اللغة العربية والفكر العالمي (2)
معيقات اللّغة العربية في مواكبة الفكر العالمي وعودتها إلى العالمية
1 – اتّهام اللّغة العربية بالعجز عن الإبداع ومواكبة العصر:
إنّ العصر بسرعة تطوّره، وقوّة حركته، وكثرة مفاجآته العلميّة والفكريّة، لا يسمح للّغة العربيّة الجامدة الهامدة، وغير المؤهّلة للتّفاعل مع كلّ هذه التّغيّرات. هذه فكرة اقتنع بها من كانت معرفته بحقيقة اللّغة العربيّة وقيمتها ضعيفة، أو علاقته بها مريضة. وقرّرها من لا يقدر للظّروف قدرها، ولا ينظر إلى الأشياء نظرة موضوعية حضارية.
في كثير من هذه النّظرات التي سجّلت في هذه المشكلة، والآراء التي استقرّت في الأذهان كان سببها طريقة تعاملنا نحن المنتسبين إليها، والمنتمين إليها؛ إذ لم نظهرها ولم نتعامل معها بما يليق بمقامها، وبما يرقى إلى حقيقة دورها، استهنّا بها وهمّشناها، وأحلناها إلى زاوية الرّكون والرّكود، بل تنكّرنا لها، وتركنا الغوص فيها، وأبحرنا إلى لغات أخرى؛ بحثًا عمّا يسمح لنا بالتّقدّم والازدهار، ويسمح لنا بالاندماج في الفكر العالمي، بالحصول على صفات العلميّة والمنهجيّة، والتّفاعل مع الآخر... فقيل عنها ما قيل ظلمًا وعدوانًا وتجنّيًا، وألقيت عليها التّهم: " لأنّها في رأي معظم المتعلّمين غير قادرة على مواكبة التّطوّر العلمي والحضاري، ولا تستوعب المصطلحات العلميّة الحديثة، ولا تساعد على فهم النّظريّات العلميّة المتطوّرة، وهي في رأي بعض دارسي العلوم الإنسانيّة عاجزة عن التّفاعل مع النّظريات الألسنيّة الحديثة." ([1])
2 – ضعف الحماسة للّغة العربيّة:
نتج عن العامل الأوّل مرض خطير على اللّغة العربيّة، هو ضعف الحماسة لها، وضعف العصبيّة القوميّة نحوها عند من يحمل ضدّها فكرة خاطئة عن حقيقتها وطبيعتها. هذا العنصر عائق كبير في استرجاع مكانتها، التي فقدتها؛ بسبب التّخلّي عن المحافظة عليها، وبالتّبع حرمت من حمايتها وصيانتها، فضلا عن مساعدتها على التّطوّر لتساير مسيرة الحياة المتجدّدة المتغيّرة بسرعة فائقة. فقد لجأ أصحاب هذا الرّأي إلى لغات أخرى وتحمّس لها، واندمج فيها وفي فكرها، وترك لغته الأمّ؛ انطلاقًا من هذا الزّعم. تقول الدّكتورة مها خير بك ناصر: " جسّد الاعتزاز بالمنطوق الأجنبي حالة تغريب عن اللّغة القوميّة، فعكس العجز عن إتقان لغة العصر شعورًا بالنّقص، وإحساسًا بالعجز عن مواكبة التّطوّر العلمي والتّكنولوجي، وبلغت سيطرة اللّغات الأجنبيّة في بعض البلدان العربيّة درجة يعجز معها المتعلّم معرفة اللّفظ العلمي أو الأدبي، أو التّداولي اليومي في اللّغة العربيّة، وصارت المعرفة باللّغة العربيّة عند بعضهم مرادفة للجهل والأميّة." ([2])
في الحقيقة إنّ هذا النّفور من اللّغة العربيّة، أو عدم التّحمّس لها، أو رفض قبول التّعامل بها؛ لغةَ اتّصال وتعلّم وتكوّن، ولغةَ انفتاح على العالم، ولغةَ اندماج مع الغير، ولغةَ قضاء مآرب وبلوغ أهداف...إنّ كلّ هذا ناتج عن هاجس خوف أبنائها من : " العولمة التي غزت ديارهم وأهليهم، ومسّت قلوبهم الواجفة، وعقولهم الممسوسة...فصدّقوا ما قيل لهم، وطبّقوا ما أُملِيَ عليهم، وروّجوا ولوّحوا أنّ اللّغة العربية عاجزة عن استيعاب العلوم المعاصرة، وغير قادرة على مواكبة تطوّرات العصر المتساوقة المتلاحقة، فنبذوا لغتهم ظهريًّا، وقلبوا لها ظهر المِجنِّ، وسافروا وغرّبوا وشرّقوا خارج سربهم، وتغنّوا بغير ألحانهم، فكانت اللّغة العربيّة (الأمّ) هي الضّحيّة؛ إذ أصبحت عندهم من سقط المتاع، الذي لا يصلح لشيء..." ([3])
