البنيوية والنقد البنيوي
(Strocturalism and Struetualist Criticim)
شبكة النبأ: ظهرت البنيوية كمنهج ومذهب فكري على أنها ردة فعل على الوضع (الذري) (من ذرة: أصغر أجزاء المادة) الذي ساد العالم الغربي في بداية القرن العشرين، وهو وضع تغذى من وأنعكس على تشظي المعرفة وتفرعها إلى تخصصات دقيقة متعددة تم عزلها بعضها عن بعض لتجسد من ثم (إن لم تغذ) مقولة الوجوديين حول عزلة الإنسان وانفصامه عن واقعه والعالم من حوله، وشعوره بالإحباط والضياع والعبثية، ولذلك ظهرت الأصوات التي تنادي بالنظام الكلي المتكامل والمتناسق الذي يوحد ويربط العلوم بعضها ببعض، ومن ثم يفسر العالم والوجود ويجعله مرة أخرى بيئة مناسبة للإنسان.
ولا شك أن هذا المطلب مطلب (عقدي) إيماني، إذ أن الإنسان بطبعه بحاجة إلى (الإيمان) مهما كان نوعه. ولم يشبع هذه الرغبة ما كان وما زال سائداً من المعتقدات الأيديولوجية، خاصة الماركسية والنظرية النفسية الفرويدية، فقد افتقرت مثل تلك المذاهب إلى الشمول الكافي لتفسير الظواهر عامة، وكذلك إلى (العلمية) المقنعة، ظهرت البنيوية (ولعلها ما زالت) كمنهجية لها إيحاءاتها الإيديولوجية بما أنها تسعى لأن تكون منهجية شاملة توحد جميع العلوم في نظام إيماني جديد من شأنه أن يفسر علمياً الظواهر الإنسانية كافة، علمية كانت أو غير علمية. من هنا كان للبنيوية أن ترتكز مرتكزاً معرفياً (إبستيمولوجيا).
فاستحوذت علاقة الذات الإنسانية بلغتها وبالكون من حولها على اهتمام الطرح البنيوي في عموم مجالات المعرفة: الفيزياء، والرياضيات، والانثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة والأدب. وركزت المعرفة البنيوية على كون (العالم) حقيقة واقعة يمكن للإنسان إدراكها. ولذلك توجهت البنيوية توجهاً شمولياً إدماجياً يعالج العالم بأكمله بما فيه الإنسان.
البنيوية التكوينية
(Genetie Structuralism)
البنيوية التكوينية، أو التوليدية، فرع من فروع البنيوية نشأ استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين للتوفيق بين طروحات البنيوية، في صيغتها الشكلانية، وأسس الفكر الماركسي أو الجدلي، كما يسمى أحياناً، في تركيزه على التفسير المادي الواقعي للفكر والثقافة عموماً.
أسهم عدد من المفكرين في صياغة هذا الاتجاه منهم المجري جورج لوكاش، والفرنسي بيير بورديو. غير أن المفكر الأكثر إسهاماً من غيره في تلك الصياغة هو الفرنسي الروماني الأصل لوسيان غولدمان. وكانت طروحات غولدمان نابعة وبشكل أكثر وضوحاً من طروحات المفكر والناقد المجري جورج لوكاش الذي طور النظرية النقدية الماركسية باتجاهات سمحت لتيار كالبنيوية التكوينية بالظهور وعلى النحو الذي ظهرت به، في الوقت الذي أفاد فيه أيضاً من دراسات عالم النفس السويسري جان بياجيه، وقد أشار غولدمان إلى تأثير بياجيه تحديداً في استعماله لمصطلح (البنيوية التكوينية): (لقد عرّفنا أيضاً العلوم الإنسانية الوضعية، وبتحديد أكثر المنهج الماركسي بتعبير مماثل تقريباً (استعرناه، علاوة على ذلك، من جان بياجيه)، هو البنيوية التكوينية.
.............................................
