فإن الإسلام هو الدين الحق الذي يطلبه الله من عباده ولا يقبل منهم سواه؛ إذ ما عداه من الدين باطل وضلال كما قال الله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَم } وقال: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }.
وهذا من حقائق الدين الواضحة الجلية التي يؤمن بها كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بل إن هذه الحقيقة اكتسبت أنصاراً لها ومؤيدين من رجالات العلم والمعرفة والتعقّل من أصحاب الديانات المخالفة للإسلام، ممن أطلقوا عقولهم من عقال التقليد والتعصّب، فجذبتهم إليها عندما رأوا أن معارفهم وعلومهم التي أفنوا شطراً كبيراً من حياتهم للوصول إليها، رأوها توافق ما يقرره هذا الدين من حقائق وقواعد، لذلك أقبل الكثير منهم على الدخول تحت لواء هذا.
ورغم هذه المكاسب والاختراقات التي يحققها الإسلام على صعيد النخبة العقلية والعلمية، فإن المسلمين يواجههم اليوم تحدٍ كبير، ليس تحدياً من قبل أعداء الإسلام عن طريق إثارة الشكوك والشبهات، ذلك أن الشُبُه لا تملك القدرة على الصمود في مواجهة براهين الحق والحقيقة التي ينفرد الإسلام بامتلاك ناصيتها، وإنما يكمن التحدي في الإقرار بأن الإسلام هو دين الحق، ثم محاولة تفريغه بعد ذلك من مضمونه الحقيقي في أذهان العامة التي لا تستطيع في كثير من الأحيان التمييز بين القشر واللباب، فيتحول الإسلام في وجدانهم إلى مظهر أجوف لا ثمرة له عند البحث عن المضمون.
إن خطورة هذا التحدي لا تستمد من قوة الطرح ولا من صدقيته، وإنما تأتي الخطورة من كونه يطرح باسم الفهم الصحيح للإسلام في ظل عصر التقنيات والاتصالات، ويقدمه مسلمون يظهرون في زي وسمت إسلامي.. نحن اليوم في هذه الفترة العصيبة من أوقات المسلمين أمام مرحلة جديدة مرحلة ما يمكن أن تسمى بمرحلة تسويق الإسلام الجديد، ففي ظل الضعف الشديد الذي تعانيه أمة المسلمين على مختلف الأصعدة، وفي ظل سطوة الكافرين وظلمهم وطغيانهم بعدما حازوا أسباب القوة وتفوقوا فيها على المسلمين واحتكروها، دَبّ الضعف والخور في نفوس طائفة من المسلمين من الوجهاء ومن بعض من يتعاطون شيئاً من العلوم الشرعية، فلم يروا مخرجاً من ذلك إلا عن طريق التقارب مع ما أفرزته الحضارة الغربية المادية التي لا تتعامل إلا مع المحسوسات، والقبول بما جاءت به وعدم معارضتها..
وفي ظل ذلك فقد بدأ العالم الإسلامي بعد الصحوة القوية، التي شهدها مع مطلع السبعينيات من هذا القرن، بدأ الآن يتراجع إلى قريب من الحالة التي كان عليها مع قرب نهاية القرن الثامن عشر، عندما دهمته قوى الاستعمار بما لديها من تقدم مادي وعسكري، فرجع إلى نصوص الشريعة يلوي أعناقها ويحرّفها عبر دروب كثيرة من التأويلات الفجّة التي لا تستقيم، من أجل أيجاد أرضية مشتركة بين ما دلت عليه الشريعة وبين ما أتت به الحضارة الغازية.