هذه الانهزاميّة والخذلان يهدّدان اللّغة العربية؛ لأنّهما يمنعان أصحاب هذه اللّغة من معرفتها حقّ المعرفة، ويحجبان عنهم النّور الذي ينير دروب هذا الكيان، ليتعرّفوا على خصائصها وجمالياتها، ويحجزان عنهم الرّؤية المستقبليّة لهذه اللّغة، ليصدروا عنها أحكامًا جائرة، تؤثّر على علاقتهم الإيجابيّة بها. هذا ما يضعهم في خانة المعادي لها، أو المحتقر لها، أو المستهين بقيمتها ومكانتها، فيصدّ عنها ويسير في وجهة معاكسة لمسارها. ومن ثمّ لن يصدّق من يقول له: إنّ هذه اللّغة كانت عالمية، وستبقى عالمية، تحضن الفكر العالمي، وتنشر الثّقافة العالية، وتسهم في تطوير الحياة من حوله.
3 – تهميش المحيط للّغة العربية عن الحياة العامّة:
تعاونت فئات كثيرة، وجماعات غير قليلة في تهميش اللّغة العربيّة في حياة المنتمين إليها، عن غير وعي أحيانًا، وعن جهل وأميّة في أغلب الأحيان، وعن قصد وترصّد وسبق إصرار في كثير من الأحايين، وعن نيّة مبيّتة وتخطيط محكم للقضاء على هذه اللّغة في بعض الأوقات، وبعدها الإجهاز على الهويّة.
تعاون البيت والشّارع وبعض الهيئات المحسوبة رائدة وموجّهة وقائدة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة، وتضافر على خنق اللّغة العربية وخلق مشاكل لها المؤسّسات التّربويّة والتّكوينيّة، والجمعيات الثّقافيّة والرّياضيّة، وسفراء هذه اللّغة في المنتديات والتّجمّعات والتّظاهرات والاحتفالات...هل يمكن أن نقول مع الدّكتور عادل نوفل: إنّ اللغة العربيّة ومعها ثقافتها التي تنتمي إليها أصبحتا مهدّدتين بالانقراض، ومن ثمّ فلا مطمع في إسهامهما في تطوير الفكر العالمي، أو إيجاد مكان لهما فيه: " لقد أصبحت اللّغة والثّقافة العربيّتان مهدّدتين لدى أغلب شرائح المجتمع، إمّا لأسباب الأميّة والفقر وانحسار دور الدّولة، أو لأسباب ثورة الاتّصالات التي ربطت نخبًا معيّنة بثقافات خارجيّة، من خلال المدرسة والمربيّة الأجنبيّة والأنترنيت والأقمار الصّناعيّة..." ([4])
ماذا يبقى للّغة العربيّة من مساحة تنشط فيها؟ وكيف لها أن تبرز في ظلّ هذا الحصار المضروب عليها بإحكام وتحكّم؟ وأنّى لها أن تتخطّى عتبات محيطها لتحلّق في الفضاء العالمي، وهي تعاني هذا القهر والحيف والظّلم في وسطها،حتّى غدت غريبة في دارها؟ فمن يقبلها وعاء للفكر العالمي وقد أهانها أهلها ونبذوها، ورفضوها حاويةً لفكرهم، وحاملة لثقافتهم, وحامية لشخصيتهم، وناقلة لمشاعرهم؟ ولنا أن نتساءل مع المتسائلين: ما هي مكانة اللّغة العربيّة ومكانها في ديارها؟ وما هو مستقبلها في أوطانها؟وذلك قبل أن نبحث عن مكانها في العالم؟
4 – مزاحمة اللّهجات المحليّة للّغة العربية:
