ما
إن يضع الإنسان جنبه على الفراش ويخضع لسلطان النوم حتى تنطلق روحه لتجوب
عالماً آخر يختلف بحدوده ومقاييسه وطبيعته عن عالم اليقظة ، فلا تعترف روحه
بحواجز الزمان والمكان ، فالعين ترى والأذن تسمع واللسان ينطق والجسد
ساكنٌ في محلّه ، إنه عالم الرؤى والأحلام الذي كان ولا يزال مثار اهتمام
الأفراد والشعوب على مرّ العصور.
وإن
نظرةً إلى التراث النبوي الذي تركه النبي – صلى الله عليه وسلم –، تبيّن
لنا الكثير مما يتعلّق بهديه عليه الصلاة والسلام في قضيّة الرؤى والأحلام ،
وكيفيّة التعامل معها.
وإذا
تحدّثنا عن علاقة النبي – صلى الله عليه وسلم – مع عالم الأحلام والرؤى
فقد بدأت في وقتٍ مبكّر من عمره ، فقد كانت أولى علامات صدق نبوّته ومبعثه ،
كما قالت عائشة رضي الله عنها : ( أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ) متفق عليه .
والرؤى
في الأصل تُطلق على ما يراه الإنسان في نومه ، وتكون حقّاً من عند الله
تعالى بما تحمله من بشارة أو نذارة ، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من
النبوّة .
ويبيّن النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك بقوله : ( الرؤيا الصادقة من الله ) رواه البخاري ، وقوله : ( رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ) متفق عليه .
وفي المقابل هنالك منامات مبعثها وساوس الشيطان وعبثه ببني آدم ، ويعبّر عنها بالأحلام ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الحلم من الشيطان ) متفق عليه ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الرؤيا ثلاث ، منها : أهاويل من الشيطان ليحزن بها بن آدم ) رواه ابن حبان ، ومثل ذلك ما رآه أحد الصحابة في المنام أن عنقه سقط من رأسه فاتبعه وأعاده إلى مكانه ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم : ( إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثنّ به الناس ) رواه مسلم .
وبين
هذين النوعين نوعٌ ثالث ، هو مجرّد تفاعلٍ للنفس تجاه الواقع الذي تعيشه ،
والمواقف التي تمرّ بها ، فتستخرج مخزون ما تراه أو تعايشه في نومها ،
فذلك ما يسمّى بأضغاث الأحلام وأحاديث النفس التي لا تعبير لها ، قال – صلى
الله عليه وسلم : ( ..ومنها ما يهم به الرجل في يقظته ، فيراه في منامه ) رواه ابن حبان .
لكن
السؤال الذي يرد في الأذهان : كيف يتعامل المرء مع هذه الأنواع ؟ لقد بيّن
النبي – صلى الله عليه وسلم – أن على من رأى الرؤيا الصالحة أن يستبشر بها
، وألا يحدّث بها إلا لمحب أو عالم أو ناصح ، فقد قال – صلى الله عليه
وسلم - : ( الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب ) رواه البخاري ، وقال– صلى الله عليه وسلم - : ( لم يبق من النبوة إلا المبشرات : الرؤيا الصالحة ) رواه البخاري ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً ) رواه أحمد .
أما
إن كان ما رآه من جنس الأحلام المزعجة وتلاعبات الشيطان ، فقد أرشد النبي –
صلى الله عليه وسلم – صاحبها بأحد أربعة أمور : أن يتعوّذ بالله من شرّ
الشيطان وشرّ ما رآه ، وأن يبصق عن يساره ثلاثاً ، وأن يتحوّل من شقّه الذي
ينام عليه إلى الشق الآخر ، وألا يخبر بها أحداً ، ويستفاد ذلك من قوله –
صلى الله عليه وسلم : ( وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً ، وليتعوّذ بالله من شر الشيطان وشرها ، ولا يحدث بها أحداً ؛ فإنها لن تضره ) رواه البخاري ومسلم لمسلم ، وزاد في رواية أخرى : ( وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ) . واللفظ
ومن
مسائل الرؤى أن من رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – في المنام فقد رآه
حقّاً ، بشرط أن يكون قد رآه على صفته الحقيقيّة المذكورة في كتب الشمائل
وغيرها ، ودليل ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( من رآني في المنام فقد رآني ؛ فإن الشيطان لا يتمثّل في صورتي ) متفق عليه
ومن
الخطورة أن يستوضح صاحب الرؤيا أو يطلب تأويلها من أي أحد ؛ فقد تكون
سبباً في هلاكه أو وقوع الضرر به ، فعليه ألا يسأل إلا من يثق بعلمه ودينه ،
ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( الرؤيا
تقع على ما تعبر ، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها ، فإذا
رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً ) رواه الحاكم .