فبدأت تغزو أسماعنا الآن كلمات مثل: الإسلام المدني، والإسلام الديمقراطي، والإسلام الليبرالي، ثم الحديث عن قيم الإسلام التنويري، والانفتاح على الآخر المختلف الثقافي والديني، والتعاون في سبيل المشترك الإنساني وعدم نفي الآخر أو تهميشه، والتواصل بين المؤمنين في العالم (اليهود، النصارى، المسلمون) في سبيل خير الإنسانية، والكثير الكثير من أمثال هذه الجمل والتعبيرات التي تتداخل فيها الألفاظ والمعاني لإنتاج خلطة متقنة فيها الكثير والكثير من الأمور والمسائل والقضايا التي تخالف عقائد الإسلام وأحكامه، إضافة إلى القليل القليل من الطلاء الذي يبدو كأنه ينتمي إلى عناصر الدين الصحيح، حتى يبتلع المسلمون الخلطة المعدّة كما يحتال الصياد بحبة من القمح يوقع بها الطائر في شراكه، فلا يخرج منها إلا إلى الذبح.
إن المعركة اليوم شديدة وقائمة على أشدّها، وهي - بكل أسف وأسى - لا يديرها العدو الكافر المعلن بكفره وعداوته، وإنما يديرها مسلمون من جلدتنا ويتكلون بألسنتنا ويحتجون بما نحتج به من القرآن والسنة، لكن على غير الوجه السليم والاستدلال المستيقم، وقد بين لنا هذه الحقيقة الساطعة حذيفةَ بن اليمانِ، يقول: « كان الناسُ يسألونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنِ الخير، وكنتُ أسأله عن الشرِّ مخافة أنْ يُدركني. فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنا كنا في جاهليةٍ وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعدَ هذا الخيرِ من شر؟ قال: (نعم). قلتُ: وهل بعدَ هذا الشر من خير؟ قال: (نعم وفيه دَخن)، قلتُ: وما دَخَنُه؟ قال: (قومٌ يهدونَ بغيرِ هدْي، تَعرِفُ منهم وتُنكر). قلتُ: فهل بعدَ ذلك الخيرِ من شر؟ قال: (نعم، دُعاةٌ إلى أبوابِ جهنَّم، من أجابهم إليها قَذَفوهُ فيها). قلتُ: يا رسولَ الله صفهم لنا. فقال: (هم مِن جِلدتنا، ويتكلمونَ بألسِنتنا). قلتُ: فما تأمرُني إن أدركَني ذلك؟ قال: (تَلزَمُ جَماعةَ المسلمين وإمامهم). قلتُ: فإن لم يكنْ لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: (فاعتزلْ تلكَ الفرَقَ كلها، ولو أنْ تَعضَّ بأصل شجرةٍ حتى يُدركَكَ الموتُ وأنت على ذلك) » (أخرجه البخاري كتاب المناقب رقم 3338 ومسلم كتاب الإمارة رقم 3434 ).
فالإسلام الجديد الذي يروّج له اليوم في الدوائر الإعلامية والرسمية يتكلم به ناس من جلدتنا ويتحدثون عنه بلغتنا، وهو ليس الإسلام الذي طلبه الله منا ورضيه لنا، فليس هو إسلام الجهاد في سبيل الله لنشر دعوة الله بين العالمين، لأن ذلك وفق الفهم العصري للإسلام عدوان وهمجية تأباها الإنسانية المتمدنة، وإنما هو إسلام التعاون والتآخي بين المسلمين واليهود والنصارى على أساس أن المؤمنين أخوة.
وليس هو إسلام الدفاع عن الحقوق والبلاد والعباد لأن ذلك إرهاب يهدد السلم العالمي وإنما هو إسلام المحبة والتصالح مع الأعداء من أجل أمن المجتمعات، والإقرار بحق الأعداء في العدوان على ديار المسلمين من أجل الحفاظ على أمنهم ومصالحهم، وحق احتلال الأراضي واقتطاع أجزاء منها تضمن لهم ذلك.
وليس هو إسلام الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وإنما هو إسلام بذل المحبة للجميع للمسلم الصالح وللكافر المعاند، لأن ذلك من قيم التحضر والتمدن التي غابت عن المسلمين قروناً طويلة بسبب التأزم النفسي من الصراع مع غير المسلمين.
