أكد الأكاديمي البوسني الدكتور أنس كاريتش في بحث له أن التأثير العربي الإسلامي وصل إلى البلقان قبل الفتوحات العثمانية في شرق أوروبا، في القرن الخامس عشر الميلادي بزمن بعيد، ونجد اليوم في متاحف البلقان أشياء يعود تاريخها إلى زمن الاتصالات الأولى لشعوب البلقان مع عرب صقلية وجنوب ايطاليا والأندلس، منها الأواني العربية كالأباريق مثلا وتسمى في البلقان بهذا الاسم إلى اليوم، لأنه كما يقول الدكتور أنس «لا يوجد لدينا في اللغة البوسنية كما في الصربية والكرواتية تسمية أخرى للإبريق غير تلك التسمية العربية». ويوجد في أرشيف مدينة دوبروفنيك الكرواتية الساحلية ـ وهي إحدى أهم المناطق السياحية على البحر الادرياتيكي ـ مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية التي تبين بوضوح كيف وبماذا كان التجار العرب يتاجرون مع نظرائهم في البلقان. ويضيف الدكتور كاريتش «لم يكن التجار العرب وحدهم الذين جلبوا العادات العربية والكتب والأشياء والأفكار والآراء، فالسلافيون أنفسهم الذين كانوا جنودا عند العرب في الأندلس وصقلية وجنوب ايطاليا لعبوا دورا في انتشار تأثيرات الثقافة العربية في دول البلقان« كما لعبت الصلات التجارية عن طريق الموانئ البحرية دورا ملحوظا في نشر التأثيرات الثقافية العربية أيضا. أما الانتشار القوي للتأثيرات الثقافية العربية في البلقان فقد بدأ مع وصول الإسلام إلى المنطقة ودخول بعض شعوبه في الدين الجديد مثل البوشناق والألبان واعتناق مجموعات كبيرة منه في الإسلام مثل الصرب والكروات وغيرهم. ويشير الدكتور كاريتش إلى أنه منذ «القرن الرابع عشر انتشرت الكلمات والمصطلحات والعبارات والأدب والكتب العربية في البلقان بسرعة كبيرة وباختصار بدأت الجوانب الهامة للثقافة العربية، والعربية الإسلامية بالتوسع والانتشار».
ويجيب الدكتور كاريتش على سؤال حول التحولات التي طرأت على البلقان بعد دخول المفردات العربية الإسلامية والإسلام بصفة عامة بالقول «الجواب على هذا السؤال يكمن قبل كل شيء في انضمام البلقان إلى محيط ثقافي جديد، وكانت تعتريه تحولات عميقة» أما تأثيرات الإسلام ذاته كدين وثقافة وحضارة فقال الدكتور كاريتش «تقبلت معظم شعوب البلقان الإسلام دينا لها ومنهج حياة، ومع انتشار الإسلام انتشرت المبادئ والمفاهيم الإسلامية وانتشرت الكلمات والتأثيرات الثقافية العربية ورافق التحول في الحياة الروحية، تحولات عميقة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية» وتابع «فالسلع التجارية والمعدات الحربية والكتب والأثاث والأدوات المنزلية والملابس والمأكولات المتنوعة والأدوية وغيرها وصلت إلى منطقة البلقان من الشرق العربي والتركي الإسلامي وعلى الأصح من الشرق الإسلامي». وقال «ومعظم تلك الأشياء كان بحمل أسماء عربية، ولهذا نجد في اللغات البوسنية والصربية والكرواتية وغيرها من لغات البلقان آلاف الكلمات والمصطلحات العربية في مجالات العلم والدين والأدب والسكن والملبس ومستحضرات التجميل والطب والطهي وغيرها من جوانب الحياة».
ويشير الدكتور كاريتش إلى أن «شعوب البلقان تبنت من خلال احتكاكها ولعدة قرون مع الشرق العربي الإسلامي آلاف الكلمات وتركيبات الجمل إلى الكثير من لغات البلقان واستقرت فيها إلى الأبد». وساق الدكتور كاريتش عدة أمثلة على تغلغل اللغة العربية في لغات البلقان مثل الإكرام فيقال بالبوسنية «إكرام» والديوان «ديوان» والقهوة «كهوة» لان البوسنيين و بقية شعوب البلقان لا ينطقون القاف. والشرب »شربات« وهي نفس المنطوق الشعبي لهذه الكلمة في مصر ودول عربية أخرى. ويضيف الدكتور كاريتش «ستلاحظون أن مضيفكم يصب القهوة من الجزوة «الجزفا» أو «دلة» في الفنجان «فتجان» ولا توجد في البوسنية والصربية والكرواتية مفردة أخرى تقوم مقام كلمة جيب العربية. ويتابع «من المحتمل جدا أن بقدم لكم مضيفكم الحلوي «هالوا» و هي في البوسنة وفي منطقة البلقان ذلك النوع الحلو من المأكولات المصنوعة من دقيق القمح والزيت، وسيقدم لكم الحلوى في الصحن «صحن» وهي بالطبع كلمة عربية».