ومن
الأمور التي جاء التنبيه عليها حرمة ما يقوم به بعض ضعاف النفوس من اختلاق
بعض الرؤى والأحلام رغبةً في الإثارة أو التشويق ، فقد ورد الوعيد الشديد
على ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من تحلّم بحلم لم يره كُلِّّف أن يعقد بين شعيرتين ، ولن يفعل ) رواه البخاري ، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن من أفرى الفرى أن يُري عينيه في المنام ما لم ترى ) رواه أحمد .
وكتب
الحديث والسنة تذكر جانباً من منامات الرسول – صلى الله عليه وسلم - ،
كمثل رؤيته لدار الهجرة قبل ذهابه إليها ، وما أصاب المؤمنين يوم أحد من
قتل ، ورؤيته لبعض أصحابه الذين سيغزون بعد موته ويركبون البحر ، ورؤيته
عليه الصلاة والسلام لمفاتيح خزائن الأرض التي وضعت بين يديه ، وللملائكة
وهي تحمل له عائشة رضي الله عنها قبل زواجه بها وتقول له : " هذه امرأتك " ، ورؤيته لجانبٍ من عذاب البرزخ ، ورؤيته لعيسى عليه السلام وهو يطوف بالكعبة ، ومشاهدته للمسيح الدجّال ، ولموضع السحر الذي أصيب به ، ولرجلين من مدّعي النبوّة في عهده .
وكان
للنبي – صلى الله عليه وسلم – نصيبٌ من تأويل الرؤى ، فقد أوّل عرض الناس
عليه وعليهم ثيابٌ منها ما يبلغ الصدر ، ومنها ما هو دون ذلك ، وعرض عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وعليه قميص يجره ، أنه الدين ، وأوّل عليه الصلاة والسلام
رؤيا له تتعلّق بشربه لوعاء من لبن ثم إعطائه لما بقي في الوعاء لعمربن الخطاب رضي الله عنه أنه العلم ، وأوّل رؤياه لدار عقبة بن رافع رضي الله عنه وتناوله للرطب بالرفعة في الدنيا والعاقبة في الآخرة ، وأن الدين قد طاب ، وغير ذلك من الرؤى المبثوثة في كتب السنة .
وكان
النبي – صلى الله عليه وسلم – حريصاً على الاستماع إلى ما يراه أصحابه في
منامهم ، ويكثر من سؤالهم – خصوصاً بعد صلاة الفجر – عمّا رأوه في منامهم ،
ومن ذلك رؤيا كلمات الأذان المعروفة ، ومنها كذلك : رؤيا عبدالله بن سلام رضي الله عنه إمساكه بالعروة الوثقى وتأويل ذلك بموته على الإسلام ، ورؤيا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما للجنّة وما فيها من العجائب.
لكن
ما ينبغي التأكيد عليه هو عدم التعلق بالرؤى والمسارعة إلى تصديقها
واستظهار الغيب بها ، ولا يخفى على عاقلٍ الفتن التي حصلت للأمة وما صاحبها
من إراقة للدماء بسبب رؤى وأوهام حملت محملاً خاطئا ، ولكن تبقى تلك
المنامات في إطارها الشرعي المحدّد : مبشرات ، أو منذرات ، أو أضغاث أحلام
لا حقيقة لها.