هذا
هو الدور الثالث من الأدوار التي مرت بها السنة وعلوم الحديث ، ويمتد من
القرن الثالث الهجري إلى منتصف القرن الرابع ، والقرن الثالث هو عصر
التدوين وهو عصر السنة الذهبي الذي دونت فيه السنة وعلومها تدوينًا كاملاً .
ففي
مطلع هذا القرن ارتأى العلماء إفراد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
بالتصنيف ، فابتكروا لذلك (المسانيد) التي جمعوا فيها الحديث النبوي مرتبًا
بحسب أسماء الصحابة ، فأحاديث أبي بكررضي الله عنه مثلاً تجمع كلها في مكان واحد ، تحت عنوان مسند أبي بكروكذا أحاديث عمر وهكذا .
ثم جاء البخاري فرأى
إفراد الحديث الصحيح وأن يرتب على الأبواب لتسهيل الوصول إليه والفقه فيه ،
فوضع كتابه الجامع الصحيح ، وجاء بقية الستة فوضعوا كتبهم على الأبواب ،
وراعوا حسن الاختيار ، وإن كان أصحاب السنن لم يشترطوا الصحة ، وهكذا كان
لمدرسة البخاري الفضل العظيم على السنة بما صنفت في رواية الحديث وفي علوم الحديث ، ثم تبع الشيخين في اشتراط الصحة ابن خزيمة(311هـ) ، ثم ابن حبان(354هـ) .
وفي
هذا العصر أصبح كل نوع من أنواع الحديث علمًا خاصًا ، مثل علم الحديث
الصحيح ، وعلم المرسل ، وعلم الأسماء والكنى ، وهكذا ، فأفرد العلماء كل
نوع منها بتأليف خاص .
وكتب يحيى بن معين(234هـ) في تاريخ الرجال ، ومحمد بن سعد(230هـ) في الطبقات ، وأحمد بن حنبل (241هـ) في " العلل ومعرفة الرجال ".. والناسخ والمنسوخ ، ونبغ في التأليف والكتابة الإمام العلَم علي بن عبد الله المديني(234هـ) ، شيخ البخاري
، فقد ألف في فنون كثيرة جدًا ، حتى بلغت مؤلفاته المائتين ، وكان له
السبق في تصنيف كثير منها ، حتى قيل : إنه ما من فن من فنون الحديث إلا ألف
فيه كتابًا .
وأصبح
التصنيف أمرًا متبعًا لا ينفك عنه إمام في الحديث ، والأئمة أصحاب الكتب
الستة كلهم لهم تآليف كثيرة في علوم الحديث ، وكذلك فعل غيرهم وكانت
تآليفهم تحمل اسم العلم الذي دونت فيه ، حتى شمل التدوين كل نوع من أنواع
علوم الحديث ، وجُعِل في كتاب مفرد ، وصار يقال لهذه العلوم المتفرقة (علوم
الحديث ) .
واستوفى
العلماء المتون والأسانيد دراسة وبحثًا ، واشتهرت الاصطلاحات الحديثية لكل
نوع من أنواع الحديث واستقرت بين العلماء ، كما يلاحظ ذلك من كتاب الترمذيوغيره .
لكن
لم يوجد في هذا الدور أبحاث تضم قواعد هذه العلوم ، وتذكر ضوابط تلك
الاصطلاحات ، اعتمادًا منهم على حفظهم لها وإحاطتهم بها ، سوى تأليف صغير
هو كتاب " العلل الصغير " للإمام الترمذي(279هـ)
فإنه وإن جعله مؤلفه خاتمة لكتاب الجامع ، فقد أفرده بالتحديث ، وحمله عنه
العلماء جزءًا مستقلاً ، لما اشتمل عليه من الفوائد ، وهو كتاب جامع
لمهمات من المسائل في الجرح والتعديل ، ومراتب الرواة ، وآداب التحمل
والأداء ، والرواية بالمعنى ، والحديث المرسل . وتعريف الحديث الحسن ،
وتعريف الحديث الغريب وشرح هذا التعريف .
المرجع:
منهج النقد في علوم الحديث د . نور الدين عتر بتصرف