متعلقات
البنيوية والتاريخ: أهمية السر وعلاقته بالمعني تكرار الوصول إلي روح المعني يقتل سحر البنيوية (1)
إنّ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات كانت المخاض الحقيقي للتحول الذي حدث في النظرية النقدية البنيوية. وساهمت عوامل عدة في حدوث هذا التحول، وأنا أعتقد أنّ الذي قام بكشف ظهر البنيوية هو الرواية، بوصفها جنساً أدبياً ذا صلة مرجعية بالعالم الخارجي، فلا يمكن اختزالها إلي مجرد مجال صالح للتطبيقات اللسانية الصرفة. وعلي هذا الأساس، فقد كانت الدراسات الخاصة بتحليل العناصر الشكلية والدلالية للرواية تفعل فعلها في تعرية المنطق البنيوي. إذْ كشفت الدراسات التي تعني بتحليل السرد أنّ الأعمال الروائية تفترض قارئاً أو مؤلفاً ضمنيين. مما يعني أنّ المنطق البنيوي في تجريد النصّ من السياقات المرتبطة به وجعله عالماً مكتفياً بذاته، قد بدأ يتقلقل. وعلي أثر ذلك، فقد استشرت رغبة محمومة للبرهنة علي تهافت المنطق البنيوي الذي ازدهر إبّان الخمسينيات والستينيات في فرنسا بصحبة الدراسات اللسانية وحركة التحليل النفسي الجديد التي يقودها جاك لاكان. لقد قام عدد من النقاد بتفسير الكيفية التي تصاغ بها شخصية المؤلف ضمن النظام النصّي للرواية، وهذا خرق لفرضية أساسية من الفروض البنيوية، وهي فرضية موت المؤلف التي أرادت البنيوية أن تحاكي بها خطاب العلوم الذي تجرد من هيمنة المؤلف منذ القرن السابع عشر علي عكس الخطاب الأدبي، كما يشير إلي ذلك فوكو في جينالوجيا المعرفة. ثم انتقلت هذه الدراسات السردية لتفسير قضية أخري ذاتِ روابط يقع بعضها خارجَ النصّ، فيما يقع بعضها الآخر في النصّ نفسه، وهي الطريقة التي تصاغ بها وجهة النظر point of view في العمل الروائي، بوصفها نظام الأفكار المنقول بوساطة الضمائر المستعملة في الرواية، وطريقةَ سردها سرداً فنياً موهماً القارئ بحقيقة ما يجري من أحداث.
إنّ الأمر الجدير بالانتباه هنا، هو أنّ وجهة النظر تصحب معها بالضرورة أفكاراً وتحيزات اجتماعية أو أيديولوجية. وعلي هذا الأساس كان تطور الرواية يتقدم باتجاه تحديث تقنيـة الراوي، من خلال تعدد الرواة في عمل واحد، لا لمسوّغٍ يتعلق بالبنية اللسانية للنصّ وإنما لغرضِ خلقِ نمطٍ من أنماط التأثير والاستجابة، وكذلك لغرض خلق ضرب من ضروب الحوار مع الخارج ذي العلاقة بالبنية الاجتماعية أو بالتعاقب التاريخي، وما يصاحبهما من تغيرات شاملة. وقد اعترف تودوروف بأنّ وجهة النظر ربما تحمل خطاباً ايديولوجياً يتم عرضه من خلال البنية السردية للرواية. فالقبول، إذن، بفرضية (وجهة النظر) بحسب إشارة تودوروف يعني القبول بفرضية (التاريخ) التي تشكل القيمة الجمالية والدلالية للأعمال الأدبية بعامة. إنّ القارئ يتقمص الشخصية الروائية ذاتَ وجهة النظر، ويسعي إلي كشف الطابع المنطقي لبنائها، وربما تتعارض كثير من اعتقاداته مع اعتقادات تلك الشخصية، ولكنه يبحث في النهاية عن انسجامها مع طبيعتها وأفعالها. وهذا هو المنطق الذي يتحكم بالعلاقة بين القارئ العادي والعمل الروائي. وقد انشغل عدد من نقاد الأدب بالبحث عن معايير تلك العلاقة، التي تربط القارئ بالرواية. وساهم ذلك في خلق جدل نقدي حول الصلة المفترضة والمثيرة للقارئ بالتركيب الفني لعناصر العمل الأدبي. علي النحو الذي تمثل في ما قام به واين بوث في كتابه بلاغة الرواية rhetoric of fiction.