إنّ اللّغة العربيّة وجدت ضرّات كثيرة في ساحتها وفي حرمها، أضرّت بوظيفتها ورسالتها، واصطدمت بمزاحمة شديدة من طفيليات في فضائها الذي تتحرّك فيه، إنّها اللّهجات المحليّة التي ملأت حياة النّاس، وشغلت فكرهم، ومالوا إليها على حساب اللّغة العربيّة الفصيحة. بل تجاوز هذا إلى تبنّي مشروعات مدروسة لضربها وزحزحتها من الوجود، بإبعادها عن حياة النّاس. ويكون الخطر أكبر حين يكون التّدريس بها، حتّى فيما يتعلّق أو يتّصل بفروع اللّغة العربيّة نفسها، ويستفحل أكثر، حين تُستهدًف بالمناهج المسطّرة فئةُ الشّباب، الذين هم عماد المستقبل، ومحطّ آمال الأمّة في حمل مقوّماتها وقيمها. " عادة ما تصحب هذه الدّعوات مشروعات، تنال من اللّغة العربيّة، ويتمّ ذلك بالتّنسيق مع الجهات التي تكنّ عداءً للّغة العربيّة، وغالبًا ما تقصد الفئات الشّبانية، التي لا تكون محصّنة بالثّوابت والمقوّمات الحقيقيّة لشخصيتها. من أسلحة هؤلاء تقديم معلومات خاطئة عن تاريخيّة هذه اللّغة، ودخولها إلى أوطانها. وكثيرًا ما توصف بأنّها جاءت مستعمِرة، ومزحزحة للّهجات التي كانت سائدة قبل مجيئها، ومنها تزويد المغرّر بهم بمعلومات مشوّهة لطبيعة اللّغة العربيّة، وهي عدم صلاحيتها لمواكبة التّطوّر والتّقدّم، بل هي من أسباب تأخّر الشّعوب التي تتمسّك بها، إلى غير ذلك من الادّعاءات الباطلة الغادرة، والهجمات السّافرة..." ([5])
يضيف الدّكتور عبد السّلام المسدّي همًّا آخر، يرتكبه المثقّفون، الذين هم الروّاد في نشر الثّقافة، والقدوة في السّلوك الحضاري، يتمثّل في مخاطبة الجمهور باللّهجات المحليّة كثيرًا، ممّا يرسّخ في أذهان المستمعين إليهم، وفي مدارك المتلقّين عنهم، أنّ ما يقومون به هو السّلوك الحسن، والطّريق الصّحيح، فيسيرون هم بدورهم في هذا الدّرب الضارّ باللّغة العربية. " إنّ المثقّف الذي يدير شأنه الفكري والأدبي والإبداعي بلعته القوميّة، وهو يخطّ ويكتب ويدوّن وينشر ويساجل، ثمّ إذا حاور أو ارتجل أو تحدّث عير أمواج الأثير أو على شاشات المرايا توسّل باللّهجة العامية، لهو مثقّف متواطئ على ذاته الثّقافية، ولا يعنيك منه ما قد يبدو عليه من نزعة المجهود الأدبي انسياقًا مع الكسل الذّهني، أو اتّقاء لركوب المحاذير، إنّه يهيّئ المشهد الأوّل من تراجيدية الانتحار الجماعي." ([6])
يعضد الدّكتور عبد الله محمد الغذامي هذا التّصرّف، ويضيف عنصرًا آخر في معضلة استعمال العامية على حساب اللّغة العربيّة الفصحى : "...غير أنّنا -اليوم – صرنا نشاهد بروز اللّهجات المحليّة (العامية)، وكأنّها لغة ثقافيّة رسمية، وصرنا نسمع المسؤولين الكبار ونجوم المجتمع كالفنّانين والفنّانات والرّيّاضيّين يتحدّثون بالعامية. وفي هذا ضرر كبير؛ لأنّ هؤلاء يمثّلون رموزًا ونجومًا اجتماعية، يميل النّاس إلى تقليدهم في اللّباس والتّصرّفات وطرائق الكلام، وهذا يحسّن من شأن (العامية)، ويجعلها محبوبة ومقبولة، في حين تتراجع الفصحى إلى مقام خاصّ، ويجري تمثيلها عبر نماذج غير رمزية وغير نجوميّة." ([7])
حين يغدو الوعاء هو اللّهجة المحليّة، وحين يكون رموز هذا الوعاء هم مثقّفون ونجوم المجتمع، وحين يكون الانجذاب إلى هذه اللّهجة كبيرًا... فماذا يبقى للّغة العربية الفصيحة من فضاء تدرج فيه؟ وماذا يكون لها من دور في تنشيط الحياة العامّة؟ وكيف تتحرّك اللّغة العربيّة وسط هذا المجال الموبوء في بيئتها. أنّى لها أن تقدّم شيئًا مهمًّا في رسالتها، فضلاً عن أن تتطوّر، أو أن تتقدّم خطوات إلى العالمية؟ وكلّ ما في محيطها يعاكسها، ويضايقها، أو يتخلّى عنها إلى وسائط أخرى؟
