الخط العربي
في العصر الأندلسي
لم تكن شبه الجزيرة إيبريا (إسبانيا) شيئاً مذكوراً قبل الفتح العربي الإسلامي لها، ولم يكن فيها من الفنون ما يشجع الباحث لشدّ الرحال إليها لدراسة ما فيها من فنون وزخارف. رغم كونها بوابة البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى الشرق الحافل بالفنون منذ القديم، ورغم كونها ذراع أوروبا الممتد نحو أفريقيا والوطن العربي وأوروبا نفسها.
وإذا ما قيس واقعها قبل الفتح العربي الإسلامي لها إلى ما آلت إليه بعده، نجد البون واسعاً، والمسافة طويلة. فقد أصبحت تحمل اسم الأندلس، وأصبحت آية في الجمال والذوق الفني، مما شجع الإسبانيين أنفسهم للتخلّي عن لغتهم الأم، والإقبال على اللغة العربية التي أصبحت لغة العلوم ولغة العصر يومذاك، فهم ينهلون منها بشغف زائد، ويحرصون على تعلمها لأنها أصبحت لغة الثقافة العالمية.
وكان اهتمامهم في هذا المضمار واسعاً، فقد أهملوا لغتهم الأصلية وأقبلوا على اللغة العربية بعشق منقطع النظير، فتركوا قراءة الكتب المقدسة بغير لغة الضاد، واعتبروا اللغة اللاتينية، لغة ثانية، واللغة العربية هي اللغة الأم، إذ ترجمت التوراة والإنجيل للعربية، وبها قرئت في الكنائس. لقد كان دخول العرب المسلمين إلى إسبانيا انقلاباً جذرياً في عالم الثقافة والفكر، ومع دخول الإسلام إليها دخلت في عالم الحضارة والمدنيّة.
دخل الحرف العربي إلى كافة مرافق الحياة، فهو في سطور الكتاب، وهو في زخارف اللوحات، وهو في زخارف البيوت والمساجد ومراكز الولاية، وقصور الحكام، والأمراء والسلاطين، وهو في الكنائس والكاتدرائيات، وبه يقرأ المسلم القرآن في صلاته، والنصراني في إنجيله، واليهودي في توراته، وأصبح الأدباء والشعراء والمؤرخون والفنانون من الأديان الثلاثة يكتبون به، وكما دخل الخط الكوفي الأندلسي إلى المساجد فقد دخل الكنائس النصرانية والبيعَ اليهودية عن رغبة وشوق زائدين، لأن غير المسلم وجد فيه وسيلة للثقافة، ودفعاً للفن الرفيع.
وازدهرت الأندلس، ونسي المجتمع الذي عاش فيها متآخياً قروناً طويلة اللغة التي كانت سائدة في الأندلس قبل دخول المسلمين إليها، مما دفع ملوك أوروبا إلى إرسال أولادهم إلى جامعات الأندلس لتعلّم العلوم، والعودة بعد إتقانها إلى بلادهم، مما جعلهم يبذرون في أوروبا بذور العلم لنهضة تتناول كافة وجوه الحياة. ولكن بعد قرون من دخول العرب إلى الأندلس. وهذا ما جعل كبار المفكرين والمؤرخين يفخرون بالتغني بأيام العرب في الأندلس وإطلاق الحسرات على تلك الأيام، فيما نقلته زيغريد هونكه حيث قالت: (على بساط من نبات المسك والعنبر يتثنَّى، وتصفّر الريح خلاله، كانت أقدامنا تسير)( ).
واستمر الحرف العربي في الأندلس ثمانية قرون، كان خلالها مثالاً يحتذى للنهضة العلمية الرائعة التي خلّفها العرب في الأندلس، والتي أصبحت فيما بعد أنموذج المجتمع الإسلامي المثالي لمن أراد أن يعمل بروح الإسلام. وكانت الابتكارات الكثيرة، والاختراعات العجيبة.