فقد أراد بوث في العام 1961 أنْ يبحث في مجمل الخصائص الشخصية للمؤلف الضمني الذي اقترحه في كتابه الآنف الذكر، ومعروف أنّ مفهوم المؤلف الضمني هو أحد المفاهيم الأساسية التي أوحت لآيزر في صياغة مفهوم القارئ الضمني implied reader الذي هاجم به الفرضية البنيوية التي تستبعد من النصّ العناصر الخارجية. واشترك هذا المفهوم ومفاهيم أخري في كتاب بوث في زحزحة كثير من الاعتقادات البنيوية السائدة، وفي تحويل مركزية الخطاب النقدي من مركزية نصية إلي مركزية تتعلق بالنص وبأفعال القراءة معاً، وبعمليات التأويل التي زعمت اتجاهات ما بعد البنيوية أنها تضيف إلي النص نصاً آخر تُملأ به الفجوات، التي هي جزء أساسي من بناء العمل الأدبي.
لقد زعم بوث أنّ النصوص الروائية المتخيلة كلها توحي بـ: مؤلف ضمني يرتبط به القارئ في أثناء القراءة (وقال:) إنّ المؤلف الضمني لكل رواية هو شخص ما يجب أنْ أتفق، إلي حد كبير، مع معتقداته إذا ما كان عليَّ أنْ أستمتع بعمله. وعلينا أن نعترف هنا، بأنّ عدداً من الدراسات الخاصة ببنية القصة والرواية كانت تجلّي فكرة انفتاح النصّ علي سياقات متعددة، كانت بمثابة البداية لخلق أزمة منهجية في المقاربة البنيوية. فقد ظهرت (أعمال روملهارت 1975، وماندر، وجونسن 1977، وستين وجلين 1979، وآخرون وهي تشدد علي بنية القصة) وهنالك مقالان علي قدرٍ كبيرٍ من الأهمية ينسبان للغوي الاجتماعي الأميركي وليم لابوف (الأول مكتوب بالاشتراك مع جوسيا وولتسكي، ظهر في Helms في العام 1967 تحت عنوان: تحليل السرد، الحكاية الشفاهية في التجربة الشخصية. والثاني ظهر في هيأة الفصل التاسع من لسانيات لابوف في: Inner city وقد عنون بـ: التجربة التحويلية في التركيب السردي... وهما يرغبان في فحص سرود كثيرة، ليشرعا، ويرويا خصائص السرد اللسانية والشكلية ووظائفها). إنّ الشيء المهم في هذه الدراسات هو أنها أظهرت أنّ البنية اللغوية لم تعد وحدها كافية لتجلية المعني الأدبي، فهنالك فجوات في النصّ نفسه بحاجة إلي إيضاحات تأتي من خارج بنيته. وعلي هذا الأساس كانت هنالك عودة منهجية إلي كلّ علمٍ يساهم في إعادة ربط الدلالات البعيدة للنص التي تم إقصاؤها منه حتي لا يكون وثيقة مرجعية خالصة، وإنما بناءً تخييلياً مخصوصاً يأخذ بنظر الاعتبار مسألة تطور الجنس الأدبي.