5 – الافتتان باللّغات الأجنبيّة:
أخذ الولوع باللّغات الأجنبيّة مجرًى خطيرًا على اللّغة العربيّة، وصل حدّ هجران اللّغة (الأمّ)، بعد رميها بالعقم وعدم الجدوى في عالم اليوم. يكاد هذا الدّاء يعمّ كلّ القطاعات، ويصيب كلّ الفئات، حتّى التي لا تحسن النّطق باللّغة الأجنبيّة، ولا التّعامل والإفادة منها، المهمّ أن يكون ذلك تقليعة عصريّة (غير مدروسة) ، وتكون برهانًا على التّقدّم والتّطوّر... والخطر يكون عظيمًا حين يحدث في المؤسّسات التّربوية التّكوينيّة الموجِّهة المؤسِّسة للكيان، والمسؤولة عن وضع قواعد البناء والأركان. يقول الدّكتور أحمد بوطرفاية: " كما أنّ هذا الافتتان باللّغة الأجنبيّة أخذ نصيبه في قطاع التّربية والتّعليم، وصار الإنسان العربي يحرص على تعليم أطفاله اللّغات الأجنبيّة، وكانت المدارس الخاصّة سبّاقةً في ترسيخ هذا الاتّجاه، بل ذهبت إلى ما هو أخطر من ذلك، وصارت تقوم بتدريس المواد العلميّة بهذه اللّغة الأجنبيّة، وبهذا تمّ إقصاء اللّغة العربيّة، وإبعادها عن مكانتها الطّبيعيّة، وكذلك الحال بالنّسبة للتّعليم الرّسمي، وما يشتمل عليه من ازدواجية اللّغات في مراحله المختلفة في الأقطار العربيّة..." ([8])
6 – انتشار التّعليم الخاصّ الأجنبي من دون استراتيجيّة:
هذه المدارس غير ملتزمة بأصول الأوطان التي توجد فيها، تترعرع وتتململ وتتحرّك فيها، وغير مكترثة بمشاعر أهلها، تنتهج نهجًا يضرّ بالبلاد والعباد، ولا يهمّها سوى ما تراه متماشيًا مع مصالحها وأهدافها. من ذلك التّدريس باللّغة الأجنبية، مقصية اللّغة العربيّة من مناهجها إقصاء كليًّا، أو جزئيًا، بما يضرّ بالهوية وبالشّخصيّة. في غياب استراتيجيّة مدروسة محكمة من المسيّرين لشؤون التّربيّة والتّعليم في هذا البلد العربي أو ذاك. وقد يكون التّراخي منهم، وعدم مراقبة ما يحدث للّغة العربيّة وثقافتها من اضطهاد ونحرٍ ووأْدٍ في ديارها؛ لأسباب وعوامل ودوافع.
7 – تهميش اللّغة العربيّة في التّعليم العالي:
للتّعليم العالي دور كبير في تخريج الكفاءات التي ترفع البلاد على قواعد، تكون الأساس الذي تنهض به. هذه الطّاقات التي تسيّر البلاد وتوجّهه الوجهة التي يراد لها أن تكون عليه في مستقبل أيّامِ أيِّ وطنٍ. هذا التّعليم وقع فيه انحراف من النّاحية الحضارية والثّقافيّة؛ بسبب تهميش مقوّم رئيس في البناء الحضاري الصّحيح، وهو اللّغة العربيّة. إذ همّشت، وفي بعض الميادين أقصيت نهائيًا من التّكوين والإعداد. فأصبح أبناء اللّغة العربيّة يُعَدّون بغير اللّغة العربيّة؛ حتّى رسخت في أذهان الأجيال الصّاعدة المتلاحقة حقيقةٌ، هي: إنّه لاّ جدوى من اللّغة العربيّة، فلا مَقام لها في السّاحة الثّقافية، ولا مُقام لها في أرضهم. هذه معضلة ومشكلة تلحق الأذى باللّغة العربيّة أوّلا، وتمنعها من أن تنتقل إلى العالميّة ثانيًا، بهذا التّصرّف المشين المُهين للشّخصية الحقيقيّة.
