ارتضى الله الإسلام ديناً للبشرية كلها ، وجعله الدين الخاتم إلى قيام
الساعة ، ومن ثمّ فقد تكفّل الله بحفظه وصيانته ، فسخّر من خلقه من يذبّ عن
وحيه قرآناً وسنةً ، واصطفى علماء بيّنوا ما تشابه من القرآن ، وميّزوا
صحيح السنة من ضعيفها ، ويزخر التاريخ الإسلامي بكوكبةٍ من العلماء
المخلصين ، الذين نذروا حياتهم لخدمة هذا الدين ، ومن أبرز هؤلاء الإمام البخاري رحمه الله تعالى .
وحياة
هذا الإمام الجليل مليئة بالصفحات المشرقة ، فقد اجتمعت فيه كثير من
الصفات الحميدة ، والخصال الجليلة ، ونذر حياته لخدمة السنة الغرّاء ، فنفع
الله به ، وبارك في علمه ، وألّف كتابه الصحيح الذي اتفقت الأمة قاطبة على
صحّته ، وتلقّيه بالقبول ، وسوف نستعرض بعض الجوانب من حياة هذا العلم ؛
حتى نسلك مسلكه ، ونقتدي بسيرته .
نسبه ومولده
هو شيخ الإسلام ، حجّة الأمة ، ناصر الحديث ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري ، أمير المؤمنين في الحديث كما لقّبه بذلك غير واحد من أئمة السلف .
كان
مولده في شوال سنة أربع وتسعين ومائة في " بخارى " ، ونشأ في بيت علم ،
وظهرت عليه في طفولته علامات النبوغ والنجابة ، ووهبه الله سبحانه وتعالى
ذاكرةً قويّة تفوّق بها على أقرانه ، وقد اشتمله الله برعايته منذ طفولته ،
وابتلاه بفقدان بصره في صباه فرأت والدته في المنام إبراهيم
عليه السلام فقال لها : "يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أو
كثرة دعائك" فأصبحت وقد ردّ الله عليه بصره ببركة دعاء أمه له .
طلبه للعلم
بدأ
البخاري حياته العلمية من الكتّاب ، فأتم حفظ كتاب الله في العاشرة من
عمره ، ثم مرّ على الشيوخ ليأخذ عنهم الحديث ، ولما بلغ ستة عشر عاماً كان
قد حفظ أحاديث ابن المبارك و وكيع ، وكان آية في الحفظ ، حتى بلغ محفوظه آلاف الأحاديث وهو لا يزال غلاما ، والشاهد على ذلك ما رواه حاشد بن إسماعيل
- رحمه الله - أن الإمام كان يذهب إلى المشايخ مع رفقائه وهو غلام ، فكان
يكتفي بسماع الأحاديث دون أن يدونها كما يفعل زملاؤه ، حتى أتى على ذلك
أيام فكانوا يقولون له : " إنك تتردد معنا إلى المشايخ ولا تكتب ما تسمعه
فما الذي تفعله ؟ " وأكثروا عليه حتى ضاق بهم ذرعاً ، وقال لهم مرةً بعد
ستة عشر يوماً : " إنكم قد أكثرتم عليّ وألححتم فأخرجا إليّ ما كتبتموه "
فأخرجوا إليه ما كان عندهم ، فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن
ظهر قلب حتى جعلوا يصحّحون ما كتبوه من حفظه ، فعرفوا أنه لا يتقدمه أحد.
ثم
ارتحل في طلب الحديث إلى "بلخ" و"نيسابور" وأكثر من مجالسة العلماء ، وحمل
عنهم علما جمّا ، ثم انتقل إلى مكة وجلس فيها مدة ، وأكمل رحلته إلى بغداد
ومصر والشام حتى بلغ عدد شيوخه ما يزيد عن ألفٍ وثمانمائة شيخٍ ، وتصدّر
للتدريس وهو ابن سبع عشرة سنة ، وقد كان الناس يزدحمون عليه وهم آلاف حتى
يغلبوه على نفسه ، ويجلسوه في بعض الطريق ، يكتبون عنه ، وهو لا يزال شاباً
لم تنبت له لحية.