صراع ضد البنيوية
وإضافة إلي العامل الخاص بالرواية التي تمردت علي التقنين اللساني، فثمة عامل آخر جدير بالالتفات، هو الصراع الذي كان يخوضه النقاد اليساريون ضد البنيوية، متمثلاُ بجورج لوكاش، وبتلميذه الناقد الروماني الأصل لوسيان جولدمان في مجموعة من كتبه، ككتاب (الإله الخفي) الصادر في العام 1955 عن دار جاليمار في باريس، وكتاب (من أجل علم اجتماع الرواية) الصادر في العام 1964 عن دار جاليمار أيضاً، وكتاب (علم اجتماع الإبداع الأدبي). لقد ساهم جولدمان كثيراً في مناهضة البنيوية بصورتها الفرنسية، واشترك في الندوة الشهيرة التي أقامتها جامعة جونز هوبكنز في العام 1966 ببحث موسوم بـ(البنية: الواقع الإنساني والمفهوم المنهجي) وهو أحد البحوث التي عمِلت مع بحث جاك دريدا الموسوم بـ(البنية واللعب والعلامة في خطاب العلوم الإنسانية) علي شطر الندوة شطرين: الأول يقوده بارت وتودوروف ولاكان، والثاني يقوده جولدمان ودريدا. وأدي ذلك إلي احتضان (جامعة ييل) جاك دريدا الذي اجتمع حوله عدد من النقاد المناهضين للبنيوية، فأسسوا ما عُرف بـ(مجموعة نقاد ييل) التي ضمت (بول دي مان وجيوفري هارتمان و هيلز ميللر وآخرين). وقد ترك جولدمان أثراً واسعاً في النقد الانكليزي، ففي إحصائية قام بها الدكتور جابر عصفور بيّن فيها الترجمة الواسعة لكتب جولدمان إلي الانكليزية، إذ تُرجمت له تسعةُ كتب من سنة 1964 إلي سنة 1980. ويأسف جابر عصفور علي عدم العناية الكافية من جانب النقد العربي بترجمة أيّ عمل من أعمال جولدمان في ذلك التاريخ. ويبدو لنا أسفُ جابر عصفور مقبولاً لأنّ السبعينيات شهِدت بداية تدهور البنيوية في فرنسا، وبداية ظهور اتجاه جمالية التلقي في جامعة كونستانس في ألمانيا. وفي ميدان الفلسفة كان جاك دريدا يدعو في العام 1966 في ندوة جامعة جونز هوبكنز إلي (تفكيك ميتافيزيقا الحضور التي تنعكس في فكرة البنية نفسها). ولم تكن القراءة التفكيكية سوي تعارضٍ مع (المبدأ الذي يقول بأنّ في لغة النص يكمن الأساس الخاص بالنسق الذي يشتمل علي عمل وظيفي كاف... وان النص يمتلك نسقاً لغوياً أساسياً بالنسبة لبنيته الخاصة، التي تمتلك وحدة عضوية، أو نواةً ذاتَ مدلول قابل للشرح). وقد تنبه البنيويون أنفسهم إلي شيء من تلك الأزمة، فهذا جيرار جينيت يعتقد أنه بما أن الأدب (نتاج لغة، وبما أن البنيوية... منهج لساني بامتياز، فاللقاء الأكثر احتمالاً ينبغي أن يحدث بالتأكيد في ميدان المواد اللسانية: فالأصوات والأشكال والكلمات والجمل تؤلف الموضوع المشترك بين اللساني والفقيه اللغوي الذي يدرس النصوص إلي درجة أنه أمكن في البدايات الحماسية للحركة الشكلانية الروسية تحديد الأدب كلهجة بسيطة والنظر إلي دراسته كملحق بمبحث اللهجات العام فالمنهج البنيوي يعني بتماثلات في النص نفسه ويغض الطرف عن تماثلات مرجعية أخري كان يدافع عنها جولدمان ولوكاش وآخرون. فهذا المنهج يريد أن يعثر (في الشفرة علي الرسالة التي تبرز من خلال تحليل بني ماثلة، ولا تكون (الرسالة) مفروضة من الخارج بأحكامٍ إيديولوجية مسبقة). لقد خلقت تلك التحليلات اعتقاداً باغتراب الإنسان عن النصوص التي صنعها هو، ومن هنا فقد هتف الطلاب، في ثورتهم المعروفة في العام 1968 التي أطاحت بحكومة ديجول، ضد البنيوية، ورفعوا شعار (فلتسقط البنيوية).
