كانت الأعياد تعني لأطفال ذلك
الجيل الشيء الكثير ، كان العيد يعني لهم الملابس الجديدة التي كانت
تخيطها لهم أمهاتهم على ماكينة الخياطة"سنجر" التي لم يكن يخلو منها بيت
من بيوت الميسورين ، وكان آباؤهم يشترونها من يافا وحيفا والشام قبل أن
تفتح شركتها الإنجليزية وكالة في إربد في الطابق الأرضي من عمارة يارد على
طريق فلسطين ، لم تكن موضة الألبسة الجاهزة قد عرفت طريقها إلى إربد
الأربعينيات ، وكانت ملابسهم إما جلابية صغيرة تشبه قمباز الرجال الكبار
وكانو يسمونها"سركس"، وإما بنطلونا قصيرا من القماش في الصيف أو
طويلا في الشتاء ، وقميصا وكنزة صوفية من شغل أمهاتهم ، وكندرة جديدة كانو
يسمونها"" سبـَّاط"، أو صندلا كانو يسمونه"زربول"، ولميكونو مضطرين
لتغطية رؤوسهم بالحطة البيضاء أو بالشماغ الأحمر وفوقهما عقال كما كان
يفعل الكبار جريا على عادة تلك الأيام التي كانت تعتبر من العيب أن يسير
الشباب أو الرجال حاسري الرأس. كان العيد يعني لهم الإستيقاظ مبكرا لنلبس
ملابسهم الجديدة ليتجمَّع أطفال كل حارة ليسيروا وراء الشباب والرجال
الذين كانوا يجوبون شوارع إربد وأزقتها في طريقهم إلى أحد المسجدين ،
الغربي أو الشرقي ، وهم يُكبـًّرون بتكبيرات العيد: ، وكانو الأطفال
نتبارون في رفع أصواتهم بالتكبير حتى يصبح تكبيرهم أقرب إلى الزعيق ،
وعندما يصلوا إلى المسجد يستمروا في التكبير مع الرجال والشباب ، ثمَّ يتوقف
التكبير ليبدأ الاحتفال رسمياً بتقليد كانت تلتزم به حكومات الدولة
الأردنية منذ تشكيل أول حكومة في عهد الإمارة في 11 ـ 4 ـ م1921 حيث كان
كبار الموظفين في إربد من مدنيين وعسكريين ووجهاء إربد ينتظرون أمام مدخل
المسجد الشرقي قدوم المتصرف فلاح المدادحة يرافقه قائد المنطقة (مدير
الشرطة) راضي عنـَّاب ، فإذا وصلا إلى المسجد حيتهما ثلة من الشرطة ،
ويصافحا كبار الموظفين والوجهاء والتجار الذين يكونون في استقبالهم ، ثمَّ
يدخل الجميع إلى المسجد ويقف مؤذن المسجد الشيخ خليل مناديا بصوته
الجميل:"صلاة العيد جامعة"، فيؤم صلاة العيد الشيخ سليمان الطيبي إمام
الجامع الشرقي ، وكان الشيخ عبد الفتاح القواسمي إمام الجامع الغربي يؤم
صلاة العيد في المسجد الغربي. وكان العيد يعني لهم أن ياكلوا المعلاق المقلي
على الفطور بعد عودتهم من صلاة العيد ، كما كانت كل عائلة حريصة في العيد
على صنع كعك العيد الذي كانوا نسمًّـيه المعمول ، وكانت معظم العائلات
الإربداوية تصنع ما كنا يسمونه قرص العيد وهو يشبه رغيف الخبز من نوع
(الكماج) ، وكان قرص العيد يصنع من طحين القمح البلدي المجبول بزيت
الزيتون البلدي بدلا من الماء ، وكانت تضاف إليه حبة البركة (القزحة)
والعصفر لإعطائه اللون الأصفر ، وكان العيد يعني لهم العيدية حيث كانو
يتراكضون بعد رجوعهم من صلاة العيد لنطرق أبواب الأجداد والجدَّات ،
والأعمام والعمَّات ، والأخوال والخالات ، ليلموا (لجمع) العيديات ، وكانت
العيدية تتراوح بين نصف قرش (تعريفه) أو قرش أو قرشين ، وأحيانا تصل إلى
خمسة قروش (شلن) أو عشرة قروش (بريزة) ، وأحيانا تكون العيدية حبة معمول
