الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وآله وصحبه والتابعين، أما بعد:
خلق ذميم يجب علينا استئصاله من أنفسنا ومحاربته والقضاء عليه؛ لأنه إذا وصل إلى القلوب أفسدها، وبعد بياضها سودها، ويتأكد علينا اجتنابه في كل زمان ومكان، ألا وهو الحسد المذموم،إذا هو من الذنوب المهلكات، وهو أن يجد الإنسان في صدره وقلبه ضيقاً وكراهية لنعمة أنعمها الله على عبد من عباده في دينه أو دنياه، حتى إنه ليحب زوالها عنه، بل وربما سعى في إزالتها، وحسبك في ذمه وقبحه أن الله أمر رسوله بالاستعاذة منه ومن شره،قال تعالى: ومن شر حاسد إذا حسد [الفلق:5].
والحسد المذموم مدخل من مداخل الشيطان إلى القلب، فبالحسد لعن إبليس وجعل شيطاناً رجيماً، ولقد ذم الله الحسد في القرآن الكريم وشدد النكال علي من اتصف به،لأن الحاسد عنده شيء من الاعتراض على أقدار الله التي قدرها على عباده، وهو داء عظيم من أصيب به تبلد حسه وفتح عينيه على كل صغير وكبير، فلا يهمه إلا زوال الخير عن الغير، فلا هو قانع بما قسم الله له ولا هو راض بما قسم الله لغيره، ومما يدل على تحريمه قوله : { الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب } [رواه أبو داود وابن ماجه]. وقوله: { لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد } [رواه البيهقي وابن حبان].
وهو نتيجة من نتائج الحقد، وثمرة من ثمراته المترتبة عليه، فإنه من يحقد على إنسان فإنه يتمني زوال النعمة عنه، ويغتابه في المجالس، ويعتدي على عرضه ويشمت فيه.
ومن أهم أسبابه: العداوة والبغضاء، بين الناس لأي سبب كان، ومنها: التعزز والترفع، وهو أن يثقل على الحاسد أن يرتفع عليه غيره، ومنها العجب والكبر وهو استحقار وتنقص عباد الله ؛ لأنهم حصلوا على مالم يحصل عليه، ومنها حب الرياسة وطلب الجاه والثناء؛ لأن بعض الناس يريدون أن يمدحوا في المجالس،وأن يجلسوا ويتربعوا على ذلك الكرسي الذي يسيل لأجله لعاب الكثيرين، ومنها خبث النفس وحبها للشر وشحها بالخير، فتجد الحاسد إذا ذكر عنده رجل ومدحه الناس تلون وجهه وتوغر صدره ولم يطق المكان الذي هو فيه، أما إذا ذكر عنده رجل حصلت له مشاكل ونكبات استنار وجهه، وخرج إلى مجلس آخر ليبث وينشر خبره وربما أتى بإشاعات في صورة الترحم والتوجع، وهذا من ذله وخسة طبعه اللئيم.
ولذلكـ يعسر معالجة هذا السبب؛ لأن الحاسد ظلوم جهول، وليس يشفي صدره و يزيل حزازة الحسد الكامن في قلبه إلا زوال النعمة عن غيره، فحينئذ قد يتعذر الدواء.
وداريت كل الناس لكن حاسدي *** مداراته عزت وعز منالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمة *** إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
والطامة الكبرى أن تجتمع كل الأسباب في شخص واحد، فهذا لا خير فيه، ولا أمل في علاجه إلا أن يشاء الله.
أعطيت كل الناس من نفسي الرضا *** إلا الحسود فإنه أعياني
لا أنا لي ذنباً لديه علمته *** إلا تظاهر نعمة الرحمن
يطوي على حنق حشاه إذا رأى *** عندي كمال غنى وفضل بيان
مــا أرى يرضيه إلا ذلتي *** وذهاب أموالي وقطع لساني
وللحسد أضرار عظيمة منها: أنه يورث البغضاء بين الناس، ويقطع حبل المودة؛ لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمن وأخيه، يقول : { لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً } [متفق عليه].
ومنها: أنه يحمل الحاسد على محاولة إزالة النعمة عن الحسود بأي طريقة ولو بقتله كما حصل مع ابني آدم عندما قتل أحدهما الآخر.
ومن أضراره: انه يمنع الحاسد من قبول الحق خاصة إذا جاء عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار في الباطل الذي فيه هلاكه، كما حصل من إبليس لما حسد آدم فحمله ذلك على الفسق على أمر الله والامتناع عن السجود، فسبب له الحسد الطرد من رحمة الله.
كما أنه يحمل الحاسد على الوقوع في الغيبة والنميمة والبهتان وهي من الكبائر، كما يحمله على ارتكاب ما حرم الله في حق أخيه، ويجعله في هم وقلق لما يرى من تنزل فضل الله على عباده وهو لا يريد ذلك ولا يقدر على منعهِ فيبقى مهموماً مغموماً.
اصبر على كيد الحسود *** فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
فيعيش الحاسد منغص البال، مكدر المزاج، وكله بما جنته يداه.
أوما رأيت النار تأكل نفسها *** حتى تعود إلى الرماد الهامد
تضفو على المحسود نعمة ربه *** ويذوب من كمد فؤاد الحاسد
إضافة إلى أن الحسد يوقع المجتمع في التخلخل والتفكك؛ ولهذا قال : { دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء } [رواه البيهقي].