البنيوية اللسانية والنقد الأدبي(2)
ظهرت البنيوية اللسانية في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين مع رائدها فرديناند دو سوسير من خلال كتابه" محاضرات في اللسانيات العامة" الذي نشر في باريس سنة 1916م . وقد أحدثت هذه اللسانيات البنيوية قطيعة إبستمولوجية(معرفية) مع فقه اللغة والفيلولوجيا الدياكرونية. وكان الهدف من الدرس اللساني هو التعامل مع النص الأدبي من الداخل وتجاوز الخارج المرجعي واعتباره نسقا لغويا داخليا في سكونه وثباته . وقد حقق هذا المنهج نجاعته في الساحتين اللسانية والأدبية حينما انكب عليه الدارسون بلهفة كبيرة للتسلح به و استعماله منهجا وتصورا ومقاربة في التعامل مع الظواهر الأدبية والنصية واللغوية. وأصبح المنهج البنيوي أقرب المناهج إلى الأدب لأنه يجمع بين الإبداع و وخاصيته الأولى وهي اللغة في بوتقة ثقافية واحدة، أي يقيس الأدب بآليات اللسانيات قصد تحديد بنيات الأثر الأدبي وإبراز قواعده وأبنيته الشكلية والخطابية. إذاً، ماهي البنيوية؟ وماهي مرتكزاتها؟ ومفاهيمها؟ وكيف تطورت في النقدين: الغربي والعربي؟ وإلى أي مدى يستطيع هذا المنهج أن يحيط بالنص الأدبي من جميع جوانبه؟
2- مفهوم البنيوية ومرتكزاتها المنهجية:
البنيوية طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين أساسيتين وهما: التفكيك والتركيب ، كما أنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز على شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقية النص في اختلافاته وتآلفاته. ويعني هذا أن النص عبارة عن لعبة الاختلافات ونسق من العناصر البنيوية التي تتفاعل فيما بينها وظيفيا داخل نظام ثابت من العلاقات والظواهر التي تتطلب الرصد المحايث والتحليل السانكروني الواصف من خلال الهدم والبناء أو تفكيك النص الأدبي إلى تمفصلاته الشكلية وإعادة تركيبها من أجل معرفة ميكانيزمات النص ومولداته البنيوية العميقة قصد فهم طريقة بناء النص الأدبي. ومن هنا، يمكن القول : إن البنيوية منهجية ونشاط وقراءة وتصور فلسفي يقصي الخارج والتاريخ والإنسان وكل ماهو مرجعي وواقعي ، ويركز فقط على ماهو لغوي و يستقرىء الدوال الداخلية للنص دون الانفتاح على الظروف السياقية الخارجية التي قد تكون قد أفرزت هذا النص من قريب أو من بعيد. و يعني هذا أن المنهجية البنيوية تتعارض مع المناهج الخارجية كالمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي والمنهج البنيوي التكويني الذي ينفتح على المرجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي من خلال ثنائية الفهم والتفسير قصد تحديد البنية الدالة والرؤية للعالم.
3- أنواع البنيوية:
إذا تأملنا البنيوية جيدا وبعمق دقيق باعتبارها مقاربة ومنهجا وتصورا فإننا سنجد بنيويات عدة وليس بنيوية واحدة: فهناك البنيوية اللسانية مع دوسوسور ومارتنيه وهلمسليف وجاكبسون وتروبوتسكوي وهاريس وهوكيت وبلومفيلد...، و البنيوية السرديةNarratologie مع رولان بارت وكلود بريمون وجيرار جنيت...، والبنيوية الأسلوبية stylistique مع ريفاتير وليو سبيتزر وماروزو وبيير غيرو، وبنيوية الشعر مع جان كوهن ومولينو وجوليا كريستيفا ولوتمان...، والبنيوية الدراماتورجية أو المسرحية Dramaturgie مع هيلبو... أو البنيوية السينمائية مع كريستيان ميتز....، والبنيوية السيميوطيقية مع غريماس وفيليب هامون وجوزيف كورتيس...، والبنيوية النفسية مع جاك لاكان وشارل مورون ، والبنيوية الأنتروبولوجية خاصة مع زعيمها كلود ليڤي شتراوس الفرنسي وفلاديمير بروب الروسي، والبنيوية الفلسفية مع جان بياجيه وميشيل فوكو وجاك دريدا ولوي ألتوسير...
4- مفاهيــــم البنيوية:
تستند البنيوية إلى مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الإجرائية في عملية الوصف والملاحظة والتحليل وهي أساسية في تفكيك النص وتركيبه كالنسق والنظام والبنية والداخل والعناصر والشبكة والعلاقات والثنائيات وفكرة المستويات وبنية التعارض والاختلاف والمحايثة والسانكرونية والدياكرونية والدال والمدلول والمحور التركيبي والمحور الدلالي والمجاورة والاستبدال والفونيم والمورفيم والمونيم والتفاعل، والتقرير والإيحاء،والتمفصل المزوج ....الخ.