يقول الدّكتور عادل نوفل: " تعدّ قضيّة تعريب التّعليم العالي في الوطن العربي من القضايا القوميّة الرّئيسة، وتؤكّد البحوث والدّراسات أنّ غربة التّعليم العالي عن واقعه العربي، وضعف ارتباطه بقضايا التّنمية، يمكن إرجاعها بالأساس إلى أنّه تعليم مستورد من ثقافات أخرى في محتواه ولغته...وما زالت قضيّة تعريب التّعليم العالي في محتواه ولغته قضيّة ثانوية، لم تأخذ بعدها القومي؛ بالرّغم من طرحها في العديد من المؤتمرات، وعلى المستويات العليا، وبالرّغم من خطورة أبعادها ونتائجها، فإنّ دولة عربيّة واحدة فقط – سورية – قد خطت خطوات جادّة في طريق تعريب التّعليم كافّة، والتّعليم العالي منه بخاصّة، وبالرّغم من المشاكل والمعوّقات، التي تواجه هذه الجهود؛ بسبب فرديّة العمل، فإنّ النّتائج ستكون آثارها إيجابيّة على التّعليم السّوري بصفة خاصّة، والعربي بصفة عامّة." ([9])
8– المغالاة في اشتراط إتقان اللّغة الأجنبية للعمل في البلاد العربيّة:
بالرّغم من ضرورة إتقان اللّغة الأجنبيّة للعمل في بعض القطاعات، لضمان السّير الحسن للعمل فيها، إلاّ أنّ الشّطط في اشتراط هذا الإتقان، يُوجِد مشكلة حضارية، ويولّد أزمة هويّة، ويؤدّي إلى اختلال في الشّخصية؛ لأنّ ابن العربي يعاني حرمانًا من الوظيفة في أرضه وداره، يأخذها عنه أجنبيّ، فيسطو على حقّه. ويسبّب له عقدة نفسيّة، تجعل ابن البيئة يحمل قناعة أنّ الوجود الحقيقي هو للأجدى والأنفع، والارتباط يجب أن يكون بالأقوى؛ لأنّ سنّة الحياة تمنح البقاء للأصلح والأقوى، فاللّغة الأجنبيّة قويّة وصالحة، واللّغة العربيّة بعيدة عن ذلك، فلماذا التّمسّك بها؟ يقول الدّكتور أحمد بوطرفاية: " وممّا يواجه اللّغة العربيّة في سوق العمل المغالاة في اشتراط إجادة اللّغة الإنجليزية أو الفرنسية في بعض البلدان:كتابة وقراءة وتحدّثًا من قبل الشّركات الأجنبيّة، وبعض المؤسّسات والشّركات الوطنيّة، إذ أصبح المواطن غريبًا لغويًّا في كثير من المؤسّسات والشّركات، وفي أماكن النّفع والخدمات العموميّة، كبعض المستشفيات والفنادق والمطاعم ووكالات السّفر والسّياحة، حيث يمكن القول إنّ المواطن أُجبر على تعلّم اللّغة الأجنبيّة كي يحصل على مطلوبه، وهذا وضع شاذٌّ، إذ المفروض أن تقع مسؤولية تعلّم اللّغة العربيّة على عاتق العامل الأجنبي، فهو الذي ينبغي أن يجيد لغة البلاد التي يعمل بها." ([10])
9- انعكاسات الفجوة الرّقميّة على تطوّر اللّغة العربيّة:
ساعد انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات عند من يملكها، ومن يستخدمها بعناية وكفاية، على معالجة المعلومات بسرعة وتنقية عالية... ساعد على إمداده بإمكانات هائلة لتخزينها، والتّصرّف فيها بشكل جيّد، وبذلك طوّر من أدائه ونشاطه، وأعطى له ذلك قوّة التّحكّم في مجريات التّطوّر في الحياة العامّة... يقول الدّكتور منصور فرح عن الدّول التي تملك هذه التّكنولوجيا، إنّها مكّنتها " من السّيطرة على المعلومات والمعارف باستخدام التّقنيات الرّقميّة الحديثة، ممّا أدّى إلى تسارع لا مثيل له من قبل في الإنتاج الصّناعي والمعرفي المبني على التّجديد والإبداع. ومع توسّع شبكة الإنترنيت ووسائل الاتّصالات الرّقميّة المختلفة أخذت العولمة أبعادًا جديدة، جعلت الدّول الغنيّة تحكم سيطرتها على الدّول النّامية، من خلال ما بات يعرف بالاقتصاد المبني على المعرفة، وازدادت الهوّة بين الأغنياء والفقراء على جميع المستويات، ومنها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والعلميّة." ([11])
