بعد
فتح مكّة في العام الثامن للهجرة ، وانتهاء غزوة تبوك ، وسقوط آخر المعاقل
المقاومة لدولة الإسلام ، وظهور نتائج الصراع بين الحق والباطل ، وبين
التوحيد والشرك ، بادرت قبائل العرب إلى لإسلام ، وأقبلت الوفود إلى النبي –
صلى الله عليه وسلم - من كل حدبٍ وصوب ، كما قال الله تعالى في كتابه
الكريم : { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً } كابن إسحاق في سيرته و ابن سعد في الطبقات ، وهذه لمحة موجزة عن أهم تلك الوفود :
( النصر : 2 ) ، حتى ازداد عدد تلك الوفود في ذلك العام على الستّين وفداً
- كما تشير مصادر التاريخ - ، واهتمّ بعض العلماء في ذكر تفاصيلها وإيراد
أخبارها
وفد بني تميم
يعتبر
وفد بني تميم من أبرز الوفود التي جاءت إلى المدينة في ذلك العام ، وذلك
لمكانتها بين قبائل العرب ، وسمعتها في مجال الأدب والخطابة والشعر .
وكان قدومهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبب سريّة عيينة بن حصن رضي الله عنه إليهم ، فقد أسر منهم أحد عشر رجلاً وإحدى عشرة امرأة ، فقدم رؤساؤهم وأشرافهم ليشفعوا في هؤلاء الأسرى .
ويحكي علماء السيرة تفاصيل دخولهم على النبي – صلى الله عليه وسلم – وندائهم له على نحوٍ منافٍ للأدب نزل على إثرها قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }
( الحجرات : 4 ) ، كما جرى بينهم وبين المسلمين سجالات شعريّة ومعارضات
خطابيّة ، كانت في النهاية سبباً في إسلامهم وإسلام قومهم بعد ذلك.
وفد عبدالقيس
تذكر المصادر التاريخية أن رجلاً من بني عبدالقيس يُقال له منقذ بن حيّان
كان يرد المدينة للتجارة ، فرأى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنصت
لكلامه فأعجبه ، فأسلم وحسن إسلامه ، ثم بعثه النبي – صلى الله عليه وسلم –
بكتابٍ إلى قومه يدعوهم إلا الإسلام ، فتوافدوا عليه في ذلك العام وسألوه
عن الإيمان والأشربة ، وكان كبيرهم هو الأشج الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) رواه مسلم .
وفد نجران
كان
النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أرسل إلى نصارى نجران يدعوهم فيه إلى
الإسلام ، فبعثوا إليه بوفد من أشرافهم ليقابلوه ، ودار النقاش طويلاً بين
أولئك النصارى وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونزلت الكثير من
الآيات التي تجيب عن تساؤلاتهم .
وبعد
أن رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعنّتهم وإصرارهم على تزوير
الحقائق دعاهم إلى المباهلة – أي الملاعنة - كما أمره الله تعالى في قوله :
{ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا
ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل
لعنة الله على الكاذبين } ( آل عمران : 61 ) ، فامتنعوا عن
المباهلة خشية أن يكون ذلك سبباً في هلاكهم ونزول العذاب عليهم ، ثم
تصالحوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – على دفع الخراج ، واشترطوا أن
يبعث معهم رجلاً أمينا لقبض المال منهم ، فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة ، رواه البخاري ، ثم ما لبث الإسلام أن انتشر بينهم ، حتى بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – من يأخذ منهم صدقاتهم.
وفد بني حنيفة
جاء وفد بني حنيفة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مسيلمة الكذّاب ، فأسلموا ونزلوا في دار بنت الحارث
التي كانت مخصّصة للوفود ، أما مسيلمة فكان يطمع في الملك والرياسة
واستنكف عن الإسلام ، ولذلك كان يقول لمن حوله : " إن جعل لي محمد الأمر من
بعده تبعته " ، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – مقالته أقبل
إليه ومعه ثابت بن قيس رضي الله عنه ، وفي يده عليه الصلاة والسلام قطعةٌ من جريد النخل ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : ( لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وهذا ثابت يجيبك عني ) ، ثم انصرف عنه ، رواه البخاري .