وهذه المفاهيم ستشتغل عليها فيما بعد كثير من المناهج النقدية ولاسيما السيميوطيقا الأدبية والأنتروبولوجيا والتفكيكية والتداوليات وجمالية القراءة والأسلوبية والموضوعاتية..
5- البنيوية في العالم الغربي:
يعد كتاب Ferdinand de Saussure فرديناند دوسوسير "محاضرات في اللسانيات العامة" الذي ظهر سنة 1916م أول مصدر للبنيوية في الثقافة الغربية، ذلك أن سوسير اعتبر اللغة نسقا من العناصر بينها تفاعلات وظيفية وصفية. وحدد للمنهجية البنيوية مرتكزات أساسية كاللغة والكلام واللسان، والدال والمدلول، والسانكرونية والدياكرونية، والمحور الأفقي والمحور التركيبي، والتقرير والإيحاء، والمستويات اللغوية من صوتية وصرفية وتركيبية ودلالية...
وقد تفرعت البنيوية اللسانية السوسورية إلى مدارس لسانية كالوظيفية الوصفية مع أندري مارتيني A.Martinet ورومان جاكبسونR.Jakobson وتروبوتسكوي Troubetzkoy وكوگنهايم، ،والگلوسيماتيمكية مع هلمسليف Hjelmslev، والتوزيعية مع بلومفيلدBloomfield وهاريس Harris وهوكيتHockett... لتنتقل البنيوية مع نوام شومسكي Chomsky إلى بنيوية تفسيرية تربط السطح بالعمق عن طريق التأويل. ومع فان ديك وهاليداي، ستتخذ البنيوية اللسانية طابعا تداوليا براجماتيا ووظيفيا.
وأول من طبق البنيوية اللسانية على النص الأدبي في الثقافة الغربية نذكر كلا من رومان جاكبسون وكلود ليفي شتروسLévi- Strauss على قصيدة " القطط " Les chats للشاعر الفرنسي بودليرBaudelaire في منتصف الخمسينيات. وبعد ذلك ستطبق البنيوية على السرد مع رولان بارت Barthes وكلود بريموند Bremond وتزيطيفان تودوروف Todorov وجيرار جنيتGenette وگريماس Gremas... كما ستتوسع ليدرس الأسلوب بنيويا وإحصائيا مع بيير غيرو Guiraud دون أن ننسى التطبيقات البنيوية على السينما والتشكيل والسينما والموسيقا والفنون والخطابات الأخرى.
6-البنيوية في العالم العربي:
لم تظهر البنيوية في الساحة الثقافية العربية إلا في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات عبر المثاقفة والترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في جامعات أوربا. وكانت بداية تمظهر البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة ومؤلفات تعريفية للبنيوية ( صالح فضل، وفؤاد زكريا، وفؤاد أبو منصور، وريمون طحان ، ومحمد الحناش، وعبد السلام المسدي، وميشال زكريا، وتمام حسان، وحسين الواد، وكمال أبوديب....) ، لتصبح بعد ذلك منهجية تطبق في الدراسات النقدية والرسائل والأطاريح الجامعية.
ويمكن اعتبار الدول العربية الفرانكوفونية هي السباقة إلى تطبيق البنيوية وخاصة دول المغرب العربي ولبنان وسوريا ، لتتبعها مصر ودول الخليج العربي.
ومن أهم البنيويين العرب في مجال النقد بكل أنواعه: حسين الواد، وعبد السلام المسدي ، وجمال الدين بن الشيخ، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد بنيس، ومحمد مفتاح، ومحمد الحناش، وموريس أبو ناضر، وجميل شاكر، وسمير المرزوقي، وصلاح فضل، وفؤاد زكريا، وعبد الله الغذامي...
