جرت
عادة الناس على اللقاء في المجامع والمنتديات للنقاش حول شؤون الحياة
ومجرياتها واستعراض ما يُثار من القضايا والأخبار ، ويحلو السمر ويطيب
اللقاء بذكر القصص والطرائف والذكريات .
والإسلام
يعلم حاجة الناس إلى مثل هذه اللقاءات ولا يمنع منها ، لكنّه يسعى من خلال
تعاليمه ومبادئه إلى الرقيّ بها ، وتصحيح مسارها ، وتنظيم شؤونها ،
وتخليصها من مساوئ الأخلاق ورذائل الأفعال ، حتى تكون أنموذجاً تسود فيه
ألوان القيم والفضائل.
وإذا
كان الناس يتفاوتون في طبائعهم وأخلاقهم وإيمانهم ضعفاً وقوّة ، فقد جاء
التوجيه النبوي باختيار الأفاضل من الناس ، من العلماء والصالحين وذوي
المروءة ، ففي مجالسة أمثال هؤلاء حياة للقلوب وتنوير للعقول وتهذيبٌ
للأرواح ، ويضرب لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثلاً للجليس الصالح
وجليس السوء في قوله : ( مثل الجليس الصالح وجليس
السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك وإما أن تبتاع
منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما
أن تجد ريحا خبيثا ) متفق عليه .
وحرصاً
على البعد عن معاني اللهو والغفلة جاءت النصوص الشرعيّة لتحذّر من المجالس
التي تخلو من ذكر الله ، ونلمس هذا في قول النبي – صلى الله عليه وسلم - :
( ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه الا رأوه حسرة يوم القيامة ) أحمد ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله ، إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار ، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة ) رواه أحمد . رواه
وخير
المجالس هي التي تكون قائمةً على ذكر الله وتلاوة القرآن ، وكفى بهذه
المجالس فضلاً أن يُذكر أصحابها في الملأ الأعلى كما قال النبي – صلى الله
عليه وسلم - : ( إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيّارة
يتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم ، وحفّ بعضهم
بعضاً بأجنحتهم ، حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا ، فإذا تفرّقوا
عرجوا وصعدوا إلى السماء ، فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم : من أين جئتم
؟ ، فيقولون : جئنا من عند عباد لك في الأرض ، يسبّحونك ويكبّرونك ،
ويهلّلونك ويحمدونك ويسألونك ، قال : وماذا يسألوني ؟ ، قالوا : يسألونك
جنتك ، قال : وهل رأوا جنّتي ؟ ، قالوا : لا أي رب ، قال : فكيف لو رأوا
جنّتي ؟ ، قالوا : ويستجيرونك ، قال : ومم يستجيرونني ؟ ، قالوا : من نارك
يا رب ، قال : وهل رأوا ناري ؟ ، قالوا : لا ، قال : فكيف لو رأوا ناري ؟ ،
قالوا : ويستغفرونك ، فيقول : قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم
مما استجاروا ، فيقولون : رب فيهم فلان ، عبد خطّاء ، إنما مرّ فجلس معهم ،
فيقول : وله غفرت ؛ هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) رواه مسلم .
وليس
معنى ذلك النهي عن مجالس الأنس المباح وأحاديث الدنيا على العموم ، فإن
النفس لا غنى لها عما يسلّيها ويعيد لها نشاطها ، ومواعظ النبي – صلى الله
عليه وسلم – لم تكن على الدوام بل كانت بين الحين والآخر خشية السآمة
والملل ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يمتنع عن مجالسة أصحابه حينما
كانوا يتذاكرون أمور الجاهليّة ، ويمزحون في أوقات راحتهم ، فإذا كان وقت
الجدّ رأيت الرجولة والهمّة والنشاط ، والعبادة والذكر والطاعة ، يقول بكر بن عبد الله
رضي الله عنه : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ –
أي يترامون به - ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال " رواه البخاري في الأدب المفرد .
والمقصود
هو الابتعاد عن مقارفة الآثام والمعاصي كالاستماع إلى الغناء المحرّم ، أو
النيل من أعراض الناس بالغيبة والنميمة ، والسخرية والاستهزاء ، وغيرها من
الأخلاق الذميمة التي جاء الوعيد الشديد عليها ، فإذا طهّرت المجالس من
تلك الآفات فقد تحقّق مراد الشارع .
