تاريخ المكتبات الرقمية
ما الذي يميز المواد أو الوسائط الرقمية عن غيرها، سواء كانت هذه المواد ملفات نصية، أو أفلام، أو موسيقى، وما إلى ذلك. الإجابة المختصرة هي أن هذه الوسائط أو المواد (في معظم الأحيان) سهلة الإنتاج والتوزيع إلى الملايين بتكلفة تصل إلى الصفر. فإنتاج كتاب ما مثلا يكلف الشركة الناشرة مبلغا معينا يتضمن شراء حقوق النشر والتوزيع من المؤلف، وأجور المؤلف. وفي العالم التقليدي تتضمن التكاليف أيضا تلك الخاصة بالطباعة والتوزيع والنقل والتخزين، وما إلى ذلك.
أما في العالم الرقمي فيمكن توفير كميات كبيرة من هذه التكاليف بوضع ملف الكتاب (نسخة واحدة) على جهاز مزود مركزي وبيعها للمشترين الذين يتصلون بالمزود عبر إنترنت. وبالتالي فإن تكلفة بيع كتاب إضافي هي صفر بالنسبة للشركة الناشرة، وكل ما تجنيه من بيع النسخة الرقمية يعتبر ربحا صافيا. لكن هذه الأرباح التجارية لم تكن هي ما داعب أحلام الشاب مايكل هارت في عام 1971 عندما قام بإنشاء أول مكتبة رقمية في تاريخنا المعاصر، وأطلق عليها اسم مشروع غوتنبرغ مخلدا بذلك اسم الرجل الذي اخترع الطباعة في القرن الخامس عشر، منهيا بذلك سيطرة رجال الكهنوت المسيحي على إصدار ونشر الكتب، مؤذنا بذلك عصر التنوير في أوروبا وتمكين المواطن الأوروبي العادي من اقتناء وقراءة الكتب.
مايكل هارت هو غوتنبرغ العصر الرقمي؛ الحلم الذي راوده في عام 1971، ولا زال يراوده حتى يومنا هذا هو تمكين كل من يملك وصلة إنترنت وجهاز كومبيوتر، من الحصول على وقراءة أمهات الكتب وأصول المعرفة الإنسانية. ويعتبر موقع مشروع غوتنبرغ اليوم نقطة مركزية لكل من يرغب بالحصول على نسخة رقمية من أعمال مشاهير الكتاب والمفكرين على مر العصور، طالما لم تكن هذه الأعمال مشمولة بقوانين حماية الملكية الفكرية. ويوجد ضمن الموقع اليوم أكثر من عشرة آلاف من هذه الكتب، والتي تتوفر كملفات نصية مضغوطة، أو كملفات نصية فقط. وقد كان هدف هارت منذ البداية هو أن يتمكن من تزويد مستخدمي إنترنت بأكثر من تريليون ملف نصي مع نهاية العام 2001.
ورغم الكميات الهائلة من الملفات المتوفرة ضمن موقع مشروع غوتنبرغ، فإنه لم يحتو على كثير من الميزات التي يمكن أن تجعل منه مكتبة رقمية كاملة، مثل إمكانيات البحث في النص، أو تصنيف الكتب، وما إلى ذلك، ولا يحتوي الموقع حتى اليوم إلا على محرك بحث بسيط يبحث في الكتب حسب العناوين أو حسب اسم المؤلف. والسبب في ذلك هو أن هارت منذ البدء ليس بمهتم بالنواحي التقنية للموقع، وهدفه الوحيد، وحلم حياته، هو أن يضع أكبر كمية من الكتب الرقمية المجانية على الشبكة. ويحصل هارت على تمويله اليوم من الجامعة البندكتية في ولاية إلينوي، والتي عينته أيضا أستاذا في علوم النص الإلكتروني ووفرت له المعدات اللازمة لتشغيل الموقع، كما يعاون هارت في جهوده شبكة من المتطوعين يبلغ عددهم حوالي الألف. ==ولكن هارت لم يكن وحده في جهوده الرامية إلى إنشاء أضخم مكتبة إلكترونية للنصوص الرقمية، حيث ظهر في أوائل التسعينيات مشروع واير تاب وهو موقع يستخدم إلى اليوم تقنية غوفر لتداول الملفات عبر الشبكة، ويحتوي على مجموعة هائلة من النصوص الرقمية المتخصصة، كنصوص المعاهدات والقوانين الدولية، والوثائق التقنية والعسكرية وما إلى ذلك.
وفي عام 1993 قام شاب اسمه جون مارك أوكربلوم، وكان طالبا في علوم الكومبيوتر ويعمل كمدير لموقع إنترنت الخاص بجامعة كارنيغي ميلون، ببدء العمل على فهرس يضم وصلات إلى جميع الكتب الإلكترونية الموجودة على الشبكة بما في ذلك مشروع غوتنبرغ. وأطلق أوكربلوم على فهرسه هذا اسم صفحة الكتب الإلكترونية The Online Books Page. وفي عام 1998 حصل أوكربلوم على درجة الدكتوراة في علوم الكومبيوتر وانتقل إلى جامعة بنسلفانيا حيث أخذ يعمل على الأبحاث المتعلقة بعلم المكتبات الرقمية في مكتبة الجامعة وقسم علوم الكومبيوتر، مرتكزا على فهرسه الأساسي الذي طوره في جامعة كارنيغي ميلون والذي أصبح الآن جزءا من مراجع المكتبات الرقمية لدى جامعة بنسلفانيا ويحتوي الموقع اليوم على وصلات لعشرات الألوف من الكتب الإلكترونية المجانية باللغة الإنجليزية أو غير المجانية ولكن التي سمح مؤلفوها بنشرها عبر إنترنت. كما يحتوي الموقع على وصلات إلى العديد من المواقع التي تقوم بنشر الكتب الإلكترونية مثل مشروع غوتنبرغ. ولا تقوم أية جهة رسمية بتمويل الموقع، ولا زال أوكربلوم يقوم إلى اليوم بالاعتناء بالموقع مجانا ودون أي مقابل.