أدعو كل حاسد بأن يتقي الله في نفسه، وأن يقنع بما أعطاه الله ولا يفتح عينيه فيما أعطى الله لغيره، ولا يتمنى زوال النعمة عنه، وليدع الخلق للخالق، وليعلم أن الله يقول: { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } [فاطر:43].
لا تحسدن عبداً على فضل نعمة *** فحسبك عاراً أن يقال حسود
وليعلم أن الحسد ممقوت، وهو من تتبع الزلات والعورات، وفي الحديث { من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته } [رواه الترمذي وأبو داود].
ولله سطوات وانتقامات ليست من الظالمين ببعيد: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [إبراهيم:42].
وأدعو كل مسلم ألا يسيء الظن بأخيه المسلم، ولكن مع هذا ليكن كيساً فطنان وليحذر من لؤماء الطبع ولا يغتر بهم، ولا ينخدع بمظهرهم، فالحاسد إذا جلس معك أعطاك من حلو الكلام ما تتمنى أنك لا تفارقه أبداً، وخاصة أنك تري ابتسامات عريضة في وجهه؛ فتنطلي عليك حيلته ومجاملته، ولكن إذا غبت عنه ألبسك ثياباً من التهم والسب والشتم.
يعطيك من طرف اللسان حلاوة *** ويروغ منك كما يروغ الثعلب
يأتيك يحلف أنه بك واثق *** وإذا توارى عنك فهو العقرب
وإذا علمت بحاسد فلا تجالسه ولا تخالطه؛ لأنه ضرر على المجتمع إلا إن تناصحه.
إذا رأيت أنياب الليث بارزة *** فلا تظن أن الليث يبتسم
وأدعو كل محسود عندما يصله الخبر أن فلاناً حسده أو تكلم فيه أن يتثبت ولا يتسرع، فربما هي وشاية من واش أو نميمة من نمام يريد الإيقاع بين المسلمين، وليكن حليماً واسع الصدر، ولا ينتقم فما انتقم رسول الله لنفسه من أحد أبداً. ولا تجادله، ولا تكن سباباً ولا صخاباً، فمكانتك محفوظة ورايتك مرفوعة.
ولا تجادل أية حاسد *** فإنه أدعى لهيبتك
وامش الهوينا مظهراً عفة *** وابغ رضي الأعين عن هيئتك
أفش التحيات إلى أهلها *** سيطلع الناس إلى رتبتك
فإن تأكدت من الأمر فقل لمن أخبرك:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني فاضل
ثم قل لمن حسدكـ:
إذا أدمت قوارضكم فؤادي *** صبرت على أذاكم وانطويت
وجئت إليكم طلق المحيا *** كأني ما سمعت ولا رأيت
واعلم أن هذا ابتلاء من الله وأذية من بعض عباد الله أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:3:2].
ولم يحصل لك شيء بالمقارنة مع ماحصل لرسول الله وأصحابه، وعليك بالصبر والاحتساب، فكل شيء يعلم أجره إلا الصبر؛ لأن الله يقول: إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
كم سيد متفضل قد سبه *** من لا يساوي طعنة في نعله
وإذا استغاب أخو الجهالة عالماً *** كان الدليل على غزارة جهله
أهل المظالم لا تكن تبلي بهم *** فالمرء يحصل زرعه من حقله
أرأيت عصفوراً يحارب باشقاً *** إلا لخفته وقلة عقله
واحرص على التقوى وكن متأدباً ***وارغب عن القول القبيح وبطله
واستصحب الحلم الشريف تجارة *** واعمل بمفروض الكتاب ونقله
واجف الدنيء وإن تقرب إنه *** يؤذيك كالكلب العقور لأهله
واحذر معاشرة السفيه فإنه *** يؤذي العشير بجمعه وبشكله
واحبس لسانك عن رديء مقاله *** وتوق من عثر اللسان وزله
واعلم أن رب ضارةٍ نافعة، وقد تكتسب خيراً بحسد الحاسد لم تكن تتوقعه وهو لا يشعر به:
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار في جزل الغضا *** ما كان يعرف طيب نفح العود
وكان بعض السلف إذا علموا أن شخصاً تكلم فيهم واغتابهم وحسدهم أهدوا إليه هدية كما فعل الشافعي رحمه الله عندما أهدى حاسده هدية وقال له: لقد أهديتني حسنات كثيرة وأنا أكافئك بهدية صغيرة فاقبلها، ثم قال لحاسده: والله لو أحبني أمثالك لشككت في نفسي.
لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من هم العدوات
إني احيي عدوي عند رؤيته *** لادفع الشر عني بالتحيات
أخيراً: فإن داء الحسد من أعظم الأدواء، والابتلاء به من أشد البلوى يحمل صاحبه على مركب صعب، ويبعده عن التقوى، وحق للحاسد أن يعاتبه ربه بقوله: أم يحسدون الناس على ما ءاتهم الله من فضله [النساء:54].
وليس للحسد علاج إلا أن يعرف الحاسد ضرره عليه لا على المحسود؛ لأن النعمة لا تزول بالحسد، وأن يتقي الله في لسانه؛ لأن اللسان ليس كغيره من الأعضاء، فالعين لا تصل إلى غير الصور والألوان، والأذن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل غلى غير المحسوسات، أما اللسان فيصل ويجول في كل شيء، وبه يتبين الربح من الخسران، والمؤمن من أهل الطغيان.
لسانك لا تذكر به عورة امرىءٍ *** فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائباً *** فصُنْها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى *** وفارق ولكن بالتي هي أحسن
أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يبصره لسلوك الطريق المستقيم، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.