عند
مقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة كان من المنتظر أن يكون
اليهود هم أول من يعلن الانضمام لقافلة الإسلام والتأييد دعوة التوحيد التي
جاء بها ، وكان من المتصوّر أيضاً أن يكونوا يداً للمسلمين ضد الوثنية
وأتباعها ، فهم أتباع رسالةٍ سماويةٍ ، وقد قامت لديهم البراهين وجاءتهم
البشارات بمقدم هذا النبي .
ولكن
ما حصل هو العكس ، فكان اليهود أول من بادر إلى مقاطعة هذا الدين الجديد ،
وإعلان الانحياز إلى قريشٍ بعواطفهم وألسنتهم ودعاياتهم .
ومنشأ
هذا الموقف ، هو الحسد الذي تولّد في قلوبهم تجاه رسول الله – صلى الله
عليه وسلم - ، حيث اصطفاه الله تعالى من أمّةٍ غير أمّتهم ، ومن مجتمعٍ
مغايرٍ لهم ، وكان ظنّهم أن يكون مبعوثاً فيهم ، إضافة إلى حنقهم وغيظهم
على الانتشار السريع لدعوته عليه الصلاة والسلام .
من
هنا عاش اليهود في عزلةٍ تامة عن أهل المدينة ، ورفضوا الاندماج في
المجتمع الإسلامي ، ولم يقفوا عند هذا الحد ، بل أطلقوا سيل المؤامرات
والدسائس كمحاولةٍ منهم للقضاء على الدولة المسلمة .
وكانت
أوّل الجماعات اليهوديّة إعلاناً لهذه العداوة بني قينقاع الذين كانوا
يسكنون أطراف المدينة ، ولم يتوقّفوا لحظة عن إحداث الشقاق وإثارة المشكلات
بين صفوف المسلمين ، وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين ، وتأييد وتشجيع
للمشركين .
وقد
حاول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إرجاعهم إلى جادة الحق ، فجمعهم في
سوقهم ونصحهم ، وخوّفهم عاقبة كتمان الحق ، وذكّرهم بمصير قريش في بدر ،
فردّوا عليه بكل سفهٍ وحمق : " يا محمد ، لا يغرّنك من نفسك أنك قتلت نفراً
من قريش كانوا أغمارا – يعنون قلّة خبرتهم في الحروب - لا يعرفون القتال ،
إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا " فأنزل الله عز
وجل في ذلك قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون
إلى جهنم وبئس المهاد ، قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل
الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في
ذلك لعبرة لأولي الأبصار } آل عمران : 12 – 13 ) ، رواه أبو داود .
وجاء الموقف الذي يؤكّد الضغينة والحقد الذي يحملوه اليهود ، باستطالتهم على أعراض المسلمين ، فقد ذكر ابن كثير وابن هشام
أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ في سوق بني قينقاع ، فجعلوا يريدونها على
كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، فلما
قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا عليها ، فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على
الصائغ فقتله وكان يهودياً فشدت اليهود على المسلم فقتلوه.
وأمام
هذه التجاوزات الخطيرة ، لم يكن هناك مفرٌّ من حملة تأديبية تمنع من مثل
هذه الممارسات مستقبلاً ، فألغى النبي – صلى الله عليه وسلم – العهد الذي
بينه وبين يهود بني قينقاع ، ثم أمر المسلمين بالاستعداد لمواجهة اليهود .
وانطلق
الجيش في منتصف شهر شوّال من السنة الثانية للهجرة متوجّهاً إلى حصون بني
قينقاع ، وعند الوصول ضرب عليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – حصاراً
محكماً قطع عنهم كل الإمدادات ، واستمرّ ذلك الحصار خمسة عشر يوماً ، حتى
أعلن اليهود استسلامهم ونزولهم على حكم النبي – صلى الله عليه وسلم - .
وهنا
لعبت العلاقات اليهودية مع المنافقين دورها ، فقد قام زعيم المنافقين
عبدالله بن أبي بن سلول بمحاولة تخليصهم من خلال شفاعته عند النبي - صلى
الله عليه وسلم – ، فقد ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال :" يا محمد
، أحسن في مواليَّ - وكانوا حلفاء الخزرج قبل الهجرة – " ، فأبطأ عليه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " يا محمد ، أحسن في موالي ،
فأعرض عنه ، فأدخل يده في ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وجذبه
بقوّة ، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمرّ وجهه وقال : ( أرسلني )
، فقال له : " لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ ، قد منعوني من
الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر " فقال له
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هم لك ) ، رواه ابن إسحاق .
وفي المقابل يبرز الموقف الإيماني للصحابي الجليل عبادة بن الصامت
رضي الله عنه والذي كان حليفاً آخر ليهود بني قينقاع ، فقد أعلن براءته من
حلفائه بكل وضوح قائلاً : " يا رسول الله ، أبرأ إلى الله وإلى رسوله من
حلفهم ، وأتولّى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم "
رواه ابن إسحاق ، وقد سجّل القرآن الكريم المفارقة بين الموقفين بقوله تعالى : {
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض
ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في
قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } (المائدة : 51 - 52 ) .
وصدر
الحكم بإخراج يهود بني قينقاع من المدينة ، وغنم المسلمون ما لديهم من
الأموال ، وتوجّه القوم إلى منطقة يقال لها " أذرعات الشام " ، ولم يمضِ
وقت طويل حتى هلك أكثرهم هناك ، وكان عددهم سبعمائة رجل .
وهذا
الحكم الذي صدر من النبي – صلى الله عليه وسلم – كان لأجل ما بدر منهم من
صدٍّ عن هذا الدين ورفضٍ له ، فالوثيقة التي عقدها النبي – صلى الله عليه
وسلم – مع سكّان المدينة كانت تكفل لهم حرية البقاء والعيش فيها ، ولكن
محاولاتهم المتكرّرة لإخلال الأمن وإشعال الاضطرابات في المجتمع المدني كان
السبب الرئيسي في إجلائهم ، حتى يعود كيدهم في نحورهم ، ويزول الخطر من
وجودهم .