في عام 1951 وصل إلي مصر أحد كبار العملاء الإسرائيليين، وهو »إبراهام دار« الذي اتخذ لنفسه اسماً مستعاراً هو »جون دار لنج«، وكان »دار لنج« يهودياً بريطانياً من الذين عملوا مع الموساد عقب تأسيس دولة إسرائيل عام 1948.. وقام »دار لنج« بالتخطيط من أجل تجنيد الشبان من اليهود المصريين استعداداً للقيام بما قد يطلب منهم من مهام خاصة، وكان أشهر من نجح »دار لنج« في تجنيدهم وتدريبهم فتاة يهودية تدعي »مارسيل نينو«، وكانت آنذاك في الرابعة والعشرين من عمرها، ومعروفة كبطلة أوليمبية مصرية شاركت في أوليمبياد عام 1948.. كما عرفت بعلاقاتها الواسعة مع بعض ضباط الجيش المصري في أواخر حكم الملك فاروق.
وعندما ألقي القبض علي »مارسيل نينو« في أعقاب اكتشاف شبكة التجسس التي نفذت عمليات تفجير دور السينما في القاهرة والإسكندرية والشهيرة بفضيحة »لافون« أو عملية لافون عام ،1954 حاولت »مارسيل« الانتحار مرتين في السجن، وتم إنقاذها لتقدم إلي المحاكمة مع 11 جاسوساً يهودياً آخر ضمن الشبكة نفسها.. وحكم عليها بالسجن 15 عاماً، وكان من المقرر أن تنتهي عام 1970.. إلا أن عملية التبادل التي جرت بين القاهرة وتل أبيب بشكل سري عام ،1968 أدت إلي الإفراج عن »مارسيل نينو« وعدد آخر من الجواسيس ضمن صفقة كبيرة.. وكان شرط الرئيس جمال عبدالناصر ألا تعلن إسرائيل عن عقد هذه الصفقة في أي وقت من الأوقات، وبالفعل التزمت إسرائيل بهذا الشرط، حتي عام ،1975 وذلك عندما »شم« أنف أحد الصحفيين الإسرائيليين خبراً بدا له غريباً، أو أن وراءه بالضرورة قصة مثيرة.. وكان الخبر عن حضور رئيسة وزراء إسرائيل »جولدا مائير« حفل زواج فتاة في الخامسة والأربعين من عمرها.
والسؤال الذي دار في عقل هذا الصحفي الإسرائيلي: لماذا تذهب شخصية في وزن »جولدا مائير« لعرس فتاة عانس، لا تربطها بها أي صلة قرابة؟!.. وتوصل الصحفي إلي القصة، ونشر حكاية »مارسيل نينو« التي كاد المجتمع الإسرائيلي أن ينساها تماماً.
ويبقي السؤال: كيف تفاوض الرئيس جمال عبدالناصر مع الموساد الإسرائيلي لعقد هذه الصفقة السرية؟
تؤكد الحقيقة التاريخية، أن إطلاق سراح هؤلاء الجواسيس لم يتم إلا بعد سلسلة طويلة من المباحثات والمفاوضات السرية بين القاهرة وتل أبيب، فبعد إلقاء القبض علي أعضاء الشبكة، صدر حكم المحكمة العسكرية برئاسة اللواء محمد فؤاد الدجوي في 27 يناير 1955 علي أعضاء الشبكة.. حيث صدر الحكم بالإعدام علي كل من : »موسي ليتو مرزوق« و»شموئيل باخور عزرا«.. والأشغال الشاقة المؤبدة لـ»فيكتور موين ليفي« و»فيليب هيرمان ناتانسون«.. وبالأشغال الشاقة لمدة 15 عاماً علي كل من: »مارسيل فيكتور نينو« و»روبير تسيم داسا«.. وبالأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات علي كل من: »مائير يوسف زعفران« و»مائير شموئيل ميوحاس«.. والإفراج عن 5 آخرين.
وعقب انهيار الشبكة وسقوطها في أيدي أجهزة الأمن المصرية، بدأت جهود إسرائيل السياسية في العمل علي جميع المسارات لإطلاق سراح أعضاء الشبكة، وفي أكتوبر 1954 تم تشكيل مجموعة من السياسيين الإسرائيليين وكبار رجال الموساد، للسعي لدي كل حكومات العالم من أجل الضغط علي مصر لإطلاق سراح أعضاء الشبكة.. لكن مصر بدأت في إجراءات محاكمتهم في 11 سبتمبر 1954 بشكل علني.
