يشكو الكثيرون من أهل الفكر والرأي فينا اننا نفقد أصالتنا تدريجياً، ويلاحظون اننا نتنازل عن صفاتنا المميزة لنتبني صفات ترد علينا من الغرب أو الشرق ويطالب بعضهم بأن نرتد إلى صفاتنا القديمة وعاداتنا السابقة، تلك الصفات والعادات التي اوصلت اجدادنا إلى حيث قادوا امم الأرض ووضعتهم في طليعة الشعوب.
والحق أن الناظر في أوضاعنا الحاضرة يفتقد الأصالة في جميع ميادين الحياة ومجالاتها:
في النظم والأفكار الاجتماعية، في الاقتصاد، في السياسية، في الفلسفة، في الأدب والفن، في التربية، وقبل ذلك وبعده في جميع مجالات الحياة اليومية من مأكول ومشروب وملبوس وعادات وتقاليد ومعاملات يومية.
فقدان الاصالة وافتقادها
ويكفي أن تعيش أياماً قليلة في بيروت أو دمشق أو القاهرة أو عمان أو الكويت أو الرياض أو سواها من حواضر العرب لترى إلى أي مدى تتنازل هذه المدن وسكانها عن طابعهم المميز الأصيل للطابع الوارد عليهم من باريس ولندن وواشنطن بل ومن موسكو وبكين، ومع تفاوت واضح في النسبة.
تسمع ـ كذلك ـ صيحات ها هنا وها هناك تنطلق مطالبة بهذه الأصالة منحية باللوم على هذا أو ذاك من الاسباب مشيرة بهذه أو تلك من الطرائق لاستعادة أصالتها وفرض طابع امتنا المميز. والذي أحب ان اشير إليه في هذا المقام شيئان:
أولهما: أن فقدان هذه الأصالة بالمعنى القديم والضيق أمر غير مستغرب.
ثانيهما: أن افتقاد هذه الاصالة والمطالبة بها أمر ضروري ولازم إذا أردنا لأنفسنا البقاء.
أما فقدان أصالتنا فأمر لا نختص به وحدنا، والحق أن الكثير من أمم الأرض ـ ولا سيما المستضعفة الناشئة منها ـ تشاركنا هذه المحنة, فما يسمى بالحضارة الغربية قوي وطاغ لدرجة أنه قادر على اكتساح كل ما يخاله والقضاء عليه. ولهذا أسباب عديدة منها:
أولاً: الموقف النفسي المعروف من ميل الضعيف إلى تقليد القوي، والمغلوب إلى التشبه بالغالب وشعوره بالنقص ازاءه.
ثانياً: مسايرة الكثير من طرائق الحياة الغربية ومواقفها لحياة العصر ومطاليبها ونبوعها منها.
ثالثاً: صغر العالم الحديث وتزايد وسائل الاتصال بين أجزائه مما لم يكن ميسوراً في العالم القديم ومما أوجد حضارة عالمية ومجتمعاً عالمياً.
رابعاً: التقدم اعلامي الهائل الذي حققه الغرب وأفادته منه في حياته اليومية وطرائقها وأساليبها.
خامساً: تأثر قادتنا ومفكرينا بحياة الغرب الذي يدرسون في مدارسه وجامعاته ويعيشون فيه ويحملون منه عاداته وتقاليده.
وأما افتقادنا لأصالتنا ومطالبة أهل الرأي والفكر منا بضرورتها ولزوم الحفاظ على طابعنا القومي المميز فأمر هام وحيوي لا لنهضتنا وتحررنا فحسب بل ولبقائنا أيضاً ولاغناء الإنسانية وحضارتها كذلك.
والحق أن أمة لا تحرص على أصالتها ولا تحافظ على مميزاتها ولا تعنى بالابقاء على الصالح من عاداتها وتقاليدها أمة يصعب عليها أن تبقى ناهيك أن يكون لها شأن ومكانة ومساهمة في الحضارة العالمية. وما نظن ان الإنسانية تفيد إطلاقاً من طمس معالم الحضارات المختلفة والمدنيات المتباينة، وان كان كل مفكر مخلص يعطف عطفاً صادقاً على ضرورة وجود حضارة عالمية موحدة تجمع مختلف الحضارات وتنسق بينها وتحتفظ من كل منها بخير ما فيها.
وهنا أحب أن أذكر بأن أمما متقدمة كثيرة تصرخ اليوم مطالبة بضرورة المحافظة على أصالتها ففرنسا وانكلترا مثلاً تشكوان مر الشكوى من أن الحضارة الأميركية أخذت تطغى عليهما. والصين جاهدة في الحفاظ على طابعها المميز لها عن روسيا ومثل هذه البلاد كثير، فما أولانا نحن بأن نحرض على هذه الأصالة ونعمل على استعادتها والحفاظ على مظاهرها.
الاصالة
وبعد هذا الذي قدمت يحسن أن أتمهل قليلاً لأحاول تحديد معنى الاصالة، وفي سبيل تحديد مفهوم الاصالة أحب أن الاحظ أموراً منها:
1 ـ أن الأصالة لا تعني تماثل الأفراد وكونهم نسخاً طبق الأصل بعضهم عن بعض، فالفردية حقيقة واقعة ولكل فرد شخصيته المميزة وطابعه الخاص، وهو أمر واقع وضروري ومفيد.