وكان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قد رأى في منامه كأنّ في يديه سوارين من
ذهب ، فأصابه الهمّ لذلك ، حتى سمع في المنام من يأمره أن ينفخ فيهما ،
فلما فعل ذلك استحالا تراباً ، فأوّلهما النبي – صلى الله عليه وسلم –
بخروج من يدّعي النبوة كذباً وبهتاناً ، فكان أحدهما العنسيّ في اليمن ،
ومسيلمة في بني حنيفة ، وتفاصيل الرؤيا في صحيح البخاري .
وفد الحميريّين من أهل اليمن
كانت
للحميريّين وفادة في السنة التاسعة من الهجرة وافقت قدوم وفد بني تميم ،
وكانوا أفضل منهم ، فقد قبلوا بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، كما
جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : ( يا أهل اليمن اقبلوا البشرى ، إذ لم يقبلها بنو تميم ) فقالوا : " قبلنا " ، رواه البخاري
، ثم قالوا : " أتيناك لنتفقّه في الدين " ، وسألوه عن بدء الخلق وأحوال
العالم ، فأجابهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك كلّه كما في البخاري .
وفد طيء
قدم وفد من أعيان طيء للقاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وبصحبتهم سيّدهم زيد الخيل رضي الله عنه ، والذي أسماه النبي – صلى الله عليه وسلم - زيد الخير ، فعرض عليهم النبي عليه الصلاة والسلام الإسلام فقبلوه ، وحسن إسلامهم .
وفد بني عامر
استقبل
النبي – صلى الله عليه وسلم – وفد بني عامر وأحسن ضيافتهم ، فأعجبوا
بأخلاقه عليه الصلاة والسلام فأسلموا جميعاً ، وأعلنوا تأييده ، وبالغوا في
مدحه ، فعن أبي مطرف رضي الله عنه قال : " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : أنت سيّدنا ، فقال : ( السيد الله تبارك وتعالى ) ، قلنا : وأفضلنا فضلاً ، وأعظمنا طولا ، فقال لنا : ( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينّكم الشيطان ) رواه الترمذي .
وممن
جاء في ذلك الوفد زعيم القوم عامر بن الطفيل ، لكنّه لم يأت مهاجراً إلى
الله ورسوله ، بل قدم يريد الغدر برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكفاه
الله شرّه ، وقد عرض على النبي عليه الصلاة والسلام مقاسمته في الملك ، أو
أن يعهد إليه بالخلافة من بعده ، وإلا فالحرب بينه وبين المسلمين ، ولم
تمضِ أيّام قليلة على تهديده حتى ابتلاه الله تعالى بالأورام الخبيثة فمات
وهو راكبٌ فرسه ، رواه البخاري .
وفد بني سعد بن بكر
أرسلت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وافداً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ويروي الإمام البخاري قصة قدومه عن أنس بن مالك
رضي الله عنه أنه قال : " بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
في المسجد ، دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله – أي أوثق حباله - ،
ثم قال لهم : أيكم محمد ؟ ، والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم ،
فقلنا : هذا الرجل الأبيض المتكئ ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - :
الرجل ابن عبد المطلب ؟ ، فقال له : ( قد أجبتك ) ، فقال الرجل : إني سائلك فمشدد عليك في المسألة ، فلا تجد عليّ في نفسك ، فقال : ( سل عما بدا لك ) ، فقال له : أسألك بربك ورب من قبلك ، آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ ، فقال : ( اللهم نعم ) ، فقال : أنشدك بالله ، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ ، فقال : ( اللهم نعم ) ، فقال له : أنشدك بالله ، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة ، فقال : ( اللهم نعم ) ، فقال له : أنشدك بالله ، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم نعم ) فقال الرجل: آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر "أ.هـ.
ولما رجع إلى قومه اجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى : قالوا مه – أي : اسكت - يا ضمام ابن عباس ضمام بن ثعلبة " رواه أحمد .
