على الرغم من
وضوح المنهج الذي سلكه المحدثون لحفظ السنة وضمان صيانتها عن العبث
والتحريف ، والافتراء والدس ، فقد وُجد من شكك في سلامة هذا المنهج ونزاهته
من خلال بعض الشبهات التي أثيرت حول منهج النقد عند المحدثين ، بدأً من
التشكيك في الإسناد وجدواه وأهميته والادعاء زوراً وبهتاناً بأنه منهج عقيم
لم يثمر إلا الخلاف والفرقة، وبالتالي فليس له أثر يذكر في حفظ الحديث
وصيانته ، وانتهاءً بالادعاء بأن المحدثين عولوا في نقدهم للأحاديث على
الأسانيد فقط ، مغفلين تماماً النظر إلى المتون والألفاط ، وبالتالي انصبت
جهودهم في هذا المجال على الجانب الشكلي السطحي أو ما أطلقوا عليه النقد
الخارجي ويعنون به نقد السند ، على حين غفلوا أو تغافلوا عن المضمون
والمقصود أصالة من الحديث ، وهو ما أطلقوا عليه النقد الداخلي ، ويعنون به
نقد المتون والألفاظ ، الأمر الذي نتج عنه تصحيح كثير من المتون التي حقها
النقد والرد بسبب هذا المنهج الذي اعتمده المحدثون .
وقد ردد هذه
الشبهة عدد من المستشرقين منهم "شاخت " الذي يقول : " ومن المهم أن نلاحظ
أنهم أخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه " .
ويقول "
جولد زيهر " : " في النقد الإسلامي للسنة تهيمن النزعة الشكلية في القاعدة
التي انطلق منها هذا العلم ، والعوامل الشكلية هي بصورة خاصة العوامل
الحاسمة للحكم على استقامة وأصالة الحديث ، أو كما يقول المسلمون : على صحة
الحديث ، وتختبر الأحاديث بحسب شكلها الخارجي فقط " .
ويقول "
كاتياني " : " كل قصد المحدثين ينحصر ويتركز في وادٍ جدب ممحل من سرد
الأشخاص الذين نقلوا المروي ، ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه "
.
ويقول " غاستون ويت " : " وقد درس رجال الحديث السنة بإتقان ، إلا أن
تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال ، والتقائهم ، وسماع
بعضهم من بعض " ثم قال: " لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول مشافهة ثم
جَمَعَهُ الحُفَّاظ ودوَّنُوه إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن ، لذلك لسنا
متأكدين من أن الحديث قد وصلنا كما هو عن رسول الله ، من غير أن يضيف إليه
الرواة شيئا عن حسن نية في أثناء روايتهم الحديث" .
ومع الأسف
الشديد ، أن هذه الشبه التي أثارها المستشرقون حول منهج النقد عند المحدثين
، وبنوا عليها دراساتهم وأبحاثهم ، قد وَلِع بها بعض المستغربين من أبناء
المسلمين ، حيث وجدت لها آذناً صاغية تلقفتها وروجت لها ، من غير وعي أو
تمحيص بل ربما تحت ستار المنهج العلمي والبحث الموضوعي ، وما هي إلا صدىً
لما ردده من قبلهم من المستشرقين.
يقول " أحمد أمين " في كتابه (
فجر الإسلام ) : " وقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها
، ولكنهم - والحق يقال - عنوا بنقد الإسناد أكثر مما عنوا بنقد المتن " ،
ثم فصل هذا بقوله : " فقلَّ أن تظفر منهم بنقد من ناحية أن ما نسب إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتفق والظروف التاريخية ، أو أن الحوادث
التاريخية تناقضه ، أو أن عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي ، يخالف
المألوف من تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أن الحديث أشبه في شروطه
وقيوده بمتون الفقه وهكذا .." .
ويقول في ( ضحى الإسلام ) : " وفي الحق أن المحدثين عنوا عناية تامة بالنقد الخارجي ، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي " .
ويقول " محمود أبو رية : " والمحدثون لا يعنون بغلط المتون ، ويقولون متى صح السند صح المتن " .
ويقول
" أحمد عبد المنعم البهي " : " إن رجال الحديث كان كل همهم منصرفاً إلى
تصحيح السند والرواية دون الاهتمام بتمحيص متن الحديث نفسه الذي هو النص " .