مناقبه
وهب الله سبحانه وتعالى الإمام البخاري
عددا من الخصال الحميدة ، والمناقب العظيمة ، حتى شهد له علماء عصره
بتفوقه على أقرانه ، ولو كتبنا في مناقب هذا الإمام العظيم المؤلفات ما
وفّينا حقه ، حتى قال عنه رجاء الحافظ : "هو
آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض " ، من ذلك أن الله قد آتاه حفظاً
وسعة علم حتى روي عنه أنه قال : " لو أردت ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى
أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة " وذلك في إحدى المجالس ، ومما يدل على
كثرة محفوظاته قوله : " أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث
غير صحيح " .
واشتَهر الإمام بشدّة ورعه ، فقد كان حريصا على ألفاظه
عند الجرح والتعديل للرواة ، ومما أُثر عنه قوله : " أرجو أن ألقى الله
ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً " ، كما اشتَهر رحمه الله بالزهد والكرم ،
يعطي عطاءً واسعاً ، ويتصدّق على المحتاجين من أهل الحديث ليغنيهم عن
السؤال ، وكان وقّافا عند حدود الله ، كما كان شديد الحرص على اتباع السنة ،
قال النجم بن الفضيل : " رأيت النبي - صلى
الله عليه وسلم - في النوم كأنه يمشي ، ومحمد بن إسماعيل يمشي خلفه فكلما
رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه وضع الإمام قدمه مكانها ".
وأعظم
خصلة تحلّى بها الإمام هي الإخلاص لله تعالى - نحسبه كذلك والله حسيبه - ،
فقد كان يريد الله بعلمه وعمله ، وبغضه وحبه ، ومنعه وبذله ، فانتشرت كتبه
، وتلقت الأمة كلها " صحيح البخاري " بالقبول ، حتى عدّه العلماء أصحّ
كتاب بعد كتاب الله تعالى .
كتبه ومؤلفاته
ساهم
البخاري رحمه الله في التأليف والكتابة ، وأول كتاب يتبادر إلى الذهن هو
كتابه العظيم " الجامع الصحيح " المعروف عند الناس بكتاب: " صحيح البخاري "
، وهو أول كتاب صُنف في الحديث الصحيح المجرد ، واستغرق تصنيف هذا الجامع
ست عشرة سنة ، ولم يضع في كتابه هذا إلا أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه
وسلم .
وللشيخ تصانيف أخرى مهمة ، مثل:" الأدب المفرد " ، والذي
تناول فيها جملة من الآداب والأخلاق ، وبعض الأجزاء الحديثية مثل: " رفع
اليدين في الصلاة " و " القراءة خلف الإمام " ، وفي علم التاريخ له : "
التاريخ الكبير ، والأوسط والصغير " ، وفي العقيدة ألّف رسالة أسماها: "
خلق أفعال العباد " ، وفي علم الرجال : "" الضعفاء " ، ومصنفات أخرى كثيرة
بعضها في عداد المفقود .
محنته ووفاته
تعرض
البخاري للامتحان والابتلاء كما تعرض الأنبياء والصالحون من قبله ، فصبر
واحتسب ، وما وهن وما لان ، وكانت محنته من جهة الحسد الذي ألمّ ببعض
أقرانه لما له من المكانة في قلوب العامة والخاصة ، فأثاروا حوله الشائعات
بأنه يقول بخلق القرآن ، وهو بريئ من هذا القول ، فحصل الشغب عليه ، ووقعت
الفتنة ، وخاض فيها من خاض ، حتى اضطر الشيخ درئاً للفتنة أن يترك "
نيسابور " ويذهب إلى " بخارى " موطنه الأصلي .
وبعد رجوعه إلى بخارى
استتبّ له الأمر زمناً ، ثم ما لبث أن حصلت وحشة بينه وبين أمير البلد
عندما رفض أن يخصّه بمجلس علم دون عامة الناس ، فنفاه الوالي وأمر بإخراجه ،
فتوجه إلى قرية من قرى سمرقند ، فعظم الخطب عليه واشتد البلاء ، حتى دعا
ذات ليلة فقال : " اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، فاقبضني إليك "
، فما تم الشهر حتى مات ، وكان ذلك سنة ست وخمسين ومائتين ، وعاش اثنتين
وستين سنة ، ودُفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر .
رحم الله الإمام رحمة
واسعة ، وأجزل له العطاء والمثوبة ، فقد كانت سيرته مناراً يهتدى بها ،
ونسأل الله تعالى أن يجمعنا معه في جنات النعيم ، والحمد لله أوّلا وآخراً .