباس المطر, والمروحة ليست المسئولة عن مآسي البشر., والحقائب الجديدة ليست شُبهة أو خطر, والمصروف الذي يحمله الطلبة إلى مدارسهم ليس سبباً في تشتت الانتباه والفشل وانحراف النظر .
لقد كذبت وكذبت, ولكنني لم أكذب إلا صاغراً تحت وطأة الفقر اللعين, الفقر الذي جعلني امتهن المديح للرؤساء والوزراء والمدراء وأصحاب المعالي والسادة الأمناء وأصحاب النفوذ والثراء , الفقر الذي جعلني أصور السم للعالم دواء, والسير للأمام عودة للوراء, والنجاح صنيع مؤامرة في الخفاء , الفقر الذي جعلني استبيح كل محذور وأمرغ وجهي كاذباً بتراب القبور, الفقر الذي جعلني غادراً يمسح على رأس المغدور, وفاجراً يلعن الفجور, وقاتلاً مأجوراً وبأبخس الأجور .
هذه يا بيسان اعترافاتي قبل أن تعرفيها, وهذه ذنوبي وما تحويها , وهذا اعتذاري وهذه أعذاري,أتوسل أن تقبليها , وأدعو الله عز وجل أن لا أجد نفسي مضطراً بعد زمن لاعتذار آخر.
[center]