مع
أنه من المعلوم الواضح لدى كل من له أدنى معرفة وإلمام بهذا العلم ، أن
المحدثين لم يألوا جهداً في نقد المتون والكشف عنها كما فعلوا تماماً في
الأسانيد ، فعندما عرَّفوا الحديث الصحيح اشترطوا لصحته خلوه من الشذوذ ،
وسلامته من العلة القادحة ، وبينوا أن الشذوذ والعلة تقدحان في المتن كما
تقدحان في الإسناد ، ومن ثم قرروا قاعدتهم المعروفة وهي أنه لا يلزم من
صحة الإسناد صحة المتن ، فقد يصح إسناد حديث مَّا ، مع أن في متنه علة
قادحة تقدح في صحته ، أو يكون هذا المتن شاذاً مخالفاً لما روي عن الثقات
الأثبات ، مما يؤكد على أنهم لم يُغْفِلوا متن الحديث وهم يبحثون شروط
الأحاديث المحتج بها.
ثم إن ما أطلقوا عليه اسم النقد الداخلي -
الذي يعنون به النظر في المتون - كان سابقاً في عهده على النقد الخارجي ،
فقد استعمل الصحابة رضي الله عنهم هذا المقياس في فحص الأحاديث ، دون
الوقوف عند الإسناد ، لما عُلم من عدالتهم وصدقهم ، وذلك أن السؤال عن
الإسناد والإلزام به ، بدأ في مرحلة متأخرة عقب الفتنة التي بدأت بمقتل عثمان
رضي الله عنه ، وأما النظر في متن الحديث فقد استعمل قبل ذلك من قِبَل
الصحابة رضي الله عنهم ، من خلال عرض بعض الروايات على ما تقرر عندهم من
الأصول والقواعد ، ومحكمات الكتاب والسنة ، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك
ما ثبت في صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه سمع حديث فاطمة بنت قيس وأن زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكنى ولا نفقة فقال عمر
لا نترك كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري
لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة ، قال الله عز وجل : { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } ( الطلاق:1) ، ومثله ما أخرجه الشيخان أن عائشة رضي الله عنها سمعت حديث عمر وابنه عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) فقالت : رحم الله عمر
والله ما حدَّث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله يعذب المؤمنين
ببكاء أحد ، ولكن قال : إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ،
وقالت حسبكم القرآن : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ( فاطر 18) ، زاد مسلم : " إنكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطيء " .
وليس
الغرض من إيراد هذه الأمثلة بيان صواب هذا الاجتهاد أو ذاك ، فقد يخالفه
غيره من الصحابة في هذا الاجتهاد ، وقد يكون هناك وجه للجمع خفي عليه فقضى
برد الحديث ، إلى غير ذلك من الأسباب ، ولكن الغرض بيان أن مقياس نقد
المتون وعرضها على المحكمات والأصول الثابتة قد وجد مبكراً منذ عهد الصحابة
حتى قبل دراسة الأسانيد .
ثم يقال كذلك : إن النقد الخارجي
للأحاديث أي نقد الأسانيد الذي وصفوه بأنه شكلي - يتصل اتصالاً وثيقاً
بالنقد الداخلي أو نقد المتون ، وذلك لأن توثيق الراوي لا يثبت بمجرد
عدالته وصدقه وديانته ، بل لا بد من اختبار ضبطه أيضاً ، ولا يكون ذلك إلا
بعرض مروياته على روايات الثقات الآخرين ، قال ابن الصلاح
: " يعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين
بالضبط والإتقان ، فإن وجدنا رواياته موافقة لهم ولو من حيث المعنى ، أو
موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبتاً ، وإن
وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحْتَجَّ بحديثه " ،
وبناء على ذلك نشأت علوم جديدة كلها ناتجة عن مقابلة المتن المروي مع
الأحاديث الأخرى ، كالمدرج ، والمضطرب ، والمقلوب ، والمصحف ، وزيادات
الثقات ، كما نشأت علوم أخرى تبحث في المتن من حيث درايته كغريب الحديث
ومختلفه ، وأسباب وروده ، وناسخه ومنسوخه ، ومشكله ومحكمه ، وكل ذلك يدخل
في إطار نقد المحدثين للمتون واعتنائهم بها .
