نصّ الحديث
عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
( كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين ، فاتخذت
رجلين من خشب ، وخاتماً من ذهب مغلق مطبق ، ثم حشته مسكاً - وهو أطيب الطيب
- ، فمرّت بين المرأتين فلم يعرفوها ، فقالت بيدها هكذا - ونفض شعبة يده - ) رواه مسلم .
وفي رواية لأحمد : ( فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فنفح ريحه ) .
وعند ابن حبان في صحيحه : ( فاتخذت لها نعلين من خشب ) .
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
( إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو
الصيغ ما تكلف امرأة الغني . فذكر امرأة من بني اسرائيل كانت قصيرة ،
واتخذت رجلين من خشب ، وخاتماً له غلق وطبق ، وحشته مسكاً ، وخرجت بين
امرأتين طويلتين أو جسيمتين ، فبعثوا إنساناً يتبعهم ، فعرف الطويلتين ،
ولم يعرف صاحبة الرجلين من خشب ) ابن خزيمة . رواه
معاني المفردات
رجلين من خشب : أي نعلين من الخشب كما جاء في الرواية الأخرى
فقالت بيدها هكذا : يعني حرّكت يديها لتفوح رائحة العطر
خاتماً له غلق وطبق : أي خاتماً محكم الإغلاق وعليه غطاء
جسيمتين : الجسيم : عظيم الجثّة
تفاصيل القصّة
من
سنن الله الكونية ألا تبلغ الحضارات الإنسانيّة أوجّ عزّها ، ولا ترتقي
إلى قمّة مجدها ، إلا حين تتّخذ من الأخلاق الفاضلة ، ومعاني العفّة
والطهارة ، سياجاً يحيط بها ، وفي المقابل أيضاً لا ترى التراجع والوهن
يبدأ في أمّة من الأمم إلا حين تنسلخ من القيم والمُثُل العليا ، وتفشو في
أفرادها مظاهر الترف والبذخ ، والبحث عن المظاهر الكاذبة والتصنّع الزائف ،
حتى تأتي اللحظة التي تنهار فيها ، وتزول عن الوجود .
والنبي
– صلى الله عليه وسلم – يعرض من خلال القصّة التي بين يدينا ، جانباً من
جوانب الفساد الاجتماعي والافتتان بزخارف الدنيا ، والذي أودى بالمجتمع
الإسرائيلي مهاوي الردى ، وكان سبباً في تسلّط أعدائهم عليهم .
وقد
ظهرت بوادر الفساد الاجتماعي في تلك الأمّة بقوّة من خلال المبالغة في
الاهتمام بالمظاهر ، فكان الإنفاق على الملابس والحلي وأنواع الزينة ومراسم
الحفلات على أشدّه ، ولم يكن التسابق المحموم على تلك الأمور محصوراً
بالطبقة الغنيّة القادرة ، بل اكتوى بنارها الفقراء والمعدمين ، سعياً
لمجاراة الواقع الموجود ، ومع مطالب النساء وما جرّه من النفقات الباهظة ،
كانت النتيجة الحتمية الغرق في دوّامة لا تنتهي من الديون والقروض الرّبوية
.
أما
الصورة الأخصّ التي ذكرها النبي – صلى الله عليه وسلم – فهي حال امرأة من
بني إسرائيل ، تملّكها الشعور بالحسرة على قصر قامتها ، ورأت في نفسها أنها
أقل حظّاً في نيل إعجاب الرجال ولفت أنظارهم ، وكان الرجال من بني إسرائيل
يرون الجمال في طول المرأة .
وبدلاً
من الرضى بقضاء الله وقدره ، ظلّت تفكّر زماناً طويلاً للبحث عن أفضل
الطرق لجذب أنظار الناس إليها ، حتى اهتدى عقلها إلى حيلة تزيل ما تظنّه
عيباً فيها ، فقد صنعت لها نعلين من الخشب تلبسهما تحت الثياب فيزيد من
قامتها ، ويظهرها أمام الناس طويلة.
وأمام
الحيلة التي ابتكرتها ، تغيّر منظرها الخارجي ، فلم يتعرّف عليها الرجال ،
وظنّوا أنها امرأة غريبة عن الديار ، بل أرسلوا أحدهم ليعلم عن هذا الوافد
الجديد – بالنسبة إليهم – ويتقصّى حقيقتها فلم يفلح .
وبذكائها
أيضاً ، اتّخذت خاتماً من ذهب صنعته خصّيصاً عند أحد الصاغة ، وأمرته أن
يجعل فيه تجويفاً له غطاء لتملأه مسكاً قوي الرائحة ، ثم كانت تذهب إلى
مجامع الناس وتحرّك يدها ذات اليمين وذات الشمال ، فيفوح شذى العطر في
أرجاء المكان ليسلب بعبقه ألباب الرجال وينال استحسانهم لها .
والنبي
– صلى الله عليه وسلم – إذ يعرض هذه القصّة ، يريد من المجتمع الإسلامي أن
يحذر من تلك الآفات ويرفع من تطلّعاته وطموحاته ، ويوجّه تركيزه نحو إصلاح
الباطن وتحسين الأخلاق ، وما قيمة المرء إلا بنبل صفاته ، وجميل أفعاله ،
وبياض صفحته ، كما جاء تقرير ذلك في قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) رواه مسلم .
ونلمح
أيضاً في ثنايا القصّة تحذير النبي – صلى الله عليه وسلم – من فتنة النساء
، وتفنّنهنّ في طرق الغواية والإضلال ، في ظلّ انتكاسة أخلاقيّة تنبيء
بذوبان العفّة وقلّة المروءة ، وذهاب الغيرة من قلوب الرجال ، وما يؤدّيه
من الفساد العظيم ، والشرّ المستطير .
وكان الإشفاق من خطر هذه الفتنة هو ما أشغل بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل يحذّر أمته من فتنة النساء ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : ( اتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه أحمد .
ومن
هنا ، حرص الإسلام من خلال تعاليمه ومبادئه أن يحمي أفراده من بواعث
الفتنة وأسبابها ، فنهى النساء عن مظاهر التبرّج والزينة ، ومنع من
الاختلاط والخلوة المحرّمة ، ورتّب الوعيد الشديد على من خرجت من بيتها
متعطّرة حتى ولو كانت ذاهبة إلى المسجد ، وبهذا الموقف الحازم والصارم ،
يمكن للمجتمع المسلم أن يعيش في ظلٍّ من العلاقات الطاهرة ، والقائمة على
أساسٍ من التقوى والصلاح ، والمراقبة الذاتيّة ، والله الموفّق.