وكان من بين تلك الاختراعات آلة الطباعة الحجرية التي كانت مستعملة في القرن التاسع عشر (فقد كان لعبد الرحمن كاتب اعتاد أن ينشئ الرسائل الرسمية في منزله، ثم ينفذها إلى ديوان خاص يصير فيه إظهارها على الورق، وهو نوع من الطباعة فتصدر في نسخ متعددة، توزع على عمال الدولة)( ).
وانتعشت أسواق الكتب في سائر المدن الأندلسية، وأصبح في كل مدينة سوق لبيع الكتب ومزاد لبيع الكتب بالمزاودة (بازار) وأصبح المخطوط العربي تحفة من التحف التي يزيّن بها الأثرياء قصورهم، ومادة أساسية لطلاب العلم الذين جعلوا غرفة في بيوتهم ذات رفوف وخزن كمكتبة خاصة لهم.
إضافة إلى عشرات المكتبات العامة في كل مدينة، يرتادها الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء.
وكانت أجمل هدية يتلقاها الملك فريدريك الثاني من أبيه ثياباً جميلة مطرّزة الأذيال والأردان بخط عربي بديع واضح، يقول فيه الخطاط بعد أن انتهى من نسجه وتطريزه: (بمصنع الملك مقر الشرف والحظ السعيد، مقر الخير والكمال، مقر الجدارة والمجد، في مدينة صقلية عام 528هـ)( ).
وهل اكتفى هذا الخطاط العربي بإتقان الخط العربي على لباس الملك الصقلي؟!
لقد رسم الفنون العربية أيضاً في بيئة لا تعرف أمثالها، فقد أملى عليه ملك صقلية روجر الثاني ابن الكونت روجر الأول الذي طرد العرب من صقلية بعد أن بقي العرب في هذه الجزيرة قرابة قرنين ونصف قرن، أمر الملك الخطاط العربي أن يرسم له على ثوبه صورة لأسدين يضربان جملين فيصرعاهما وذلك يرمز إلى أن الملك الصقلي الذي رمز له بصورة الأسد انتصر على الحاكم العربي المسلم الذي رمز له بصورة جمل( ).
أصبح الكتاب العربي في كل بيت، وأصبح المخطوط العربي في كل مكتبة، ولا يمكن أن يخلو شارع من شوارع غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من المدن الأندلسية من مكتبة عامة تقدم كافة الخدمات لمرتاديها.
وظل الملوك الذين حكموا الجزيرة بعد خروج العرب وانتهاء الدور الإسلامي فيها يسكّون النقود الإسبانية بحروف عربية، ويزينون ملابسهم بالخطوط العربية المذهبة والمطرّزة، مع أن الواقع يفرض عليهم أن ينهوا كل ما يشير إلى الوجود العربي والإسلامي في الجزيرة بعد انتصاراتهم على ملوك الطوائف وغياب شمس الإسلام، لكن الواقع المعاش يومذاك والحضارة التي تركها العرب لم تكن بالأمر الهيّن الذي يتنكّر له الملوك والعامة من غير المسلمين، فهم قد طردوا عنصراً عربياً، وطردوا ديناً يختلف عن طقوس دينهم، ولكنهم احتضنوا حضارة راحوا يعتزون بها ويفخرون، ويورثون هذه الحضارة لأولادهم وأحفادهم إلى الآن، فهم يعتبرونها أماكن أثرية إسبانية، كما يعتز العرب الآن في الآثار الرومانية التي خلفها الرومان يوم كانوا يسيطرون على بلاد الشام قبل الفتح الإسلامي.
إن الخط العربي في الأندلس لا يزال رغم مرور أكثر من ألف عام يحكي قصة الفن والإبداع العربي والإسلامي الذي توصّل إليه الخطاط والفنان المسلم في الأندلس حين وجد البيئة المناسبة للإبداع والنبوغ، وحين كان التقدم والعطاء المستمر ديدن كل مبدع، مما يجعلنا حين نقف على ما خلّفه العرب في الأندلس من آثار رائعة نقول: من هنا مرّت الحضارة العربية الإسلامية، ومن هناك عبرت الحضارة الإسلامية إلى أوربا. وفي هذه الأرض المعطاء انتعشت البذور الغضة التي زرعها المفكرون العرب قبل دخولهم إليها وبعده.