ومن الأمور التي
استعان بها أئمة هذا الشأن في نقدهم للمتون التاريخ ، فقد ضبطوا تواريخ
الرواة ، وسنين ولادتهم ووفاتهم ، ورحلاتهم وأوطانهم ، وشيوخهم وتلاميذهم ،
وذلك للكشف عن مروياتهم ، ومعرفة من أدركوه ممن لم يدركوه ، فالراوي الذي
يدعي سماع شيخ لم يدركه ، أو يذكر أمراً يكذبه التاريخ يحكم على روايته
بالطرح والترك ، ومما يذكر في ذلك ما جرى في زمن الحافظ الخطيب البغدادي
حين أظهر بعض اليهود كتاباً بإسقاط النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزية
عن يهود خيبر ، وفيه شهادة الصحابة ، فعرضه الوزير آنذاك على الخطيب البغدادي فقال : هذا مزوَّر ، فقيل له من أين قلت هذا ، قال " فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام الفتح بعد خيبر ، وفيه شهادة سعد بن معاذ ومات قبل خيبر بسنتين .
وقال إسماعيل بن عياش : كنت بالعراق فأتاني أهل الحديث ، فقالوا : هاهنا رجل يحدث عن خالد بن معدان ، فأتيته فقلت : أي سنة كتبت عن خالد بن معدان ، فقال : سنة ثلاث عشرة يعني ومائة ، فقلت أنت تزعم أنك سمعت بعد موته بسبع سنين.
يضاف
إلى سبق ما وضعه المحدثون من أصول عامة ، وقواعد كلية يعرف بها الوضع في
الحديث ، من غير رجوع إلى سنده ، وكلها متعلقة بالمتن ، وهي المعروفة عندهم
بعلامات الوضع ، حيث جعلوا من علامات الوضع في الحديث مناقضته الصريحة
للقرآن الكريم ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي ، وركاكة لفظه أو
معناه بحيث يشهد الخبير بالعربية باستحالة صدور مثل هذا الكلام عن أفصح
الفصحاء وأبلغ البلغاء - صلى الله عليه وسلم - ، أو اشتماله على مجازفات
ومبالغات لا تصدر عن عاقل حكيم ، أو أن يتضمن إفراطاً بالوعد العظيم على
الأمر الصغير ، أو الوعيد الشديد على الأمر الحقير ، أو مخالفته للحس
والمشاهدة ، أو أن يكون خبراً عن أمر جسيم تتوافر الدواعي على نقله ثم لا
ينقله إلا واحد ، أو مناقضته للحقائق التاريخية الثابتة مثل الحديث المتقدم
في وضع الجزية عن أهل خيبر ، أو أن يكون موافقاً لمذهب الرواي وهو متعصب
غالٍ في تعصبه ، إلى غير ذلك من العلامات التي يدركها جهابذة هذا العلم ومن
لهم خبرة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة تامة بسننه
وأحواله .
يقول الربيع بن خثيم : "إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار نعرفه به ، وإن من الحديث حديثا له ظلمة الليل نعرفه بها " ، ويقول ابن الجوزي
: " الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم ، وينفر منه قلبه في الغالب "
، وقال : " ما أحسن قول القائل : " إذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو
يخالف المنقول ، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع" .
وإن نظرة إلى
كتب الموضوعات ، تنبئك بما بذله العلماء من جهود جبارة في نقد المتون
وتمحيصها ، في منهج غاية في العمق والموضوعية ، بعيد كل البعد عن السطحية
والشكلية ، بما لا يدع مجالاً لطعن طاعن أو تشكيك مغرض ، فكيف يقال بعد ذلك
كله إن متن الحديث لم يلق من العناية والاهتمام ما لقيه الإسناد ؟! ، وصدق
الله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ،
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ( الرعد 17)
________
المراجع :
- أصول منهج النقد عند أهل الحديث د . عصام البشير .
- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي د. مصطفى السباعي
- المستشرقون والحديث النبوي د.محمد بهاء الدين .
- منهج النقد في علوم الحديث د. نور الدين عتر .
- دفاع عن السنة د. محمد أبو شهبة .
- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الأمين الصادق الأمين