، اتق البرص والجذام ، اتق الجنون ، قال : ويلكم ، إنهما والله لا يضران
ولا ينفعان ، إن الله عز وجل قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به
مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا
عبده ورسوله ، إنى قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه " ، ولم يمض
ذلك اليوم حتى أسلم ديار بني بكر كلّها ، يقول قال رضي الله عنهما : " فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من
وفد المراديين
ذكر علماء السيرة قدوم فروة بن مسيك المرادي رضي الله عنه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – مع جماعة من قومه ، كما أورد الإمام الترمذي
طرفاً من خبره ، حين أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال له : " يا
رسول الله ، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم
، وأمرني ، " ، فلما خرج من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام سأل عنه ،
وأرسل من يطلبه ، فلما جاءه قال له : ( ادع القوم ، فمن أسلم منهم فاقبل منه ، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك ) .
ويروي ابن إسحاق في السيرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استعمله على قبائل مراد ومذحج وزبيد ، وأرسل معه خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه على أمر الصدقة ، وظل معه حتى توفي الرسول – صلى الله عليه وسلم – .
وفد كندة
أرسلت كندة وفداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – يرأسهم الأشعث بن قيس
رضي الله عنه ، فأعلنوا إسلامهم ، واستقرّوا في المدينة أيّاماً ليتلقّوا
العلم من النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وكان من حملة ما سألوه السؤال عما
اشتهر لديهم من عودة أصول أهل قريش إلى كندة ، فنفى النبي عليه الصلاة
والسلام ذلك قائلاً : ( نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفو أمّنا ، ولا ننتفي من أبينا ) والمقصود بالقول السابق إثبات نسبتهم للنضر بن كنانة ، ولذلك كان الأشعث بن قيس ابن ماجة . رضي الله عنه يقول : " لا أوتي برجل نفي رجلا من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد " رواه
وفد قوم جرير بن عبدالله البجلي
قدم جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه من أرض اليمن مع وفد من قومه إلى المدينة ليعلنوا إسلامهم ، ويحكي جرير ( إنه سيدخل عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن ، ألا وإن على وجهه مسحة ملك ) ، يقول جرير رضي الله عنه : فحمدت الله عز وجل " رواه أحمد .
رضي الله عنه لحظات وصوله فيقول : " لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ، ثم
لبست حُلّتي ، ثم دخلت المسجد ، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ،
فرماني الناس بالحدق – أي واجهوا أنظارهم إليه - ، فقلت لجليسي : يا عبد
الله ، هل ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمري شيئا ؟ ، قال :
نعم ، ذكرك بأحسن الذكر ، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته فقال :
وفد ثقيف
عندما
قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم في المسجد ؛ ليكون
أرق لقلوبهم إذا سمعوا القرآن ورأوا الناس تصلي ، فمكثوا يتردّدون على
النبي - صلى الله عليه وسلم – وهو يدعوهم إلى الإسلام ، فعرضوا عليه أن
يعقد معهم صُلحاً يأذن لهم فيه بموجبه بالزنا وشرب الخمر وأكل الربا ،
ويترك لهم اللات ، ويعفيهم من الصلاة ، فأبى النبي – صلى الله عليه وسلم - ،
فتشاوروا فلم يجدوا محيصاً من الإسلام ، واشترطوا أن يتولّى رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – هدم اللات ، وأن ثقيفاً لا يهدمونها بأيديهم قبل ذلك ،
وأمّر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه لأنه كان أحرصهم على التفقّه في الدين وتعلّم القرآن .
وفد تميم الداري
كان تميم الداري
رضي الله عنه رجلا نصرانيا ، فجاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم فبايعه
على الإسلام ، وقد سرّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بلقائه ، فقد كان
شاهداً على صدقه عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به من أمر الدجال وأوصافه ،
حينما التقى به في إحدى أسفاره ، والقصّة بتمامها مذكورة في صحيح مسلم .
وبإمكاننا
أن نستقي من الأخبار السايقة المنهج النبوي العظيم في كيفيّة التعامل مع
المدعوّين ومراعاة مشاعرهم واختلاف مستوى مداركهم ، كما تعكس تلك الأخبار
دقّة النبي – صلى الله عليه وسلم – وتنظيمه من خلال تهيأته الأماكن
لاستقبال تلك الوفود وإعداد دور الضيافة لهم ، وتظهر أيضاً حرص القادمين
على معرفة أحكام الدين وشرائعه ، فكانت هدايتهم هدايةً لمن ورائهم من العرب
.