واضح ممّا أشار إليه الدّكتور أنّ سرعة امتلاك المعرفة، واستخدامها بشكل جيّد وممنهج في تطوير الحياة في مختلف نواحيها، وفرض الحضور في مجتمعات المعرفة، والسّاحات العلميّة بقوّة، وضمان عدم الزّحزحة عن ركب التّقدّم والتّطوّر...يتطلّب إتقان أساليب توليد المعرفة، وإعادة توليدها من جديد، ويكون هذا في دأب وعمل مستمرّ، مرتبط بمعطيات التّطوّر التّكنولوجي لوسائل الاتّصال المتجدّدة في كلّ لحظة وآن.
ما نصيب اللّغة العربيّة من ذلك؟ في الحقيقة إنّ الجواب مخجل ومحزن؛ لأنّ أهلها لم يعملوا على تطوير أساليب الاتّصال الحديثة، بما يمكّنها من استيعاب المعارف الجديدة. ربّما يرجع هذا إلى كونهم لم يقتنعوا بجدواها وقدرتها على السّير في هذا الطّريق، كما بيّنا هذا في سياق سرد المشاكل والتّحدّيات التي تعاني منها من بنيها، الذين رموها بالعقم وبالنّقص وقلّة الجدوى. بهذه النّظرة وهذه الوضعية، لا يمكن لها أن تقترب من عتبة العالمية، مع قدرتها على ذلك بجدارة واستحقاق. وما نسجّله بكلّ حسرة وأسى هو أنّ الفجوة تزداد اتّساعًا بين ما للعربيّة من إمكانات وعناصر قويّة للتّطوّر واستخدام الوسائل الحديثة في الاتّصالات، وما يجب أن تحمله رسالةً، تقوم بها، لتضطلع بدور كبير في مسيرة الحركة الفكريّة العالميّة، لتمكين أهلها وغيرهم من امتلاك المعرفة بقوّة وبسرعة لتطوير الحياة. ولهذا تردّد على لسان الباحثين الأصلاء ترجمة عن مشاعر اللّغة العربيّة: " أعطني العلماء أعبّر لكم عمّا لم تنطق به الألسن من قبل".
ما تملكه اللّغة العربيّة من إمكانات لتأتي بما لم تأتِ به اللّغات الأخرى، وما تنطق به الألسن، يبيّن ما لها من قدرة على التّمركز على أريكة العالميّة. في الوقت نفسه تُعَدُّ اللّغةَ الأمَّ لعدد كبير من سكّان المعمورة الذين يشكّلون وزنًا في الحياة العامّة، ويشغلون حيّزًا كبيرًا في البسيطة كمًّا وكيفًا، إذا عرفوا أقدارهم واحترموا قيمهم, من هنا يأتي التّأكيد على ضرورة القناعة بأنّ التّطوّر الحقيقي يكون بواسطة اللّغة الأمّ، فالعرب والمسلمون لا يمكنهم التّقدّم إلاّ إذا التجؤوا إلى لغتهم، وركبوها لتحلّق بهم في سماء الرّفعة والسّؤدد. يقول الدّكتور منصور فرح: " وتشكّل اللّغةُ الأمُّ الأداةَ الأهمّ في تداول المعلومات وتوليد المعارف، فهي التي تستخدم في التّربية والتّعليم، وهي التي تسمح بالتّفاعل بين المواطنين، الفقراء منهم والأغنياء، وبينهم وبين المؤسّسات الوطنيّة المختلفة. واللّغة العربيّة هي لغة تجمع البلدان العربيّة، وتسمح بتوسيع نطاق المعارف ما بينها، وهي لغة قابلة للتّطوّر واستيعاب الجديد والمبتكر في العلوم والتّقانة، كما في حياتنا اليومية..." ([12])