الفكر الغربي: مفهوم النزعة الإنسانية.. وتحولات ما بعد الحداثة(3)
هناك ما يشبه النزعة إلى التفكك، والرغبة في التشظي والانحسار التي تطال المرجعيات الثقافية التي تخص الفكر الغربي، وما يتصل به من قيم ومبادئ تأسست على يد فلاسفة عصر الأنوار.هذه النزعة جرى تداولها منذ عقد الستينات والسبعينات حيث الإرهاصات المعرفية المتشعبة، وتحولاتها السريعة، وكذلك ضغوطاتها المؤرقة التي تقود العالم بالضرورة إلى الانزلاق في نفق العولمة الكونية وحتمية منطقه العابر للدول والشعوب، خصوصا بنموذجه الأمريكي الرأسمالي الليبرالي. لقد أصبحت أهم المفاهيم الفكرية لمشروع الحداثة مثل المفاهيم التي لها صلة بالتطور والتقدم والعقلانية والأيديولوجيا والنزعة الإنسانية والذاتية والاستلاب والوعي تفقد بريقها وقوة تأثيرها شيئا فشيئا على الخطاب الفلسفي، بينما ظهرت بالمقابل تيارات فكرية وخطابات معرفية لها سمات النزعة البنيوية والنزعة التفكيكية والفلسفة ما بعد التحليلية وكذلك النزعة البرجماتية الجديدة. هذه الخطابات تشكل مقاربات تسعى إلى تجاوز التصورات العقلية، ومفهوم الذات العاقلة باعتبارها تمثل أساس التقليد الفلسفي الحداثي الذي خط معالمه الأولى ديكارت وكانط، لكنه من جانب آخر ظلت بعض المشاريع الفكرية تؤكد على أن الحداثة مشروع لم ينجز بعد والتي رفع شعارها فيلسوف الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت النقدية "يورجن هابرماس" حيث يرى أن نظرية الحداثة يجب أن تستند إلى التذاوت وتعتمد على التواصل المتكافئ والمتحرر من كل ضغط أو سيطرة، بحيث يقوده ذلك إلى عدم الحاجة إلى استلهام عناصر غير عقلية لنقد العقل، أو لتعبئة القوى المناوئة للحداثة والتي تشكل مقوما من مقوماتها " أي إن هابرماس بقي متشبثا بمنطلقه الذي يؤكد على أن نقد الحداثة لا يمكن أن يتم إلا من داخلها، فلا مجال إذن للرجوع إلى النماذج العتيقة أو إلى عوالم المتخيل للقيام بفعل النقد، والقيام بعملية الرجوع هذه تخرج صاحبها من إطار فلسفة الوعي بالضرورة. من ثم فالاختلاف الحقيقي عنده هو مواجهة الحداثة بعقل أكثر حداثة، وتغيير سياق فلسفة الذات بنظرية تذاوتية نقدية قادرة على قول خطاب برهاني صالح يحوز ما يكفي من المقومات لتعليل ادعاءاته والدفاع عن حقيقة وصدق ودقة قضايا وأفعال كلامه". لذلك نجده ميز في خطابه الفلسفي بين العقل التواصلي الفعال الذي حاول أن يبني عليه مشروعه الفكري النظري وبين العقل التقني الذي جعل إنسان ما بعد عصر الأنوار فاقدا كل دلالة تشي بإنسانيته، ومحولا إياه إلى مجرد جسد ينظر إليه كسلعة، وهذا ما أفضى بالتالي إلى وجود انشقاقات على المستوى الاجتماعي والإنساني والحياتي، الأمر الذي جعل من الفيلسوف هايدجر يقول إن التقنية هي ميتافيزيقيا العصر. ولم تسلم نظرية هابرماس من النقاش والنقد، بل فسحت المجال للنقد المضاد الذي وصل في بعض الأحيان إلى حد السجال، هنا نجد _ مثلا _ الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في سياق سجاله الفلسفي ضد هابرماس يرى " أن هذه النظرية تقوم على فرضية مستلهمة من هيجل وعلى فرضية ثانية هي أقرب إلى روح نقد الحكم لكانط، لكنها مثلها مثل النقد يجب أن تخضع لعادة الفحص الصارمة التي تفرضها ما بعد الحداثة على فكر التنوير، على فكر هدف موحد للتاريخ والذات اتسمت به غائية الميتافيزيقيا الغربية ".