أو حبة توفي.وكان العيد يعني لهم ان يهرعواإلى ساحة الأفراح لركوب المراجيح
الخشبية التي كان ينصبها في ساحة الأفراح حدَّاد إسمه علي الطرمه (والدته
كانت صمَّـاء) ومنافسه أحمد المنديل ، وكثيرا ما كانبعضهم يقع من فوق
المـُرجيحة فيسيل الدم من رأسه وكانو يسمون الجرح في الرأس"فشخة"، وكان
دواء الفشخات وضع كمية من القهوة أو صفوة المناقل على الجرح فيتوقف نزف
الدم ، وقد تنكسر يد أحدهم أو قدمه ، وكانت المراجيح من المتع التي كانت
تستهوي أبناءذلك الجيل ، وكان باعة الفول المسلوق (كانو يسمونه الفول النابت)
والحمص المسلوق (البليلا) ، وباعة البوظة (الإيمع أو الدندرمه) ، وباعة
الدواحل الزجاجية (القلول) ينتشرون في ساحة الأفراح ، فكانو يتهافتون عليهم
للشراء حتى تتبخر العيديات التي جمعوها.ومن الألعاب التــــي كان إقبالهم
عليها يزيد في أيــام الأعياد عن بقية الأيام ما كانو يسمونه (صندوق
العجايب) أو (صندوق الدنيا) ، وهو صندوق مجوَّف من الخشب ، له عدَّة فتحات
في واجهته الأمامية ، وكان الأطفال يجلسون على كرسي صغير من القش ويضعون
أعينهم على الفتحات ليشاهدوا صورا مختلفة كان صاحب الصندوق يحرًّكها تباعا
وهو يشرح كل صورة ، وكانوا في الأعياد يتسلون بمشاهدة ما يسمونه لعبة
(الأراجوز) وعرفت في مصر والبلدان العربية باسم لعبة (العرائس المتحركة) ،
حيث كان أكثر من شخص يختفون وراء ستارة أمامها مسرح صغير ، وكانوا يربطون
خيوطا رفيعة لا تراها العين عن بعد في كل إصبع من أصابعهم ويربطون كل حبل
في يد أو قدم أو رأس لعبة مصنوعة من القماش المحشي بالقطن ، وكانت كل لعبة
تمثل شخصية شعبية من الشخصيات الرائج ذكرها في تلك الأيام كجحا وحماره
وكالزير سالم وجسَّاس ، أو كقيس وليلى ، أو عنترة بن شدَّاد وأعداءه ،
ويقوم كل شخص بتحريك أصابعه بطريقة معينة فتظهرلعبته وكأنها تتحرك ،
ويقومون أثناء تحريك لعبهم بسرد قصص شعبية تخص الأشخاص الذين تمثلهم كل
لعبة ، وكانت ساحة الأفراح في الأعياد المكان المفضل لتقديم بعض العروض
الأخرى التي كان يقبل على مشاهدتها الكبار والصغار ، ومن هذه العروض عرض
يقدمه رجليطلق عليه (القرداتي) حيث كان الرجل يخاطب قردا يمسك به
بواسطة حبل قصير بقوله: كيف بتعجن أم علي ، فيقوم القرد بتقليد النسوة وهن
يقمن بعجن الطحين ، ويسأل القرداتي قرده: كيف بيبكي الببـُّو (الرضيع)
فيقوم القرد بتقليد بكاء الطفل الرضيع ، إلى غير ذلك من حركات النطنطة
التي يقوم بها القرد بتوجيه القرداتي وقد يقفز أحيانا إلى كتف أو إلى رأس
أحد المشاهدين ، وكان رجل آخر يقدم عرضا لدب يقوده بحبل متين ويقوم
بترقيصه على أنغام دفْ أو طبل يحمله مساعد له ، وكان رجل آخر يطلق عليه
(الحاوي) يقدم عرضا لألعاب سحرية وحيل خادعة ، ومن ذلك أنه كان يأتي بكأس
مملوء بالماء ثمَّ يقوم ببعض الحركات السريعة فيتحول الماء إلى لون أحمر
أو أصفر أو أخضر.وفي الأعياد كانت الوحدة الوطنية بين المسلمين وجيرانهم
المسيحيين تتجلى بأحلى صورها ، فإذا كان العيد للمسلمين تقاطر جيرانهم
ومعارفهم وأصدقاؤهم من المسيحيين ، لتهنئتهم بالعيد ، وإذا كان العيد
للمسيحيين تقاطر جيرانهم ومعارفهم وأصدقاؤهم لتهنئتهم