2 ـ الأصالة لا تعني تماثل الجماعات أو المجتمعات المكونة للمجتمع الكبير، فالاختلاف هنا والتباين أمران لا بد منهما ولا ضرر منهما بل العكس هو الصحيح.
3 ـ الأصالة لا تعني عداء الأمم بعضها لبعض أو نقصاً في تعاونها بعضها مع بعض أو نقداً لبعضها البعض. إنها تعني عكس ذلك تماماً إذ أنها تقوم على التفاهم بين الأمم والتعاون فيما بينها والتكاتف على ايصال الإنسانية ـ في جميع أقطارها ـ إلى أهدافها في العالم الأحسن.
وهكذا تكون الأصالة هي الوحدة المميزة لأمة ضمن إطار المجموعة الإنسانية,وبهذا المعنى فقط نفتقد أصالتنا العربية وندعو لها ويجب أن نعمل على استعادتها وإعادة تكوينها.
ولأضرب على ما قلت مثلاً امتنا العربية بالذات:
من المعلوم ان الامة العربية امة تتميز بوطن محدد، وتاريخ معين وتراث مشترك وأمان مقررة قائمة على أساس من حاجات حاضرة واهداف مستقبلة وامكانات ميسرة. ولقد حدد الوطن العربي الواحد والتاريخ العربي المشترك والتراث العربي الغني والواقع العربي الأليم والغد العربي المنشود، حددت جميعها صفات للعربي تختلف بعض الاختلاف من الحجاز إلى المغرب ولكنها تشترك جميعاً في مقومات أساسية تجعل من العربي إنساناً مميزاً .
تحقيق الأصالة
1 ـ التعرف الدقيق الذكي على تراثنا القومي, وقد سبق لي أن تحدثت عن ذلك مطولاً فلا ارى لزوماً لتكراره، وان كنت أرى ضرورة للتنويه بأهمية تعرفنا على تاريخنا تعرفاً دقيقاً واعياً ولا سيما تاريخنا الاجتماعي والحضاري والعوامل التي اثرت فيه. والواقع أن دراستنا لتاريخنا اهتمت حتى الآن بالنواحي السياسية وأهملت النواحي الاجتماعية والاقتصادية والحضارية مما جعل احاطتنا بهذا التاريخ وتعرفنا على ذاتيتنا أمراً فاضح النقص.
2 ـ التعرف الدقيق على واقعنا بما في ذلك حاجاتنا وامكاناتنا ومطاليبنا وقدراتنا. ولعلي لا ابالغ حين اقول بأن معظمنا جاهل لهذا الواقع وان كان ملماً بعمومياته. وان صياغة الإنسان العربي الحديث لا يمكن ان تكون كاملة إلا إذا صدرت عن وعي عميق لامكانات الوطن العربي وقدرات الإنسان العربي ومميزات الفرد العربي ومطاليب المواطن العربي.
3 ـ الاطلاع الواسع الشامل على ما يجري في العالم من تفاعل حضاري وما يتم فيه من أحداث اجتماعية وتطورات علمية وتقنية (تكنولوجية) واتجاهات اقتصادية واتصالات سياسية وصراعات فكرية. وليس بخاف ان عالم اليوم يمور بالأحداث ويفور بالتغيرات ويتميز بالتطور السريع والانقالب الكلي ونحن لا نستطيع ـ إذا أردنا لأنفسنا مكاناً متميزاً فيه ـ إلا أن نبقى على اتصال وثيق بما جريات الأمور فيه.
4 ـ تحديد أهدافنا ورسم أمانينا وتصور مستقبلنا على ضوء من ماضينا وحاضرنا وواقع عالمنا. لقد ذهب إلى غير رجعة الزمان الذي كانت تسير فيه الأمور وفقاً للصدفة وعلى أساس من العفوية، فالعصر عصر تخطيط وتنهيج، وكل وطن لا يعرف ما يريد بالضبط ولا يهيء لهذا الذي يريد أسباب النجاح وطن محكوم عليه بالتخلف والتبعية وفقدان الاصالة.
5 ـ اختيار الطرق والأساليب والوسائل التي تحقق غاياتنا وتوصلنا لأهدافنا وتجعل من أمانينا حقائق واقعة لا أحلاماً وخيالات. وبديهي أن أشير إلى أن الطرق شتى والوسائل متباينة والأساليب مختلفة وأن ما يصلح منها لزمان أو مكان قد لا يصلح لزمان آخر أو مكان مخالف. وبديهي بعد ذلك أن أؤكد أني مؤمن بأن خبرات الآخرين مفيدة لنا وأن طرائقهم تنفعنا وأن أخطاءهم يجب أن نتجنبها ولكن شتان بين هذا ـ من حيث علاقته بالأصالة ـ وبين التقليد الأعمى والتبني الكامل لأساليب الآخرين وخططهم وطرائقهم ومفاهيمهم.
6 ـ الحرص فيما تقدم على أمور أساسية منها الوعي والمرونة والتقييم الدائم. أما الوعي فللتفريق بين الغث والسمين. بين الأساسي وغير الاساسي، وأما المرونة فالمقدرة على الحركة وعدم الجمود على فكرة أو طريقة، وأما التقييم فلكشف الصحيح ودعمه وترسيخه واكتشاف الخطأ وتنبه والتخلص منه.