وإذا كان هذا النقد يميز لحظة ما بعد الحداثة عن لحظة الحداثة، فإن منطلقاتها النقدية ترتكز على رفضها التام لشعار التنوير واعتباره مجرد وهم، وإن النظريات والأفكار ما هي إلا تعبير عن إرادة السلطة، وليس فوكو ودريدا وجيل دولوز وليوتار سوى الممثلين لهذا التوجه. خلاصة القول إذا كان منطق الحداثة الفلسفية قائماً على ما هو جديد وموحد ومتعقل، فإن نظيره ما بعد الحداثي قائم على ما هو زائل ومتشذر ومفصل وفوضوي.
إن الرجوع إلى المسألة المركزية في الفلسفة المعاصرة هو في العمق منه رجوع إلى مسألة النزعة الإنسانية التي هيمن النقاش فيها على مجمل الدراسات والأبحاث والندوات والمناظرات التي انجزت في ميادين الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث تطلق صفة النزعة الإنسانية على كل فلسفة " تتخذ من الإنسان محورا لتفكيرها وغايتها وقيمها العليا" _ ينظر في ذلك الدكتور عبدالرزاق الدواي - موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر - بمعنى أنها تهتم بالإنسان وتخصه بمكانة ممتازة في العالم، وفي تطور التاريخ وفي تطور سيرة المعرفة، وتعتبره كذلك قادرا على المبادرة والإبداع، وتؤكد على أولوية الوعي والإرادة في كل مشروع تأسيسي، وتنطلق من الذات والذاتية للبحث عن شروط تأسيس الموضوع والموضوعية, وتؤمن بأن المبادرات البشرية تساهم في صناعة التاريخ، وأن التاريخ يحقق نوعا من التقدم، وإن لذلك التقدم اتجاها ومعنى مرتبطين بفعاليات وأهداف بشرية متحققة، وإن هذه التصورات والأفكار تعتبر بمثابة أوهام _ كما أشرنا سابقا _ تستند على هشاشة مفهوم الإنسان وضعفه وعقم مبادراته في تغيير الحياة. وهذا الرأي ذاته هو الذي تردده التيارات الفلسفية المنتقدة للنزعة الإنسانية وإن تباينت أصواتها الفلسفية المختلفة حسب الحقل المختص، والرافد الثقافي المؤثر. وربما كان العامل المشترك الذي يسيطر على اشتغالاتهم الفكرية هو هيمنة روح التقويض والتفكيك " تفكيك العقل والعقلانية والمبادئ والقيم والمعنى والدلالات والأهداف والغايات والتاريخ، أي تفكيك الإنسان وعالمه الثقافي " حيث تحول الإنسان من منظور الفكر المعاصر من مشيد للحضارات ومبدع للثقافات، من سليل برومثيوس إلى مجرد نسخة جديدة عن سيزيف كما يعبر عن ذلك "jean brun"، وبدا واضحا أن الفكر المعاصر في توجهاته التفكيكية يستعيض عن فكرة الإنسان بالإحالة إلى الأنساق اللاشعورية وإبدال الذات المتكلمة باللغة كنسق مقفل مكتف بذاته، والإنسان المُنتج بنسق الإنتاج، والإنسان العالم الباحث بالمعرفة كسياق بدون ذات حتى قيل "بأن البنيات اللاشعورية هي التي تحدد بكيفية مسبقة وظيفة الفرد في المجتمع وتختفي وراء الأقنعة والشخصيات التي يتقمصها" ويمكن أن نتلمس تجلياتها بوضوح مطلق في الخطاب الأنثروبولجي البنيوي عند شتروس، والنقد الجينالوجي عند فوكو، والنقد التفكيكي عند دريدا، نقول ذلك ونحن لا نغفل الأرضية الفلسفية التي يقفون عليها خصوصا فوكو. هذه الأرضية ترجع في غالبيتها إلى نقد نيتشة من خلال الجهد الذي بذله في تقويض الميتافيزيقيا الغربية، وما يتعلق بها من مفاهيم وأفكار وتصورات.