الخط العربي
في العصر العباسي
ما كاد الخطاطون يتربعون على عرش الخط في دمشق حتى زلزل العباسيون عرش الخلافة الأموية فيها، فاتجهت أنظار الخطاطين والفنانين إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية، ومدينة الخلفاء العظام المنصور والرشيد والمأمون، وطبيعي أن يرحل إليها الخطاطون كما رحل إليها الأدباء والعلماء، ليكونوا أقرب إلى الخليفة والدولة وينالوا أجر إبداعهم من الخلفاء والأمراء والموسرين وغيرهم.
وإذا كان العصر الأموي عصر تأسيس وبناء، فإن العصر العباسي عصر ازدهار ورخاء وبذخ، وفي مثل هذا العصر لابد أن يزدهر كل فن، وينبغ كل من يمتلك أدنى ملكة فنيّة أو علمية.
لقد ذاعت شهرة الخطاط (الضحاك بن عجلان) في خلافة أبي العباس السفاح، والخطاط (إسحاق بن حماد) في خلافتي المنصور والمهدي، حتى (بلغ الخط في عهدهما أحد عشر نوعاً)( ).
وتعددت أقلام الخطاطين وخطوطهم في عهد هذين الخطاطين حتى كانت مضرب المثل في إظهار ملكتهم في الحرف العربي. فلما جاء عصرا الرشيد والمأمون نضجت العلوم والفنون والمعارف، وراح الخطاطون يجوّدون خطوطهم، وينافسون في ذلك، حتى زادت الخطوط على عشرين خطاً، منها المستحدث ومنها المطوّر، فقد طوّر الخطاط إبراهيم الشجري (الثلث والثلثين) أكثر مما ابتدعه الخطاط قطبة المحرر، وقبيل نهاية القرن الثالث اخترع الخطاط يوسف الشجري أخو إبراهيم الشجري خطاً جديداً سمّاه (الخط المدوّر الكبير) حيث أعجب الفضل بن سهل وزير المأمون، فراح يعمِّمه على جميع الكتب السلطانية الصادرة عن دار الخلافة، فأطلقوا عليه (الخط الرياسي) بينما انتشر عند سائر طبقات المجتمع باسم (خط التوقيع) وقد استطاع الخطاط الأحول المحرر البرمكي أن يأخذ عن إبراهيم الشجري، وأن ينجح في اختراع خط جديد اسمه (خط النصف) الذي تفرعت منه خطوط جديدة فيما بعد)( ).
وجاء أبو علي محمد بن مقلة الوزير (272-328 هـ) فضبط الخط العربي، ووضع له المقاييس، ونبغ في خط الثلث حتى بلغ ذروته، وضرب به المثل، وحسده الآخرون.
كما أحكم خط المحقق، وحرر خط الذهب وأتقنه، وأبدع في خط الرقاع وخط الريحان، وميَّز خط المتن، وأنشأ الخط النسخي الحاضر وأدخله في دواوين الخلافة، وقد ترك ابن مقلة في الخط والقلم رسالته الهندسية( ).
وقد زاد ابن مقلة في الأوساط الفنية كخطاط أنه كان وزيراً لثلاثة خلفاء، ولفترات مختلفة، فقد كان وزيراً للمقتدر، وللقاهر بالله وللراضي بالله.
وحينما غضب عليه الخليفة، قطع يده اليمنى لكنه لم يترك الخط، بل كان يربط على يده المقطوعة القلم حينما يشرع في الكتابة، ثم أخذ يكتب بيده اليسرى فأجاد كما كتب بيمناه.
واستمرت رياسة الخط لابن مقلة حتى القرن الخامس، فاشتهر علي بن هلال (المعروف بابن البوًَّاب) والمتوفى سنة (413 هـ) فهذّب طريقة ابن مقلة في الخط، وأنشأ مدرسة للخط، واخترع الخط المعروف بالخط (الريحاني)( ).
ولو أردنا سبر المصاحف التي خُطَّت في العصر العباسي لتبيّن لنا أن معظمها (ترجع إلى القرن التاسع الميلادي، وهي مكتوبة على الرِّق بلونه الطبيعي، أو الملوّن الأزرق والبنفسجي أو الأحمر، وبمداد أسود أو ذهبي، وتظهر الحروف الكوفية فيها غليظة ومستديرة وذات مدَّات قصيرة، وجرَّات طويلة( ).
وبلغت الخطوط في أواخر العصر العباسي أكثر من ثمانين خطاً وهذه الكثرة شاهد على تقدم الفن والزخرفة إلى جانب الخط. وظهر في العصر العباسي خط اسمه (الخط المقرمط) وهو خط ناعم، حتى راح الخطاطون يتفنَّنون في رسم المصاحف رغم صغر الحجم، فهم يزوّقونها، ويعتنون في جميع صفحاتها التي قد تصل إلى أدنى من (6×8 سم) وقد استطاع الخطاط أن يبري قلمه إلى جزء من المليمتر.
ولم يكن الخط العربي وقفاً على الرجال في العصر العباسي، بل نجد المرأة تبرز في هذا المضمار الفني العريق، ففي القرن التاسع الميلادي كانت هناك امرأة برزت في النسخ وجودة الخط، فأعجب بها أحمد بن صالح وزير الخليفة المعتضد، وكتب عن براعتها ما يلي: (كان خطها كجمال شكلها، وحبرها كمؤخر شعرها، وورقها كبشرة وجهها، وقلمه كأنملة من أناملها، وطرازها كفتنة عينيها، وسكِّينها كوميض لمحتها، ومقطَّتها كقلب عاشقها)( ) حقاً لقد بلغ الخط في العصر العباسي ذروته.