ابن الهيثم
الحسن أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم، وهو من أعظم علماء الرياضيات والفيزياء ومؤسس علم البصريات وطبيب وفيلسوف اشتهر في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي. ولد في البصرة عام 354هـ / 965 م وعاش فيها حياته الأولى حيث اهتم بتحصيل العلم، والإلمام بما وصلت إليه الفلسفة والعلوم التعليمية بل والعلوم الطبية أيضا في عصره.
وعندما شب ابن الهيثم اشتغل كموظف في الديوان الحكومي، إلا أنه لم يعكف على مواصلة البحث والدراسة، فكان يقرأ الفلسفة ويشرح ويلخص ويختصر فيها من كتب اليونان ما أحاط فكره بتصوره وصنف في ذلك فروعا كثيرة. كما درس التشريح ولخص من كتب جالينوس في الطب وبلغ في ذلك مكانة عالية ولا سيما في تشريح العين، ولكنه لم يباشرها عملا ولم يتدرب على فنون المداواة والجراحة. وكان في جميع ذلك قد خط منهجا ذكر فيه: " وأنا ما دامت لي الحياة باذل جهدي ومستفرغ قوتي في مثل ذلك متوخيا منه أمورا ثلاثة: أحدها إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي، والثاني أني جعلت ذلك ارتياضا لي بهذه الأمور في إثبات ما تصوره وأتقنه فكري من تلك العلوم، والثالث أني صيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم".
عكف ابن الهيثم على الدراسة والبحث، إلى أن بلغه أن النيل في مصر ينحدر من موضع عال هو في طرف الإقليم المصري، فقال "لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص". فبلغ الحاكم بأمر الله كلام ابن الهيثم هذه فتشوق إلى رؤيته، فأرسل إليه أموالا وهدايا ورغبه في الحضور إلى مصر، فلبى ابن الهيثم ذلك وترك وظيفته الحكومية على الفور.
سافر ابن الهيثم إلى مصر، فلما بلغها خرج الحاكم بأمر الله للقائه وقابله بقرية على باب القاهرة اسمها الخندق فأكرمه الحاكم وأمر بحسن ضيافته. فأقام ابن الهيثم في الضيافة الملكية بضعة أيام حتى يستريح من عناء السفر، ثم طالبه الحاكم بإنجاز ما وعد به من أمر النيل.
سافر ابن الهيثم ومعه جماعة من الصناع المحترفين لأعمال البناء، وأهل فن العمارة ليستعين بهم على هندسته التي خطرت له. ولما سار إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخا لية وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة تحقق له أن الذي كان يقصده ليس بممكن فإن من تقدمه في العصور الخالية لم يبعد عن عقولهم علم ما علمه، ولو أمكن لفعلوه فانكسرت همته ووقف خاطره ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل قبل مدينة أسوان وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل فعاينه وباشره واختبره من جانبيه فوجد أمره لا يسير على موافقة مراده وتحقق الخطأ والغلبة عما وعد به وعاد خجلا، واعتذر للحاكم بأمر الله فقبل الحاكم عذره وولاه ديوانا فتولاه رهبة لا رغبة.
تولى ابن الهيثم الوظيفة بالديوان المصري إلى أن تحقق له الغلط في تلك الولاية. وكان الحاكم متقلب المزاج سفاكا للدماء بأضعف سبب، فأعمل ابن الهيثم فكره في أمر يتخلص به فلم يجد طريقا إلى ذلك إلا بالتظاهر بالجنون، فتظاهر بذلك وأشاع خبره حتى بلغ الحاكم، فعين له الحاكم وصيا وحجز على أمواله لمصلحته وجعل بجانبه من يخدمه وقيدوه وتركوه في موضع من منزله.
وظل ابن الهيثم على هذه الحال التعسة إلى أن بلغه وفاة الحاكم وتحقق هو من ذلك، فأظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه وخرج من داره واستوطن دارا بالقرب من الجامع الأزهر وأعيد إليه ماله.