ولأن مجالس الناس لا تخلو - عادة - من الغفلة أو وقوع الزلّة ، شرع النبي – صلى الله عليه وسلم – كفّارة المجلس حيث قال :
( من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك
اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له
ما كان في مجلسه ذلك ) رواه الترمذي ولنا في نبيّنا عليه الصلاة والسلام أسوةٌ حسنة فقد كان يستغفر الله تعالى في المجلس الواحد أكثر من مائة مرّة .
ومن الأدعية المأثورة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله في ختام مجالسه :
( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما
تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ، ومتّعنا
بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا
على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا
تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) رواه الترمذي .
وقد
وضع النبي – صلى الله عليه وسلم – جملةً من الآداب التي ينبغي مراعاتها في
المجالس ، منها الإفساح للقادمين وتوسيع المكان لهم ، وهو أدبٌ قرآني رفيع
كما في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا } ( المجادلة : 12) ، وخير المجالس أوسعها كما جاء في الحديث الصحيح .
ومن محاسن الآداب التي جاء الأمر بها : السلام عند القدوم وعند الذهاب ، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم ، فإن بدا له أن يجلس فليجلس ، ثم إذا قام فليسلم ؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة ) رواه الترمذي ، وكذلك الجلوس حيث ينتهي المجلس ، وهكذا كان حال الصحابة في مجالس النبي – صلى الله عليه وسلم – كما روى ذلك أبو داود في سننه .
وقد أرشد الهدي النبوي بخصوص آداب المجلس إلى أن من قام من مجلسه فهو أحق بالعودة إليه ، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم – : ( إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ) رواه مسلم .
وليس في الجلوس على الطرقات مانعٌ إذا تمّت مراعاة حقوق الطريق ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إياكم والجلوس بالطرقات ) فقالوا : يا رسول الله ، ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها ، فقال : ( فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ) ، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ ، قال : ( غض البصر ، وكفّ الأذى ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ) متفق عليه .
وهناك عدد من الأمور التي جاء النهي عنها مما يكون في مجالس الناس ، كالنهي عن إقامة الرجل من مجلسه ليجلس فيه آخر ، وذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم – ( نهى أن ُيقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ) متفق عليه ، كذلك النهي عن التفريق بين الجالِسيْن في قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ) رواه الترمذي ، والنهي عن الجلوس بين الظل والشمس في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقعد بين الظل والشمس رواه الحاكم .
ومما
جاء في آداب المجالس – علاوة على ما تقدّم – النهي عن تبادل الجالسين
الحديث سرّاً دون أحدهم إلا بإذنه ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - : ( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما ؛ فإن ذلك يحزنه ) متفق عليه واللفظ لمسلم .
وحفاظاً على خصوصيّات الناس جاء النهي عن الاستماع إلى الآخرين من غير إذنهم ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرّون منه ، صُبّ في أذنه الآنك يوم القيامة ) رواه البخاري ، والآنك هو الرصاص المذاب ، وجاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما ) رواه ابن عساكر .
وللمرء
أن يجلس على الوضعية التي يرتاح لها ، فإن شاء جلس متربّعاً ، وإن شاء جلس
متكئاً ، وكلّ ذلك ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنه قد جاء
النهي عن جلساتٍ بعينها ، فجاء النهي عن الاعتماد على اليد اليمني وجعل
اليُسرى خلف الظهر لأنها تشبه جلسة المغضوب عليهم ، فقد رأى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم – أحد الصحابة وقد وضع يده اليسرى خلف ظهره ، واتكأ على
ألية يده اليُمنى فقال له : ( أتقعد قعدة المغضوب عليهم ؟ ) رواه أبو داود .
كما
نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الاحتباء ، وهو أن يقعد الرجل على
أليتيه وينصب ساقيه ويلفّ عليه ثوباً لا يكون ساتراً لعورته ، وجاء النهي
عنه في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
أن : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اشتمال الصمّاء ، وأن يحتبي
الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء ، متفق عليه.
وبمثل
هذه الآداب قدّم النبي – صلى الله عليه وسلم - للناس صورة مثاليّةً في
مضمونها وطبيعتها وما تحقّقه من التوازن بين متطلّبات الدنيا وأمور الآخرة .