ويتناول الدكتور كاريتش الكلمات العربية في اللغات الأوروبية الشرقية مثل «السجادة» كما تحمل بعض أسماء الشوارع كلمات عربية مثل «المجلدين» حيث كانت الكتب تجلد في شارعين بسراييفو هما شارع المجلدين الكبير وشارع المجلدين الصغير، ويطلق على الزقاق في كل من البوسنة وكرواتيا وصربيا اسم «زقاق» ولأن الغالبية العظمى لا يستطيعون نطق القاف فهم ينطقونها «زكاك». وليست الشوارع والأزقة والحاجيات فقط التي تحافظ على لفظها العربي بل الضواحي أيضا فعلى بعد 15 كيلومترا من سراييفو تقع ضاحية «علاج» التي ينطقها البوسنيون والبلقانيون «إليجا» ولو أنهم غيروا العين فقط لكان الأمر مختلفا تماما. وسميت بعلاج لوجود عيون الماء الاستشفائية فيها. إضافة لذلك يطلق البلقانيون اسم «كولي» على القلاع، ووقف على الأوقاف وهناك مدينتان بوسنيتان تحملان اسم الوقف وهما «دوني وقف» وتعني الوقف السفلى و«غورني وقف» و تعني الوقف الأعلى حسب طبيعة الأرض السفلى والعليا فالأولى سهل والثانية مرتفع. ويطلق البلقانيون على المكان الذي يصلى فيه العيدين مصلى وهناك شارع في سراييفو بهذا الاسم. ويستعمل الأهالي كلمات دخان «دهان» لعدم مقدرتهم على نطق الخاء، وجيب، وقهوة، وقلعة «كولي» وهنا حالت القاف والعين معا من دون نطقها بإتقان، والصدف والشيفرة والتعريفة التي تنطق «تريفة» والحناء »هناء». وقد انتقلت كلمة البلاء أيضا للبلقان فينطقونها بيلايا أي بالجمع «بلايا» مع قليل من التحريف أي بإضافة اليا. كما نجد الجلاد والحيوان «هيوان» والإنسان «إنسان» والمشتري «مشتريا» والعناد »عناد« والفائدة »فايدة ». ويشير الدكتور كاريتش إلى القواميس التي تتحدث عن الكلمات العربية في اللغة البوسنية ومن أشهرها قاموس البروفيسور عبد الله شكايليتش «فقد بحث في استخدام الكلمات العربية والتركية والفارسية في اللغة البوسنية والصربية والكرواتية وعددها وتوصل إلى نتائج مذهلة». وتابع «يمكن القول بارتياح تام إن اللغات البوسنية والكرواتية والصربية تحتوي على آلاف الكلمات العربية وهذا بحد ذاته يدل دلالة كافية على التأثير الثقافي الكبير للغة العربية في البلقان». وينقل عن عبد الله شكايليتش قوله «إننا نجد الكلمات والمصطلحات العربية في اللغة البوسنية في جميع الميادين وجميع المجالات ولا سيما التي لها علاقة بالحياة الإسلامية التعبدية« ويذكر اسم الجلالة «الله» والإسلام «إسلام» والتسبيح «تسبيه» والتجويد «تجويد» ورمضان «رمدان» أو «رمزان» والزكاة «زيكات» والحج «هدج» والشهادة «شهادت» أما الأسماء فغالبيتها عربية صرفة. والقليل القليل منها أسماء مشتركة. وفي القانون والإدارة نجد كلمات الحق والقاضي »كادي« والحبس «هبس» والسلطان والمتصرف. وفي الجيش العسكر والقلعة والمشير. وفي الأسلحة السيف الدمشقي «ديماشكي» وفي البناء «بناء» وفي الحرف «الساعاتي والسراج والكبابجي وبائع القماش والمقص «مكس» والساعة «سات». وفي الأواني نجد الصحن والإبريق والحصيرة «هصورة» والدولاب «دولاب» وفي الملابس نجد الجبة والنعل والكحل. وفي المأكولات والمشروبات والتوابل هناك التفاح المعد كحلوى «تفاحية» والحلوى «هلوا» والفاصوليا والشربات والقطائف. وهناك الكثير من الكلمات العربية في اللغات البوسنية والصربية والكرواتية المتقاربة ذات الصلة بالمجالات الجغرافية والطبوغرافية والشوارع والزراعة والغابات وتربية المواشي والصيد والطب والنظافة والفلك والأبراج والموسيقى والألقاب وفئات المجتمع والمهن وأسماء أعضاء جسم الإنسان والتقويم وغيرها كثير.