وقد عاش ابن الهيثم بقية حياته في القاهرة واشتغل بالتأليف والنسخ، ولكنه لم يكن في سعة من العيش، فقد كان يرتزق من نسخ كتابين أو ثلاثة كتب رياضية، منها كتاب الأصول لإقليدس في الهندسة ، وكتاب المجسطي لبطليموس في الفلك . فكان ينسخها كل عام فيأتيه من أقاصي البلاد من يشتريها منه بثمن معلوم، لا مساومة فيه ولا معاودة، فيبيعها ويجعلها مئونة حياته طول سنته.
عرف ابن الهيثم بغزارة إنتاجه العلمي، وبلغت شهرته آفاق العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وكانت شهرته لا كعالم رياضي فحسب بل كمهندس له في الفنون الهندسية آراء. كما طرق الفلسفة والمنطق والطب والفلك واستحدث فيها آراء جديدة من الفكر العلمي توجها بعلم البصريات.
ولعل أهم ما يشتهر به ابن الهيثم إنجازاته في البصريات هو أنه أول من وصف أجزاء العين وعملية الرؤية فيها بشكل دقيق وسليم علميا وأبطل الرأي الإغريقي السائد آنذاك بأن الرؤية تتم بخروج شعاع من العين وسقوطه على الأشياء التي تتم رؤيتها، وكان وراء هذا الرأي بطليموس وإقليدس. فبين ابن الهيثم أن المنشور الضوئي يمر من الأشياء إلى العين خلال القرنية وفتحة القزحية وأجزاء العين الأخرى ليصل إلى الشبكية. كما درس نفاذ الضوء من الأوساط المختلفة فاكتشف قوانين انكسار الضوء وانعكاسه، والعلاقة بين زاوية سقوط الضوء وانكساره، وصاحب أول التجارب العلمية على تحلل الضوء إلى ألوانه المعروفة بألوان الطيف . وناقش من الموضوعات طبيعة الضوء، و قوس قزح ، والظلال و الخسوف . كما درس المرايا بأنواعها الكروية والمكافئة والانحراف الكروي. وقدم في دراسته ما عرف في الغرب باسم مسألة الهازن والتي تقوم على معادلات رياضية من الدرجة الرابعة. وفي مجال الطبيعيات بحث ابن الهيثم نظريات التجاذب بين الكتل، وتسارع الأجسام الساقطة بفعل الجاذبية . وفي الميكانيكا أشار ابن الهيثم إلى القانون الأول للحركة القائل بأن الجسم يظل على حالته ما لم تؤثر عليه قوة خارجية توقفه أو تغير اتجاهه.
ترك ابن الهيثم مؤلفات عديدة في شتى المجالات. أما أهم مؤلفاته فهي في مجال الرياضيات والفلك والبصريات والطب والتشريح. من أشهرها كتاب المناظر الذي يتضمن آراء مبتكرة جريئة في علم الضوء، وهو في سبعة أجزاء. وهو من أهم كتبه على الإطلاق. ورسالة مصادرات أوقليدس ، ورسالة حل شكوك أوقليدس ، ورسالة مساحة المجسم المكافئ العدد والمجسم ، ورسالة مقدمة ضلع المسبع ، ورسالة تربيع الدائرة، ورسالة استخراج أضلع المكعب ، ورسالة علل الحساب الهندي ، ورسالة التحليل والتركيب ، ورسالة حساب الخطأين. وكتاب الشكوك على بطليموس ، ومقالة المراية المحرقة بالدوائر ، ومقالة المراية المحرقة بالقطوع ، ومقالة الكرة المحرقة ، ومقالة كيفية الأظلال، ومقالة عمل البنكام. كما ألف في الطب كتابين أحدهما في تقويم الصناعة الطبية ضمنه ثلاثين كتابا قرأها لجالينوس، ورسالة في تشريح العين وكيفية الإبصار .