يرى الدّكتور منصور فرح أنّ ردم الفجوة الرّقمية، وإتاحة الفرص للّغة العربيّة لتتطوّر يتطلّب: " جهودًا مكثّفة مبرمجة، من قبل جهات عدّة، تمتدّ على حقبة من الزّمن، ما يتطلّب عملية تنسيق ومتابعة حثيثة، وإعادة نظر مستمرّ، ولكن بعض الأمور المرتبطة باللّغة العربيّة وتطوّرها تحتاج إلى معالجة، وتشكّل فرصًا للتّقدّم، وتطوير اللّغة العربيّة، ونكتفي في هذا البحث بالتّطرّق إلى أربعة منها، وهي تطوير التّعليم والتّعلّم باللّغة العربيّة، وبناء صناعة المحتوى الرّقمي العربي، وتمكين استخدام الإنترنيت بالعربيّة، والاعتماد على المشاركة المفتوحة لتطوير ونشر العربيّة.([13])
10 – خوف الغرب من تزايد الوزن الحضاري للّغة العربية في المستقبل:
إنّ ممّا يرعب الغرب ويقضّ مضجعة تنامي انتشار اللّغة العربيّة، وازدياد حضورها في المجتمعات العلميّة، والمؤسّسات الثّقافية. يحدث هذا بعد ركود وهمود أصابا اللّغة العربيّة، سَمحا للغرب أن يتطاول على العالم، ويفرض إرادته ومشروعاته. هو يعلم جيّدًا حقيقة هذه اللّغة وما تتمتّع به من قوّة وأصالة، جعلتا منها في الماضي وعاء ثريًّا وقويًّا لبناء الحضارة الإنسانية، ومصدرًا كبيرًا للفكر العالمي، أعلامه وأقطابه يعرفون جيّدًا أنّهم وأسلافهم تعلّموا من هذه اللّغة، بروزُها بشكل قويّ من جديد يقوّض كلّ مخطّطاتهم، ويفسد كلّ مشروعاتهم؛ لهذا يرون أنّه لا مفرّ ولا مناص من محاربتها بكلّ الطّرق والوسائل. هاجسهم هذا مبنيّ على معطيات موضوعيّة، إلى جانب معرفتهم الكاملة بخصوبة هذه اللّغة وقدرتها على الإبداع والتّطوير، وهو ما يبزّ لغاتهم، إذا ما أتيح أن تتحرّك بحريّة وطلاقة، فهي لغة حوالي المليار من العرب والمسلمين، الذين يشكّلون رقمًا له وزنه في تحريك الحياة العامّة. أي إن العربيّة هي مرجعيتهم التي يلوذون بها في الصّدور في نشاطهم وحركاتهم. يقول الدّكتور عبد السّلام المسدّي: " إنّ هؤلاء المخطّطين الاستراتيجيّين يقرؤون للحقيقة الموضوعية حسابها. فاللّسان العربي هو اللّغة القوميّة لحوالي 270 مليون نسمة، وهو يمثّل إلى جانب ذلك بدون شكّ مرجعيّة اعتباريّة لأكثر من 750 مليون مسلم غير عربي، كلّهم يتوق إلى اكتساب اللّغة العربيّة بحذق ومهارة، فإن لم يتقنوها فلأنّها ليست لغتهم القومية، فإنّهم في أيسر الاحتمالات يناصرونها، ويحتمون بأنموذجها.
ثمّ إنّ اللّسان العربي حامل تراث، وناقل معرفة، وشاهد حيٌّ على الجذور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة في كلّ العلوم النّظريّة والطّبيّة والفلسفية، وهو بهذا الاعتبار يخيفهم أكثر ممّا يخيفهم اللّسان الصّيني أو الهندي، ولا يغفل هؤلاء المهندسون الثّقافيّون السّاهرون على برمَجةِ الذّهن الجماعي في عصر الأمميّة والكونية عن الرّسالة الحضاريّة والرّوحيّة التي حَمَلت بها اللّغة العربيّة، وهم العارفون بأنّ التّماهي بين اللّغة العربيّة والهويّة لم يبلغ تمامه الأقصى في الثّقافات الإنسانيّة مثلما بلغه عند العرب بكلّّّّّ اطّراد تاريخي، وبكلّ تواتر فكري واجتماع ونفسي. " ([14])
هذا الهلع من اللّغة العربية، يسوق الغرب بدافع الكراهية والحسد وحبّ السّيطرة والهيمنة...إلى اتّخاذ إجراءات عدائيّة، وارتكاب جرائم ثقافيّة في حقّ اللّغة العربيّة؛ حتّى لا تبرز في السّاحة الدّولية، بالشّكل الذي يهدّد مصالح الغرب، ويجهض مشروعاته. هذا تحدٍّ آخر خطير وكبير يواجه اللّغة العربيّة. يقف حاجزًا وعائقًا في طريق عالميتها، وحضورها في الفكر العالمي بقوّة.
