التاريخ هو المستقبل
مع تداعيات الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية والنظر فيها وفي تكرارها وعدم العمل بجدية في معرفة أسبابها واحتوائها ومعالجتها, تبرز النظرة إلى قراءة التاريخ قراءة متأنية، تنطلق من المحاولة الجادة في فهمه واستنباط العبر والدروس لتقويم وتقديم العمل للمستقبل، والكثير من الناس ينظرون إلى التاريخ بوصفه سجلا للأحداث وحوادث الماضي، ويكتفون منه بعبق قراءته وتسلية روايته للآخرين دون النظر في العبر والدروس المستفادة من تلك الأحداث التاريخية، والقلة فقط هي التي تؤمن باستنباط العبر والدروس، وترسم من خلالها الرؤية المستقبلية.
إن تحليل الماضي وأحداثه ومقارنتها بما نعيشه من أحداث حالية، تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه بشكل مباشر أو بطرق مختلفة تؤدي إلى مقارنة ومقاربة الحدث، هذه الإعادة التي قد تشترك في الزمان أو المكان أو تختلف فيه، ولهذا فإن القلة التي تقرأ التاريخ لاستنباط الدروس ورسم المستقبل لا تنظر إلى الأحداث على أنها ملفات توضع على الأرفف, إنما يتم التعامل معها بوصفها وثائق ناطقة تتسم بالحياة والديناميكية والاستمرارية، تساعدنا على معرفة أحداثها ودروسها متى ما عرفنا كيف نستنطقها ونعيد الروح لأشخاصها ليكونوا أولا لدروب ومعابر المستقبل.
بعض الأفراد في الغالب يستطيعون قراءة التاريخ وتحويل ما يقرؤون إلى سبل نجاح خاصة بهم، من خلال تفعيل وتطويع الاستفادة من الأحداث والوقائع في الماضي إلى تجارب حياتية وعملية واستثمارية تخدم مصالحهم الشخصية، وربما تؤثر في محيطهم العملي أو الأسري الصغير فقط.
إن الفائدة الحقيقية والعظيمة والكبيرة عندما يقرأ التاريخ ويحلل ويستوعب من خلال عمل مؤسسي يخدم الدولة جميعها وبمختلف قطاعاتها وسياساتها وتوجهاتها وعلاقاتها مع الداخل والخارج, ولهذا فإن قراءة التاريخ من منظور جمعي مؤسسي، ستساعد على رسم خريطة طريق وأسلوب نجاح، وتقدم لكل مكونات المجتمع. ولعلنا لو رجعنا إلى أحداث اليوم المحلية والإقليمية، وحاولنا تطبيقها على ما حدث في الماضي، لوجدنا الكثير من التطابق الزمني والمكاني بشكل يجعل من مشهد اليوم مشهدا مكررا، حتى إن كان الحدث يعود به التاريخ إلى سنين عديدة, لكن محاكاة الأحداث وتحليلها وتقديمها تبرز الحلول والمعالجات قبل تكرار الحدث.
إن قراءة الماضي من أجل المستقبل تكون ـــ بإذن الله ـــ منجية من كثير من المهالك والأخطار، يتم تفاديها عندما نسترجع أحداثا مشابهة وقعت في الزمن الماضي، ولعل البعض منا يستذكر مثل ذلك من مهالك وأخطار تم تفاديها، وكم من توجهات وخيارات ومناهج تم التخلي عنها وإلغاؤها أو تعديلها نتيجة استيعاب خطئها عند آخرين عاشوا في زمن غير زمننا.
إن قراءة الماضي من أجل المستقبل لا تتطلب العودة إلى آلاف السنين أو حتى مئات السنين, بل إن مرور فترة زمنية عاشها بعض الموجودين تكفي في نظري لاعتبارها حقبة تاريخية تستحق الدراسة والتحليل والاتعاظ واستنباط الدروس والعبر، وتكون ـــ بعون الله ـــ مساعدة على رسم الرؤية المستقبلية لجميع مناحي الحياة الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية.
إن دراسة وتحليل التاريخ من أجل المستقبل يعطي قارئه ومحلله وفاهمه الحصين خريطة طريق تدله على ما يمكن أن يصل إليه مستقبلاً عند تحديد اختياراته؛ لأن دراسة الحالات المشابهة التي حدثت في الماضي يستطيع أن يرى ما يمكن أن يكون عليه الحال حسب كل اختيار. إننا بهذا العمل المجتمعي المؤسسي نحول التاريخ إلى معمل حديث، تُجرى فيه التجارب والتحاليل العلمية الدقيقة ذات النتائج الصحيحة 100 في المائة أو القريبة من هذه النسبة.
إن دراسة وتحليل التاريخ من أجل المستقبل تتطلب إنشاء المراكز البحثية المتطورة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والإدارة وغيرها من القطاعات الحيوية التي تدعم استقرار المجتمع والدولة ككل وفقاً لرؤية تنموية متكاملة، ولا تسمح بوجود خلل أو ثغرة تسمح لأصحاب المصالح الفاسدة والأطماع الخبيثة من اختراق المجتمع وأفراده، وتجعل من كل مواطن جنديا يحرص على حماية وطنه ومصالحه الشرعية.
إن وجود مراكز بحث علمية قادرة على تحليل تاريخنا وتاريخ الأمم الأخرى لاستنباط الرؤية المستقبلية، وتعمل على تقديم حلول لإشكالياتنا التنموية في المجتمع آخذة في اعتبارها التحليل العلمي والعمل الصادق والواعي لمكونات التاريخ, ويجب ألا نعتقد أننا عاجزون بشرياً أو مادياً عن عمل ذلك, كما يجب ألا تشوب نظرتنا للتاريخ النظرة الحذرة الخائفة من فتح ملفاته نتيجة قلق غير مبرر من وجود صفحات سوداء قليلة في كتاب كبير يزخر بكثير من الصفحات البيضاء الناصعة ذات الإنجازات العظيمة، ووجود عدد من الصفحات السوداء ليس حكراً علينا، وليس عيبا أو جُرماً يجب أن نختبئ منه حتى الممات، ووجود أخطاء في حياتنا ودراستها وتقديمها أمر حتمي وطبيعي لمن يُريد المستقبل الأفضل، فلا حياة دون أخطاء، ولا مجتمع نزيه ونظيف بلا فئات شاذة تشوه صورته الجميلة، كما أن أخطاء الماضي لا تعد عيباً لمن قام بها, لأن خياراته وإمكاناته ومعرفته في ذلك الوقت قد تكون هي من أدى إلى قراراته التي نراها اليوم خاطئة, بينما يرى من قام بها في ذلك الوقت ووفق القاعدة المعرفية لزمانه أنها صواب.
إنني أقدم دعوة صادقة لدراسة التاريخ وفق منهج علمي مجتمعي مؤسسي للاستفادة منه في رسم مستقبلنا, فالتاريخ هو المكون الأساسي للمستقبل لمن يعرف كيف يقرأه بعين الخبير البصير الفاحص، والكيس من اتعظ بغيره ولم يكن عبرة للآخرين. وفقنا الله لما يحب ويرضى، وجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، وحمى وطننا الغالي من كل شر.
وقفة تأمل
إن الأمور إذا الأحـداث دبـرها***دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
إن الشباب لهم في الأمر معـجلة ***وللشـيوخ أناة تدفع الزللا.....
..........................