وهوَ مَثَلٌ يُقَالُ فِيْمَنْ كَثُرَ نِفَاقُه، وانْحَطَّتْ في التَّمَلُّقِ أَخْلاقُه، ولَهُ في الـمُمَاذَقَةِ أُسْلُوْب، ومَاءُ وَجْهِهِ مَسْكُوْب، والوُصُوْلِيُّ قِرْدٌ في هَيْئةِ إنْسَان، يَتَسَلَّقُ إلى مَصَالِـحِهِ بِاللِّسَان، وهوَ أَيْضاً عَدِيْمُ الكَرَامَة، تَأْنَفُ مِنْ قَذَارَتِهِ القُمَامَة، يَبِيْعُ أُمَّهُ وأَبَاه، لِيَصِلَ إلى مَسْعَاه، تَـرَاهُ مُلْتَصِقاً بِالكُبَرَاء، وهُمْ يُعَامِلُوْنَهُ كَالـحِذَاء، وقَدْ يُصَاحِبُ عَامَّةَ النَّاس، ويَرْفَعُ ذَنـَبـاً يَظُنُّهُ الرَّاس، لا مَبْدَأَ يَـحْكُمُ تَصَرُّفَاتِه، ولا يَـرَى إلاّ تَـحْقِيْقَ ذَاتِه.
وأَصْلُ المَثَلِ أَنَّ مُوَظَّفاً عَظِيْمَ الـهِمَّة، يُؤَدِّي عَمَلَهُ بِإخْلاصٍ وذِمَّة، وكَانَ لَهُ زَمِيْلٌ كَثِيْرُ الإهْمَال، عَلَيْهِ مِنَ الدَّنَاءةِ سِرْبَال، لَـمْ يَـرَ أُمَّهُ مُنْذُ سِنِيْن، وأَبُوْهُ في دَارِ المُسِنِّيْن، وإذا رَأَى رَئيْسَهُ قَبَّلَ يَدَيْه، وكَادَ يَلْعَقُ بَاطِنَ رِجْلَيْه، ويُسْمِعُهُ كَلِمَاتِ التَّبْجِيْلِ والتَّعْظِيْم، ويَشْتُمُ أَمَامَهُ الرَّئيْسَ القَدِيْم، وإذا مَرِضَ ابْنُ الرَّئيْس، قَفَزَ بِهِ إلى (ابْنِ النَّفِيْس)، وإنْ فَرَغَتْ أُنْبُوْبَةُ غَازِه، حَمَلَها لَهُ عَلَى أَعْجَازِه، ومَتَى انْتَـهَتْ مُدَّةُ الرِّئاسَة، سَحَبَ عَلَيْهِ ذَيْلَ الـخَسَاسَة، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الرَّئيْسَ الـجَدِيْد، بِكُلِّ حَفَاوَةٍ وتَـمْجِيْد، ومَضَى عَلَى عَادَتِهِ المُخَادِعَة، فحَقَّقَ لَهُ رُؤسَاؤهُ مَطَامِعَه، وهوَ مَعَ ذَلِكَ وَاشٍ نَمَّام، ومَاهِرٌ في حَبْكِ الكَلام، سَبَقَ أَنْ وَشَى بِزَمِيْلِهِ الشَّرِيْف، فنُقِلَ مِنْ فَوْرِهِ إلى الأَرْشِيْف، وفَازَ هُوَ بِعُلُوِّ الرَّاتِبِ والمَرْتَـبَة، وحَظِيَ بِالانْتِدَابَاتِ ولَـمْ يَبْرَحْ مَكْتَـبَه.
فلَـمَّا رَأَى المُوَظَّفُ ضَيْعَةَ حَالِه، وكَيْفَ ظَفِرَ الوُصُوْلِيُّ بِآمَالِه، قَرَّرَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنِ الإبَاء، وأَنْ يُنَازِعَ الوُصُوْلِيَّ الإنَاء، فطَرَحَ عَنْ كِبْرِيَائه الـخَجَل، واسْتَأْذَنَ عَلَى رَئيْسِهِ ودَخَل، فحَبَكَ لَهُ مِنَ التَّمْجِيْدِ عَبَاءات، وقَالَ فِيْهِ مِنَ الشِّعْرِ مُعَلَّقَات، ثُمَّ مَسَحَ حِذاءَهُ ولَـمَّعَه، وسَارَ إلى البَيْتِ مَعَه، فنَفَضَ عَنِ العَتَـبَاتِ الغُبَار، وانْحَنَى وامْتَطَاهُ الصِّغَار، فمَا مَرَّ أَكْثَرُ مِنْ أُسْبُوْع، إلاّ وأَمْرُهُ مُطَاعٌ مَسْمُوْع، ونَـهَضَتْ بِهِ رِجْلُهُ العَاثِرَة، وأَصْبَحَ مُدِيْراً في الدَّائرَة، فاسْتَدْعَى الوُصُوْلِيَّ وشَكَرَه، وأَعْطَاهُ مِنْ بُسْتَانِهِ ثَمَرَة، ثُمَّ نَادَى بِصَوْتٍ سَمِيْك، وأَمَرَ الوُصُوْلِيَّ بِالتَّدْلِيْك، وظَلَّ وَرَاءهُ يُدَلِّكُهُ بِرِفْق، ويَدْعُو لَهُ بِسَعَةِ الرِّزْق، وأَثْنَاءَ اسْتِرْخَائهِ اعْتَدَلَ واسْتَدَار، وأَنْشَدَ وهوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ الدَّوَّار:
أَلاَ لِـلَّـهِ دَرِّي مِنْ نَبِيْهٍ *** تَغَانَمَ عُمْرَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ
ظَفِرْتُ مِنَ التَّمَلُّقِ بِالأَمَانِي *** فَـتَـبّاً لِلْكَرَامَةِ وَالإبَاءِ
وَكُنْتُ أَرَى الشُّمُوْخَ رِدَاءَ عِزٍّ *** فَعَرَّى كُلَّ سَوْءاتِي رِدَائي
لَيَالِيَ كُنْتُ مُـحْتَقَراً ضَئيْلاً *** وَفي الأَرْشِيْفِ مُطَّرَحاً وَنَائي
أُغَالِطُ وَهْمَ عِزَّتِيَ ادِّعَاءً *** فَمَاذا زَادَنِي وَهْمُ ادِّعَائي؟!
فَمَنْ يَصِفُ التَّمَلُّقَ بِانْحِطَاطٍ *** وَهَا أَنَذَا أُحَلِّقُ في السَّمَاءِ؟!
وَخَلْفِي سَافِلٌ أَحْرَزْتُ مِنْهُ *** فُنُوْنَ المَذْقِ وَالقَوْلِ الـهُرَاءِ
فَنِلْتُ بِهِ الذي لَـمْ يَسْتَطِعْهُ *** فَيَا لِـلَّـهِ مَا أَقْوَى دَهَائي
أُبَادِئُهُ السِّبَابَ وَلَيْسَ يُبْدِي *** لِوَقْعِ بَذَاءَتِي أَيَّ اسْتِيَاءِ
وَلَوْ أَعْمَلْتُ كَفِّي في قَفَاهُ *** لَبَادَرَنِي بِأَنْوَاعِ الدُّعَاءِ
فَأَسْأَلُكُمْ بِرَبِّي هَلْ رَأَيْتُمْ *** كَأَبْشَعَ مِنْ وُصُوْلِيٍّ وَرَائي؟