جمع "ثابت بن سنان" بين عدد كبير من العلوم الإنسانية والتطبيقية، فكان مؤرخًا فيلسوفًا وأديبًا، كما كان طبيبًا وفلكيًا ورياضيًا، وكانت له بصمات واضحة في تلك العلوم والفنون، بالرغم من أنه لم يحقق قدرًا كبيرًا من الشهرة، ولم يبلغ ما بلغه جده "ثابت بن قرة الحراني" من الشهرة والذيوع.
نشأة علمية في أسرة عريقة
ولد "أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة" في أسرة عريقة، اشتهرت بالعلم والطب، ونشأ في بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية، وموطن العلم وقبلة العلماء، كان أبوه "سنان" طبيبًا ماهرًا، وقد خوله الوزير "أبو عيسى بن الجراح" مهمة الإشراف على علاج المساجين في سجون الدولة، وتوفير الدواء والرعاية الصحية لهم.
كما قلده البيمارستانات ببغداد وغيرها، فكان يقوم بعمله بمهارة وإتقان جعلته موضع ثقة الوزير "علي بن عيسى" والخليفة "المقتدر بالله العباسي".
وكان جده هو الطبيب المعروف "ثابت بن قرة" الذي برز كواحد من أكبر الأطباء والمترجمين في القرن (3هـ = 9م)، والذي كان يتميز بالبراعة والذكاء، وقد روي عنه حفيده "ثابت بن سنان" قصة طريفة مؤداها أنه كان يمر في طريقه دائمًا بجزار يبيع اللحم، وكانت له عادة غريبة، فهو يقطع شرائح الكبد ويضع عليها الملح ثم يتناولها نيئة. وتوقع "ثابت" له أن يصاب بأذى، فجهّز الدواء اللازم له، وكان يحمله معه كلما مر عليه، وفي أحد الأيام مر ثابت بالجزار فسمع صراخًا وعويلاً، فأدرك أنه صار إلى ما توقعه له وعندما سأل عن الخبر قيل له: إن الجزار قد مات، فطلب الدخول عليه، وعلى الفور بدأ بتنشيط نبض الرجل وأعطاه الدواء الذي أعده خصيصًا له، وسرعان ما أفاق الرجل وبدأ يستعيد نشاطه وحيويته.
في بلاط العباسيين
وقد عاصر "ثابت بن سنان" عددًا كبيرًا من الخلفاء العباسيين، وكانت له مكانة وحظوة في بلاط كثير منهم، وجعل علمه وخبرته ومهارته في خدمتهم، فاتصل بالخليفة "الراضي" [320-322هـ = 932-943م]، كما خدم الخليفة "المتقي بالله" [329-333هـ = 941-944م]، وكذلك الخليفة "المستكفي بالله" [333-334هـ = 944-945م]، والخليفة "المطيع" [334-363هـ = 945-974م].
وتولى "ثابت بن سنان" إدارة بيمارستان بغداد فترة طويلة من الزمان.
وكان "ثابت" طبيبًا نبيلاً، اطلع على كتب الأقدمين، وأضاف إليها العديد من خبراته ومشاهداته، وقد ساعده على التبحر في علوم الطب أنه نشأ في أسرة توارثت هذا العلم، وقد سلك فيه مسلك جده "ثابت" في نظره في الطب والفلسفة.
ابن سنان مؤرخًا
ولم يمنع اشتغال ثابت بالطب من اشتغاله بعلم آخر بعيد تمامًا عن مجال الطب، وهو علم التاريخ، وقد وضع "ثابت" كتابًا مشهورًا في التاريخ، أخذ عنه كثير من المؤرخين الذين جاءوا من بعده، وكان كتابه هذا يسجل فترة مهمة من التاريخ الإسلامي في العصر العباسي، بدأه من خلافة المقتدر بالله العباسي سنة [295هـ = 908م] وانتهى قبيل وفاته بنحو عامين سنة [363هـ = 974م]، وقد جعله ذيلاً على "تاريخ الطبري"، ونسج فيه على منواله، واتبع طريقته في التصنيف، إلا أن هذا الكتاب فُقد، ولم يصلنا منه سوى بعض النقول ولكن تظل مهنة الطب هي المسيطرة على فكر ابن سنان وثقافته فهي تطل من ثنايا كتاباته في التاريخ، وبدا جليًا تأثره الواضح بمهنته كطبيب، فكان يهتم بالأخبار الطبية الطريفة، فينساب قلمه في وصفها شارحًا ومحللاً، من ذلك قوله: "حدثني جماعة من أهل الموصل ممن أثق به أن بعض بطارقة الأرمن أنفذ في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة إلى ناصر الدولة رجلين من الأرمن ملتصقين".
ويهتم "ثابت" بوصف صفة التصاق التوأمين، وكيفية تحركهما وتناولهما الطعام، ويتحدث عن اختلاف طبائعهما وتباين مزاجهما، واختلافهما في الميول والاهتمامات.
وفي موضع آخر يقول: "ورأيت في صدر أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وكان لها كفان بأصابع تامة معلقتان رأس كتفيها لا تعمل بهما شيئًا. وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها ورأسها تغزل برجلها وتمد الطاقة وتسويها وتسرّح امرأة برجليها".
ابن سنان معلمًا وطبيبًا
وكان "ثابت بن سنان" أستاذًا للعديد من الدارسين والأطباء، وكان يدرس كتب أبقراط وجالينوس، وكان أحمد وعمر ابنا يونس بن أحمد الحراني ممن قرأ عليه كتب جالينوس في بغداد، كما شارك في ترجمة كثير من الكتب الطبية من اللغات السريانية واليونانية وشرحها وإضافة معلومات جديدة إليها.
وكان لبراعته ومهارته وعلمه أكبر الأثر في توليه رئاسة بيمارستان بغداد خلفًا لأبيه ليكون عميدًا لأطباء بغداد.
وتوفي "ابن سنان" في [11 من ذي القعدة 365هـ = 11 من يوليو 975م].
وقد رثاه "أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ" بأبيات، منها:
أثابت بن سنان دعوة شهدت
لديها أنه ذو علة أسف
ما بال طبك لا يشفي، وكنت به
تشفي العليل إذا ما شفّه الدنف
غالتك غول المنايا فاستكنت لها
وكنت ذا يدها والروح تختطف