ووقتها، اقترح »بنيامين جبيلي« أحد كبار هيئة الاستخبارات الإسرائيلية العليا، والمسئول عن فشل العملية وسقوط أفرادها، إرسال خطابات سرية إلي الرئيس جمال عبدالناصر في محاولة لإقناعه بأي طريقة يراها لإطلاق سراح الجواسيس الإسرائيليين.. ولكن كل المحاولات باءت بالفشل.. حتي أن »عاميت« رئيس الموساد ـ في ذلك الوقت ـ قام بإعداد خطاب إلي عبدالناصر عرض فيه تقديم قرض مالي إلي الحكومة المصرية قدره 30 مليون دولار مقابل الإفراج عن الجواسيس الستة المحكوم عليهم.. ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي »ليفي أشكول« رفض هذا الاقتراح علي اعتبار أنه سيؤدي إلي تحسين الأوضاع الاقتصادية لمصر(!!).. وتقوية جيشها(!!)، وهو ما يتعارض مع سياسة إسرائيل العدائية تجاه مصر.
وظلت إسرائيل تواصل ضغوطها الدولية علي مصر لمدة 7 سنوات كاملة، حتي تم الإفراج عن اثنين من جواسيسها وهما »مائير شموئيل ميوحاس« و»مائير يوسف زعفران« وتسليمهما إلي تل أبيب.. إلا أن عدد الجواسيس الإسرائيليين في القاهرة عاد للارتفاع مرة أخري إلي 14 جاسوساً عقب سقوط 5 شبكات دفعة واحدة في قبضة جهاز المخابرات المصرية.
توالي سقوط الجواسيس
في عام 1960 سقطت في أيدي أجهزة الأمن المصرية 5 شبكات ـ دفعة واحدة ـ بعد جهد شاق استمر حوالي عامين في العملية الشهيرة المعروفة بـ»عملية سمير الإسكندراني« الفنان المعروف، الذي تمكن بالتعاون مع جهاز المخابرات المصرية في إسقاط 10 جواسيس من الوزن الثقيل وهم: »جود سوارد«، و»رايموند دي بيترو« و»فرناندو دي بتشولا«، و»نيقولا جورج لويس« مصمم الفترينات بشركة ملابس الأهرام فرع مصر الجديدة، و»جورج استاماتيو« الموظف بمحلات جروبي بوسط القاهرة.. والمصريون: إبراهيم رشيد المحامي، ومحمد محمد مصطفي رزق الشهير بـ»رشاد رزق«، ومحمد سامي عبدالعليم نافع، ومرتضي التهامي، وفؤاد محرم علي فهمي مساعد طيار مدني.. وكان وراء هذه الخلايا الخمسة، التي تعمل داخل مصر عدد كبير من ضباط الموساد المحترفين، المرابضين في تل أبيب وروما وباريس وسويسرا وامستردام وأثينا.. يخططون ويدبرون ويصدرون الأوامر والتعليمات والتوجيهات لعملائهم.. يتبادلون الخطابات السرية، ويتلقون المعلومات عبر شبكة اتصالات كبيرة ومعقدة، وكانت تلك العملية التي أحبطتها المخابرات المصرية عملية معقدة ومتشعبة وخطيرة، ولذلك كان سقوطها أيضاً صاخباً ومدوياً.. بل وفضيحة بجلاجل لإسرائيل وجهاز مخابراتها، والذي ترتبت عليه الإطاحة برئيس جهاز الموساد الإسرائيلي من منصبه.
وفي عام 1962 توالي سقوط الجواسيس والعملاء الذين يعملون لحساب إسرائيل.. فقد تمكنت أجهزة الأمن المصرية من إلقاء القبض علي الجاسوس الإسرائيلي »ليفجانج لوتز« وزوجته بتهمة إرسال »رسائل ملغمة« لقتل خبراء الصواريخ الألمان العاملين في القاهرة.. ليرتفع بذلك عدد الجواسيس المقبوض عليهم في مصر إلي 16 جاسوساً.. وبدلاً من أن تسعي إسرائيل لدي الرئيس جمال عبدالناصر لإطلاق سراح الجواسيس الأربعة الباقين من قضية »لافون« عادت تفاوض من جديد للإفراج عن الـ16 جاسوساً دفعة واحدة.
وجاءت نكسة 5 يونيو ،1967 لتضع مصر في مأزق تاريخي، ولتعطي إسرائيل فرصة ذهبية لاسترداد جواسيسها مقابل الإفراج عن الأسري المصريين في تلك الحرب.. ولكن عملية الإفراج عن جواسيس إسرائيل جاءت في سرية تامة بناء علي طلب الرئيس جمال عبدالناصر.
وفي 2 يناير 1968 بدأت مصر في الإفراج عن الجواسيس الإسرائيليين، حيث سافر سراً »فيليب هيرمان« إلي جنيف بسويسرا طبقاً للاتفاق، وسافر »فيكتور ليفي« إلي أثينا باليونان.. وفي 13 يناير 1968 كان كل جواسيس فضيحة »لافون« بمصر ومعهم »لوتز« وزوجته، قد تجمعوا في تل أبيب.. وفي نهاية عام 1968 أرسلت مصر ـ بناء علي طلب تل أبيب ـ رفات كل من الجاسوس »موسي ليتو مرزوق« و»شموئيل باخور عزرا« سراً إلي إسرائيل بعد استخراج رفاتهما من مقابر اليهود بالقاهرة والإسكندرية