نفسية الحاكم الفرد واحدة مهما تعددت الأزمنة والأمكنة . إن فرعون استدعى أعوانه من السحرة ليقفوا في وجه المد الإيماني المتمثل في موسى وأخيه هارون عليهما السلام ، وكان فرعون يظن أن المجموعة تغلب الأفراد وأن الكثرة تغلب القلة مهما كانت القلة قوية متماسكة . ولم يفقه القاعدة التي تقرر أن القليل المتماسك المنظم يغلب الطغام المتفكك " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " . وحين يحسب الطاغية أنه ملك زمام الأمور بما لديه من وسائل التمكن ( مال وأتباع ووسائل إعلام وأجهزة أمن وجيش ) يتأله ويرى نفسه فوق النظام والقانون ، والتأله يولد في نفسه الصلف والكبرياء ، فيعلن عن مكنون نفسه " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " فإذا به مركز الدائرة التي يحوم حولها غربان النفاق ، فتزيده عتواً وجبروتاً ، وتزيد هي استسلاماً وخنوعاً لما تلقاه من فائدة حقرت أو جلّت، كل حسب قربه من نقطة الدائرة ، وتزين له ما يريد فينسب إلى نفسه الفضائل كلها – وهو خال منها – فإذا هو العبقري الملهم والذكي الأريب الذي يوجه الأمة –زوراً وبهتاناً – إلى الرقي والحضارة والمجد والشرف ، في الوقت الذي يقودها فيه إلى الضعف والانهيار والفقر والحاجة والذل والهوان . ويصدق نفسه والمهرجين من حوله . وينظر هنا وهناك فلا يجد سوى الهتافين والمطبلين والمزمرين ، . وتنقلب الأمور رأساً على عقب ، فبدل أن يكون الحاكم خادماً لأمته يرعى أمورها ويسهر على مصالحها تصبح البلاد مزرعته وميزانيتها غلته والشعب خدمه وملك يمينه . فإذا سارت الأمور على غير ما ينبغي أن تسير عليه انعكس هذا على تصرف الحاكم ، فهو على عتوّه وجبروته الظاهري يعيش في خوف داخلي أن يفقد ما سلبه وغنمه ، ومهما علا الظالم في ظاهره – وهو إنسان – ينتظرْ أن يفقد في لحظة غفلته كل هذا الهيلمان ، فيغذّي طفيليات تطوف حوله ببعض المكاسب ليكونوا عوناً له إن حزبه أمر ويطلق أيديها في البلاد لتعب مما يعب فتشترك معه في الجريمة وترتبط به مصيراً ومصلحة ، فتكون معه على ظلم الشعب واستغلاله . وهؤلاء يتفانون في خدمته ما داموا في أمان وما داموا في بحبوحة المكاسب ، إلا أن غالبيتهم سرعان ما ينفرط عقدها حين تشعر بالخطر ، إنهم لم يجتمعوا حوله إلا لمصلحة إن اهتزت أسلموه ولاذوا بالفرار ليجد نفسه وحيداً إلا من بعض من ربطوا أنفسهم به بقيد يصعب أن ينزعوه إلا بعملية جراحية ، ولن يسعفهم الزمن ،إن تدفق أمواج السيول الجارفة لا يمهلهم ، وثورات الشعب المحتقن لن ترحمهم . فهل كان حاكم تونس يحسب لما آل إليه حساباً ؟! لا أظن ذلك ، فقد اكتشف في خطابه الأخير أنه لم يفهم شعبه ولم يدر واجبه حين اعتلى كرسي الرئاسة وآلت إليه الأمور قبل ثلاثة وعشرين عاماً . ورئيس يملك زمام الأمور أكثر من عقدين يعترف بغبائه دليل على انحطاط مستواه العقلي والفكري والنفسي الذي ابتلي به شعب تونس الأبي . وهل سيعلن حاكم مصر الذي جثم على صدور أبنائها ثلاثين سنة ما أعلنه جلاد تونس أو تراه أكثر غباء منه ؟! لقد مادت مصر بأبنائها البررة من أقصاها إلى أقصاها تقول لظالمها وكلابه : ارحل .. ارحل . وما يزال أصم أعمى أبله أو يتذاكى بغباء منقطع النظير ، ولم يتعلم الدرس من سلفه ، وما أظنه يتعلم إلا حين يرى نفسه تحت أقدام شعبه يدوسونه ويذيقونه بعض ما أذاقهم إياه ... وهل يتعلم الآخرون – إن كانت فيهم بقية من عقل – أوْ هم كالأنعام لا يهتدون سبيلاً ؟ إن العاقل من يعتبر بغيره ، والغبي العنيد قد يعتبر بنفسه ولات حين مندم ، والبليد من لا يعتبر بغيره ولا بنفسه حتى تقوم الساعة .