عن زيد بن خالد الجهني
رضي الله عنه قال : صلَّى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة
الصبح بالحديبية على إِثْر سماء كانت من الليلة ، فلما انصرف أقبل على
الناس فقال : ( هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله
ورسوله أعلم ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأمَّا من قال :
مُطِرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال :
مُطِرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ) .
تخريج الحديث
رواه البخاري و مسلم .
معاني المفردات
صلَّى لنا : أي صلَّى بنا .
الحديبية : اسم موضع قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم ، سمي باسم بئر كانت هناك ، وقيل باسم شجرة حدْباء .
على إثر سماء : عقب نزول مطر .
فلما انصرف : أي من صلاته .
نوء : مفرد أنواء وهي منازل القمر أو الكواكب والنجوم .
من أمور الجاهلية
جعل الله للقمر منازل مقدَّرة ، فقال سبحانه : {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } (يس 39)،
وهذه المنازل منها ينزل فيها خلال السنة كلها وهي ثمانية وعشرون منزلة ،
فينزل في كل ثلاث عشرة ليلة - تقريبا- منزلة منها ، فإذا نزل منزلة من هذه
المنازل سقط نجم في المغرب وطلع ما يقابله في المشرق علامة على تلك المنزلة
، وهذا السقوط والطلوع هو ما أطلق عليه الحديث اسم " الأنواء " ، ولا يزال
مستمراً على ذلك طوال أيام العام حتى تنتهي المنازل الثمانية والعشرون
بانتهاء السنة .
وكانت
العرب في الجاهلية إذا نزل مطر نسبوا نزوله إلى هذه الأنواء والمنازل ،
والنجوم والكواكب ، فيقولون مُطِرنا بنوء كذا وكذا ، فجاء الإسلام وأبطل
هذا المعتقد وجعله من الكفر بالله جل وعلا ، وأمر أن تُنْسب هذه النعمة إلى
مسديها وموليها وهو الله عز وجل ، فهذا المطر إنما أُنزِل بفضل الله
ورحمته ، وليس بسبب سقوط النجم الفلاني أو طلوع النجم الفلاني .
وهذا
المعتقد وإن كان من أمر الجاهلية إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أخبرنا بأنه سيقع في هذه الأمة ، وسيوجد في الناس من ينسب السقيا ومجيء
المطر إلى النجوم والأنواء ، وهو ما خافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على
أمته ، مما يوجب الخوف والحذر وتوقي الشرك وذرائعه التي تفضي إليه .
ففي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ...... ) ، وفي حديث آخر عند الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس : النياحة ، والطعن في
الأحساب ، والعدوى أجرب بعير مائة بعير ، من أجرب البعير الأول ؟ والأنواء
مطرنا بنوء كذا وكذا ) رواه الترمذي .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أخاف على أمتي ثلاثاً : استسقاء بالنجوم ، وحيف السلطان ، وتكذيباً بالقدر ) رواه أحمد وصححه الألباني .
حكم النسبة
أُطْلِق في الحديث لفظ الكفر على من نسب المطر إلى النجوم والأنواء ، وذلك في قوله : ( وأما من قال : مُطرْنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب )
، والحكم بذلك يختلف بحسب قصد القائل واعتقاده ، فإن كان يعتقد أن النجوم
هي الفاعلة والمنزلة للمطر من دون الله عز وجل ، أو دعاها من دون الله
طلباً للسقيا ، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملَّة ، والأول شرك في
الربوبية والثاني شرك في العبادة والألوهية .
وإن
كان يعتقد ويقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله عز وجل ، ولكنه جعل هذه
الأنواء سبباً في نزوله ، فهذا من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من
الملَّة ، ومن كفر النعمة وعدم شكرها .
وإن
كان القائل يريد بهذه النسبة الوقت فيكون قوله : " مُطِرنا بنوء كذا وكذا "
بمعنى " جاءنا المطر في وقت هذا النوء " فهذا جائز وليس من باب الكفر ،
إلا أن الأولى تجنب الألفاظ الموهمة والمحتملة للمعاني الفاسدة ، ولذا قال الشافعي رحمه الله : " من قال مُطِرْنا بنوء كذا على معنى مُطِرْنا في وقت كذا فلا يكون كفراً ، وغيره من الكلام أحب إليَّ منه " .
وبذلك
يُعلم خطأ ما يذكر في بعض كتب التوقيت من قولهم : " وقلَّ أن يُخلَف نوؤه "
، أو " هذا نوؤه صادق " ، فهذا مما لا يجوز ، وهو الذي أنكره الله عز وجل
على عباده ، وجاء مصرَّحا به في رواية ابن عباس للحديث عند مسلم : ( أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا : قال : فنزلت هذه الآية :{قلا أقسم بمواقع النجوم }(الواقعة 75)، ...... حتى بلغ :[size=12]{وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون }(الواقعة 82)[/size]) رواه مسلم .
حماية جناب التوحيد
وفي
منع الشارع من إطلاق هذه الألفاظ معنى عظيم ، وهو حماية جناب التوحيد ،
وسد كل الطرق والذرائع التي تؤدي إلى الشرك ، ولو بالعبارات الموهمة التي
قد لا يقصدها الإنسان ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي
قال له : ما شاء الله وشئت ، ( أجعلتني لله ندَّاً ، بل ما شاء الله وحده ) رواه أحمد وغيره .
وفيه
أيضاً التنبيه على ما هو أولى بالنهي والمنع ، فإذا كان الشارع قد مَنع من
نسبة المطر والسقيا إلى الأنواء ، مع عدم اعتقاد صاحبها بأنها الفاعلة
والمؤثرة في نزول المطر ، فكيف لا يَمنع من دعاء الأموات ، والتوجه إليهم
في الملمات ، وسؤالهم والاستغاثة بهم ، ونحو ذلك من الأمور التي لا يقدر
عليها إلا الله سبحانه ، مع اعتقاد أصحابها أن لهم تأثيراً وقدرة على أنواع
التصرفات ، لا شك أن ذلك أولى وأجدر بالمنع ، لأنه من الشرك الأكبر الذي
لا يغفره الله .
فتبين
بهذا الحديث مواقف الناس من النعم ، وأنهم ينقسمون عند نزولها إلى مؤمن
بها وكافر ، وأن الواجب على العبد أن لا يضيف نعم الله إلى غيره ، بل
يضيفها إلى واهبها ومسديها الذي أنعم بها عليه بفضله ورحمته .