شعور غريب يخالجها وهي تـقـود سـيارتـهـا عائـدة من منزل صديقـتـهـا ، ومارَة بالسـور العـتـيـق ذي البوابات العديدة الذي يحـيـط بذاك المكان الموحش المقـفر رغم ازدحامه بخلق الله ، لم يكن بمقدورها الـتـغاضي عن هذا النداء الذي يدعوها للدخول .... فإذا بها وفجأة تـنحرف بسيارتها عن الـشـارع المرصوف لـتسـير بها فوق أرض صخرية غير مستوية ، ومتجهة نحو إحدى البوابات الـتي ما إن عبرتها حتى وجدت نفـسـهـا داخل مـقـبرة ، أحاسيس متناقضة من الخوف والرهبة والارتياح والسكينة تعتمل في داخلها لأول مرة .
أوقفت سيارتها ... وللحظات ظـلت جالـسـة في مـقـعدهـا .. مـتسمـرة ، مـترددة ، هـل تخرج أم لا .. وأخيراً وجدت نفسها واقفة على الأرض ، تـنـفـست الصعداء ، واستجمعت شجاعتها كي تمشي على رجليها وتبتعد عن السيارة ، ترانيـم مخـتـلفة ومتجانسـة تصل أذنيـها وتـتـغـلـغل في روحها لـتخفـف من روعها .. إنها أصوات عصافير وبلابل وحمام تـسبح في الفـضاء ، وبعضها يحط على شواهـد القبور ، وأخرى اتخذت الأشـجار محطات لها .
تلفـتت حولها فلم تجد أحداً يشاركها إحساسها الغريب ، فأخذت تسير بـين القبور تـقرأ ما كتب على بعضها من أسماء ، في حين ترى علامات مخـتـلفة تـشـير إلى صاحب القبر وتدل أهله عليه .. وهناك قبور اكـتست بالنباتات الشوكية الجافة فضاعت معالمها ونُسـي أصحابها .
استمرت في تـنـقـلها إلى أن وصلت تـلة صغيرة توسـطت المكان ..تظـللها شجرة مخضرة عظيمة ، اعتلت الـتـلة فإذا بها تحـتوي قبرا ً لا يوجد ما يشير إلى صاحبه ، جلست تحت الشجرة تسـتـظـل بها .. متأملة القبر الذي أمامها ، حينها تذكرت ذاك الحبـيب الذي افـترقت عنه منذ أعوام طويلة ، وتمني كل منهما أن يدفن قبل الآخر كي يبكيه ...وداهمتها العبرات فبكت حبـيـبها الذي لم تعد تعلم من أخباره شيئاً ، وتساقطت دموعها مبللة القبر المجهول .
وعلى البعد تلوح لها جنازة مغطاة بـبـشـت أسود ، محمولة فوق أكتاف الرجال ، يدنو الجمع من الـتلة ويتوقفون بالقرب منها ، وبسرعة تخـتبىء خلف الشجرة ريثما ينـتهون من مراسم الدفن .. ولكنها تسترق النظر إلى ذاك الحشد الكبـير .. فإذا بها تراه في مقدمتهم ، إنه أخوه يـتـقبل الـتعازي بعد انـتهاء الدفن ... إن الجنازة لحبـيبها ، صرخة مكـتومة تصدر منها فـتـتماسـك كي لا يحس بها أو يلمحها أحد ، انـتظرت في مكانها دقائق خالـتها ساعات طويلة ، بعدها تفرق الجمع وتركوا حبـيبها وحده ، انفطر قلبها حزناً فهمَت بالنزول عن الـتـلة والجلوس عند قبره لـتذرف الدموع عليه كما كان يـتمنى ... لكنها تـلمح امرأة متـشحة بالسواد ، حائرة ، متعثرة الخطوات تسبقها وتلقي بنفسها فوق قبر الحبـيب وتـجـهـش بالبكاء .. خامرها الشك بأنها زوجـته فإذا بها تبكيه وتبكي حالها .. وتمنت لو تذرف الدموع على قبره لا القبر الذي أمامها
خرجت تجفـف دموعها وعادت في اليوم الـتالي متخذة طريقها نحو الأرض التي ضمت جسد الحبـيب ... وما إن وصلت قبره حتى ارتمت بجسدها عليه ، وأخذت تـنـتحب وتذرف الدموع تروي تلك الـتربة الغالية بسخاء .
وفيما هي تبكي لم تـنـتبه للرجل الذي يدنو منها ويسألها عن سبب بكائها .. ترفع رأسها نحوه فإذا به أخيه ... إنه لا يعرفها ، لكنها تـتعرف عليه فهو يشبهه كثيراً ، أعاد عليها السؤال مرة أخرى ، لم تـتردد في إجابتها بل أخبرته بأنها تبكي أخاه وحبـيـبها
لكنه يفاجؤها بأن جنازة الأمس لأبـيه ..... تصرخ .. إذن فهو حيَ .. يجيبها بمرارة بل هو مدفون هناك منذ أعوام ، تنظر إلى المكان الذي أشار إليه ... إنها تلك الـتلـة التي اعـتلـتها واستظـلت بشجرتها وذرفت دموعها على قبر لم تعرف أنه يضم حبـيبها .
موضوع: نــــــــــداء 
15/2/2011, 01:47