وليس هو الإسلام الذي يمنع الربا في المعاملات المالية والاقتصادية لأن ربا اليوم ليس كربا الأمس ربا الجاهلية القائم على الجشع، وإنما ربا اليوم إنما يعمل على رفاهية المجتمعات وتحقيق التنمية، وأن الاقتصاد لا يقوم إلا به وأن الدول لا تنهض إلا عليه.
وليس هو إسلام التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة وتقديم كلام الله وكلام رسوله على قول السماحة واليسر، « ما خُيرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين أمرينِ إِلاَّ ختارَ أَيْسَرهُما » ( ويتركون بقية الحديث: " ما لم يأْثم ").
وليس هو إسلام التزام المرأة بما حد الله لها، لأن هذا يعبر عن النظرة الدونية للمرأة، والهيمنة الذكورية التي تغلب على ثقافة المسلمين التي نشأت بسبب الموروثات البيئية، إضافة إلى عدم الثقة في المرأة مما يحرم المجتمع من قدراتها العظيمة، وإنما هو الإسلام الذي لا يمنع من تبرج المرأة وإظهارها لزينتها واختلاطها بالرجال ومشاركتها لهم في كل مجالات العمل ما دام الجميع محافظاً على الآداب العامة مع الاحترام المتبادل بين الطرفين.
وليس هو إسلام الثبات الذي يظل الحرام فيه حراماً والحلال حلالاً والواجب واجباً، لأن هذا تحجر وجمود، ولا يراعي خصوصيات الزمان والمكان والمستجدات العصرية، وإنما هو إسلام التطور والمرونة ومجاراة العصر حتى لو أدى ذلك للخروج على أحكامه المعلومة، ما دام أن ذلك الخروج يحقق المصلحة، فالدين ما جاء إلا لتحقيق المصالح...
وهكذا والقائمة طويلة، ولكن نقول أيها المسلمون اعلموا أن الإسلام دين من عند الله العليم الخبير بكل شيء الرءوف الرحيم بعباده، وأنه ليس نظرية علمية أو اكتشاف قابل للتغيير والتبديل مع تطور النظريات العلمية أو تجدد الاكتشافات، كما أنه ليس "موضة من الموضات" التي تتغير وتتبدل بتغير أذواق الناس وأوضاعهم، وأن هذا الدين قد أكمله الله وأتم به النعمة علينا، ورضيه لنا دينا: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً }، فلا تضيعوا نعمة الله عليكم التي حباكم بها، واقدروا هذه النعمة حق قدرها، واعلموا أن ما لم يكن ديناً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو على عهد خلفائه الراشدين فليس اليوم ديناً، فما لم يعرفه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا السابقون الأولون ولا أصحاب الشجرة فليس من الدين.
إن قوة الهجمة التي يراد منها تغيير الدين ولو باسم تجديد الدين أو باسم الدخول إلى عصر التقنيات الحديثة أو باسم الانفتاح على الآخر أو غير ذلك من المسوغات، ينبغي أن تقابل برد مكافئ في منتهى وشدة الوضوح، بعيداً عن التعميم والتداخل في الألفاظ والمناورات الكلامية وتمييع القضايا، فالأمر جد لا هزل فيه، وقد قال الله تعالى: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }، وأمر رسوله بالوضوح التام في تلك القضايا المصيرية التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً، فقال له: { قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ }. وقد حذرنا الرسول الكريم من هذا الصنف الذي يعمل على إفساد الدين في جمل قاطعة وواضحة فقال: « سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ » (أخرجه مسلم في المقدمة رقم 7 ).
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء دجالون كذابون، وحذر من الاستجابة لهم لأن في ذلك الفتنة والضلال فقال: « يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لاَ يُضِلُّونَكُمْ وَلاَ يَفْتِنُونَكُمْ » (أخرجه مسلم في المقدمة رقم 8 ).
إن مهمة العلماء الراسخين في رد تلك الهجمة مهمة جليلة وعظيمة، وهذا هو دورهم، ولا يصلح أن تترك قيادة السفينة في بحر قد تلاطمت أمواجه إلا للربان الخبير.. فهل من مستجيب؟