هذه بعض المعيقات التي تعترض سبيل اللّغة العربيّة كي تسير نحو العالميّة، وتقدّم إسهامات مجدية وكبيرة للفكر العالمي، كما كانت عليه من قبل. يجب إزالة هذه العقبات قبل الحديث أو تقويم دورها ومكانتها وحضورها، أو علاقتها بالفكر العالمي؛ حتّى لا نظلمها بإصدار أحكام جائرة نحوها. كما لا ينبغي أن نتجاهل هذه الحقائق، ونحلم بأنّ لغتنا بخير، وأنّنا بها نبلغ كلّ هدف، ونحقّق كلّ مأمول، شفيعنا ومؤازرنا وسندنا في هذا ماضيها المشرق، وإنجازاتها الكبيرة، وريادتها القديمة للفكر العالمي...فيقال لنا ما قاله شاعر العراق معروف الرّصافي:
وهل إن كان حاضرنا شقيًّـــا نسود بكون ماضينا سعيـــدَا
هذا تضليل للنّاس وظلم لهم. إنّ ما يجب عمله هو وعي الواقع الذي نعيشه، والاعتراف بالتّقصير نحو اللّغة العربيّة، واليقين بأنّها ستتبوّأ مكانها الحقيقي في الرّيادة والقيادة والسّيادة، في سيرورة الفكر العالمي، إذا قمنا بواجبنا نحوها؛ بتبنّي مشروعات نهضوية، محكمة التّدبير والتّخطيط، قويّة التّطبيق، ملزمة التّنفيذ...
________________________________________
[1] - مجلّة اللّغة العربيّة، ع: 16، ص: 284.
[2] - المصدر السّابق، ص: 283.
[3] - الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام، " راهن اللّغة العربيّة في أوطانها ومسؤولية أبنائها نحوها"، كتاب العربيّة الرّاهن والمأمول، ص: 177، 178.
[4] - العربيّة الرّاهن والمأمول، ص: 762.
[5] - محمد بن قاسم ناصر بوحجام، " راهن اللّغة العربيّة في أوطانها ومسؤولية أبنائها نحوها "، كتاب العربيّة الرّاهن والمأمول، ص: 188.
[6] - مستقبل الثّقافة العربيّة في القرن الحادي والعشرين، ص: 340. ينظر أيضًا ص: 341.
[7] - الدّكتور عبد الله محمد الغذامي، " اللّغة العربيّة في مواجهة تحدّيات القرن العشرين"، المصدر السّابق، ص: 352.
[8] - العربيّة الرّاهن والمأمول، ص: 773.
[9] - العربيّة الرّاهن والمأمول، ص: 761، 762.
[10] - المصدر السّابق، ص: 773.
[11] - الدّكتور منصور فرح، " الفجوة الرّقميّة في المجتمع العربي وأثرها على اللّغة العربيّة "، مجلّة المجمع الجزائري للّغة العربيّة، س:3، ع: 6، ص: 79، 80. استُخدِم تعبير الفجوة الرّقميّة لأوّل مرّة سنة 1995م للدّلالة على هذه الهوّة الواسعة التي تفصل من يملك الأدوات الحديثة لتوليد المعرفة واستغلالها ونشرها ومن لا يتسنّى له ذلك... ينظر المصدر نفسه، ص: 80.
[12] - المصدر السّابق، ص: 109، 110.
[13] - المصدر السّابق، ص: 96. ينظر تفصيل هذا ص: 96 – 110.
[14] - الدّكتور عبد السّلام المسدّي، " الثّقافة العربيّة والعولمة من خلال أنموذج اللّغة "، كتاب مستقبل الثّقافة العربيّة في القرن الحادي والعشرين، ص: 320.