ظل
المسلمون طيلة العهد المكّي يتوجّهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ؛ امتثالاً
لأمر الله سبحانه وتعالى ، الذي أمر باستقبالها ، وجعلها قبلةً للصلاة .
وفي
تلك الأثناء كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمتثل الحكم الإلهي وفي
فؤاده أمنية كبيرة طالما ظلّت تراوده ، وتتمثّل في التوجّه إلى الكعبة
بدلاً من بيت المقدس ، ذلك لأنها قبلة أبيه إبراهيم
عليه السلام وهو أولى الناس به ، وأوّل بيتٍ وضع للناس للناس ، ولحرصه على
أن تتميّز الأمة الإسلامية في عبادتها عن غيرها من الأمم التي حرّفت
وبدّلت ويدلّ على ذلك قول البراء بن عازب رضي الله عنه : " وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة " رواه البخاري .
وما
كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو العبد المأمور أن يخالف أمر
ربّه ، بيد أنه استطاع الجمع بين رغبته في التوجّه إلى الكعبة وعدم مخالفة
الأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس بأن يصلّي أمام الكعبة ولكن متّجها إلى
الشمال ، كما يدلّ عليه الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه حيث قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه " رواه أحمد .
ثم
أذن الله بالهجرة ، ووصل المسلمون إلى المدينة ، وبُنيت المساجد ، وشرع
الأذان ، والنبي - صلى الله عليه وسلم -لم ينس حبّه الأوّل للكعبة ، ويحزنه
ألا يستطيع استقبال القبلتين جميعاً كما كان يفعل في مكّة ، وكان شأنه بين
أن يخفض رأسه خضوعاً لأمر ربّه وأن يرفعه أملاً في إجابة دعوته ، ويصف
القرآن الكريم حال النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } ( البقرة : 144 ) .
وفي منتصف شعبان ، وبعد مرور ستة عشر شهراً من استقبال بيت المقدس ، نزل جبريل عليه السلام بالوحي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليزفّ البشرى بالتوجّه إلى جهة الكعبة ، قال تعالى : { فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ( البقرة : 144 ) .
ويحدّث الصحابي الجليل البراء بن عازب
رضي الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة
نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة
عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت ، وأنه صلّى - أول صلاة
صلاها - صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل
مسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت ، رواه البخاري .
وعلى
الرغم من انتشار الخبر وذيوعه ، إلا أنّه تأخّر عن أهل قباء حتى صلاة
الصبح ، فجاء إليهم رجل فقال : " أنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم
- قرآنا أن يستقبل الكعبة فاستقبِلُوها "، فتوجهوا إلى الكعبة ، رواه البخاري .
ولأنّ نسخ الأحكام لم يكن معهوداّ عند المسلمين من قبل ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : "... فأول ما نسخ من القرآن القبلة " ، رواه النسائي ، لذلك كرّر الله الأمر بها تأكيداً وتقريراً ثلاث مرّات : الأولى في قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ( البقرة : 144 ) ، والثانية في قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون } ( البقرة : 149 ) ، والثالثة في قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم } ( البقرة : 150 ) .
وقد
تباينت ردود أفعل الناس تجاه هذا الحادث غير المألوف ، أما المؤمنين فلم
يترددوا لحظة عن التحوّل طاعةً لله ورسوله ، فامتدحهم الله تعالى ، وبيّن
لهم أن هذه الحادثة إنما كانت اختبارا للناس وامتحاناً لهم كما قال تعالى :
{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } ( البقرة : 143 ) .
وأظهر
بعض المسلمين القلق على من لم يكتب الله له شرف الصلاة إلى الكعبة ممن مات
قبلهم ، وخافوا من حبوط أعمالهم ، وقالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا
الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، ؟ فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ( البقرة : 143 ) - يعني صلاتكم - رواه الترمذي وأصله في الصحيح.
وأما
اليهود فقد عابوا على المسلمين رجوعهم عن بيت المقدس إلى الكعبة ، وقابلوا
ذلك بالسخرية والاستهجان ، واستغلّوا ذلك الحدث بدهاءٍ ليمرّروا من خلاله
الشكوك والتساؤلات طعناً في الشريعة وتعميةً لحقائقها ، وقد حذّر الله
سبحانه وتعالى المسلمين وأخبرهم بموقف اليهود قبل وقوعه فقال : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ( البقرة : 142 ) .
وهكذا تحقّق للمسلمين فضل التوجّه إلى القبلتين جميعاً ، واستطاعوا أن يجتازوا هذا الامتحان الإلهي ، وبذلك نالوا شهادة الله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }
( البقرة : 143 ) ، وكان ذلك التحوّل إيذاناً بنهاية الشرك وسقوط رايته ،
وأصبحت الكعبة قبلةً للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .