الرأسمالية:
كيف بدأ النظام
إن واحدة من أكثر النقاشات هزلاً هي التي تسمعها تقول أن الأوضاع لم يكن لها أن تختلف عما هي عليه الآن. ولكن الأوضاع بالفعل كانت مختلفة، ليس في مكان بعيد على الكرة الأرضية، ولكن هنا في هذه الدولة وليس منذ زمنا طويلا.
فمنذ حوالي 250 عاما، ربما اتّهمك الناس بالجنون إذا ما وصفت لهم العالم الذي نعيش فيه اليوم بمدنه الضخمة ومصانعه الكبيرة وطائراته ورحلات فضائه، وحتى بنظم السكك الحديدية. كان كل ذلك سيفوق خيالهم. لقد عاش الناس قديما في مجتمع تهيمن عليه الزراعة، ولم يخطوا غالبيتهم عشرة أميال خارج قراهم حيث تَحدّد نمط الحياة - كما كان سائدا لآلاف السنوات - على تعاقب الفصول.
ولكن منذ 700 أو 800 سنة، حدث تطور في المجتمع كان من نتائجه مناهضة النظام القائم بأكمله. بدأت مجموعات من الحرفيين وأصحاب الأعمال التجارية بناء مستقبلهم في المدن؛ فهم لم يعودوا يقدمون خدماتهم مقابل لا شيء للسيد الإقطاعي كما فعل باقي السكان، ولكنهم كانوا يبادلون منتجاتهم مع السادة والأقنان على اختلافهم مقابل الطعام.
وبشكل متزايد، أصبحوا يستخدمون المعادن الثمينة كمعيار لهذا التبادل.
وبالتالي، فالنظر إلى كل نوع من المبادلة كفرصة للحصول على عدد أكثر قليلا من المعادن الثمينة وتحقيق الربح لم يعد يمثل خطوة كبيرة للأمام.
في البداية، استطاعت المدن أن تبقى على قيد الحياة من خلال تأليب السادة الإقطاعيين ضد بعضهم البعض.
ولكن بتحسّن مهارات من لديهم من حرفيين، استطاعوا تكوين ثروة أكبر، وبالتالي زاد نفوذهم كثيرا.
فـ "البرجوازية" أو "الطبقات الوسطى" قد بدأت تظهر كطبقة من ضمن نسيج المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى.
ولكنهم استطاعوا أن يحققوا ثراءهم بطريقة مختلفة تماما عن السادة الإقطاعيين والذين كانوا يسيطرون على المجتمع.
فلقد عاش السيد الإقطاعي مباشرة على الإنتاج الزراعي الذي أخرجه عبيده من أرضه بالقوة.
فالسيد قد استخدم قوته الشخصية ليجعلهم يقومون بهذا العمل بدون أن يكون مضطرا لدفع أي أجر لهم.
وعلى عكس ذلك الوضع، عاشت الطبقات الغنية في المدن على بيع السلع غير الزراعية.
كما أنهم كانوا يدفعون للعمال أجورا من أجل إنتاج تلك السلع، إما باليوم أو الأسبوع.
وهؤلاء العمال، وهم في غالبيتهم من العبيد الهاربين، كانوا "أحراراً" في الذهاب والعودة كما شاءوا طالما أنهم انتهوا من العمل الذي يأخذون عليه أجراً.
أما الشيء الإلزامي "الوحيد" بالنسبة لعملهم فهو أنهم كانوا سيموتون من الجوع إذا لم يجدوا عملا عند أحد.
أما الأثرياء فكانوا يزدادون ثراءً لأن ذلك العامل "الحر" اضطر - بدلا من الموت جوعا - إلى أن يقبل بأجر على عمله أقل من قيمة السلع التي كان ينتجها.
وسوف نرجع إلى هذه النقطة فيما بعد.
أما ما يهمنا الآن فهو أن طبقة البرجوازيين الوسطى والسادة الإقطاعيين قد حصلوا على ثرواتهم من مصادر مختلفة تمام الاختلاف.
وهذا جعل لديهم الرغبة في أن يروا المجتمع منظماً بطرق مختلفة.
إن المجتمع المثالي بالنسبة للسيد الإقطاعي كان مجتمعا يتحقق له فيه النفوذ المطلق على أراضيه الخاصة وبدون التقيد بالقوانين المنصوص عليها أو تدخّل أي شخص من الخارج، وأيضا ضمان عدم هروب عبيده. أراد ذلك السيد أن تبقى الأوضاع كما كانت عليه في أيام والده وجده، بحيث يقبل كل فرد الوضع الاجتماعي الذي ولد به.
أما طبقة البرجوازيين الغنية الحديثة، فقد رأت الأمور بشكل مختلف. لقد أرادوا فرض قيود على نفوذ الإقطاعيين أو الملوك لكي يتدخلوا في أمور تجارتهم أو ليسرقوا ثروتهم. كان عندهم حلماً بتحقيق ذلك من خلال منظومة مستقرة من القوانين المكتوبة، يتم تجهيزها وفرضها بواسطة ممثلين لهم. فلقد أرادوا أن يحرروا الطبقات الفقيرة من العبودية حتى يستطيعوا العمل في المدن (ويزيدون من ثروة البرجوازيين).
فبالنسبة لهم هم شخصيا، نال آباءهم وأجدادهم الكثير من المعاناة تحت حكم السادة الإقطاعيين، فهم بالتأكيد لم يرغبوا في استمرار ذلك الوضع.
باختصار إذن، أراد البرجوازيون إحداث ثورة في المجتمع.
ولم تكن صراعاتهم مع النظام القديم بسبب عوامل اقتصادية فقط، ولكن أيضا لدوافع أيديولوجية وسياسية.
وتعلق الخلاف الأيديولوجي أساسا بالعامل الديني - في مجتمع نسبة الأمية غالبة به - حيث كان المصدر الرئيسي للأفكار العامة عن المجتمع هو خطبة الكنيسة.
وحيث أن الكنيسة في العصور الوسطى كان يديرها الأساقفة والرهبان، والذين كانوا ينتمون هم أنفسهم لطبقة السادة الإقطاعيين، فقد حرضت الكنيسة على الأفكار المؤيدة لتلك الطبقة وهاجمت الكثير من ممارسات برجوازيي المدن باعتبارها "خطايا".
ولذلك نجد أنه في ألمانيا، هولندا، إنجلترا وفرنسا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، قامت الطبقات الوسطى بالدعاية لدين خاص بهم:
البروتستانتية، وهي أيديولوجية دينية تدعو إلى حسن التدبير والاتزان والعمل الشاق (خاصة بالنسبة للعمال!)، وأيضا استقلالية الطبقات الوسطى عن نفوذ الأساقفة والرهبان.
لقد أبدعت الطبقة الوسطى إلهاً في خيالها، في مقابل إله العصور الوسطى.
واليوم، يُحكى لنا في المدرسة أو على شاشة التليفزيون عن الحروب الدينية العظمى أو الحروب المدنية لتلك الفترة كأنها كانت فقط نتاج للاختلاف الديني، وكأن الناس كانت تحارب وتموت لمجرد اختلافهم حول دور جسد أو دم المسيح في العشاء الربّاني.
ولكن كانت هناك الكثير من الأمور الخطيرة، خاصة الصراع بين نمطين للمجتمع مختلفين تمام الاختلاف ومبنيين على طريقين مختلفين لتنظيم إنتاج الثروة.
في بريطانيا، كسب البرجوازيون المعركة.
وعلى الرغم من كون ما حدث في تلك الأثناء يبدو مرعبا للطبقة الحاكمة اليوم، فإن أجدادهم وصلوا للسلطة بقطع رأس الملك وتبرير ذلك بما نصّ عليه لغو الأنبياء في التوراة.
ولكن في مناطق أخرى، كسب الإقطاعيون المعارك في الجولة الأولى. ففي فرنسا وألمانيا، تم سحق الثوريين البرجوازيين البروتستانت بعد سلسلة من الحروب المدنية الفظيعة (على الرغم من أن الديانة التي بقيت في شمال ألمانيا كانت نموذج إقطاعي للبروتستانتية).
واضطر البرجوازيون أن ينتظروا قرنين أو أكثر قبل أن يحرزوا النصر، وذلك في الجولة الثانية التي لم تلبس عباءة الدين في باريس 1789.
الاستغلال وفائض القيمة
في مجتمعات العبودية والإقطاع، كان على الطبقات العليا أن تخلق القوانين التي تسيطر بها على الجماهير العاملة.
فإذا لم تفعل ذلك، كان يمكن لأولئك الذين يعملون لدى السيد الإقطاعي أو مالك العبيد الهرب، تاركين الطبقة المتميزة بدون أفراد يعملون في خدمتها.
ولكن الرأسمالي عادة لا يحتاج إلى مثل تلك السيطرة القانونية على الفرد العامل.
إنه لا يحتاج لأن يمتلكه ولكنه يجب أن يتأكد من أن العامل الذي يرفض العمل لدى الرأسمالي سوف يموت من الجوع. فبدلاً من امتلاك العامل يمكن للرأسمالي أن يزدهر ويتقدم لأنه يملك ويسيطر على مصدر عيش العامل:
أي الآلات والمصانع.
فالاحتياجات المادية للحياة كانت تُنتَج بواسطة عمل البشر.
ولكن يصبح هذا العمل غير مفيد على الإطلاق بدون آلات تحرث الأرض وتصنّع المواد الخام. ويمكن أن تتنوع هذه الآلات تنوعا كبيرا، بداية من الآلات الزراعية البدائية مثل المحراث والفأس، وانتهاء بالآلات المعقدة والتي تجدها في المصانع الحديثة. وهكذا، فبدون الآلات لا يستطيع حتى أكثر العمال مهارة أن ينتجوا الأشياء التي يحتاجها البشر للبقاء على قيد الحياة.
لقد كان تطور تلك الآلات - والتي عادة ما يطلق عليها "وسائل الإنتاج" - هو العامل الذي يفصل بين إنسان العصر الحديث وأسلافنا القدامى في العصر الحجري.
فالرأسمالية تعتمد على امتلاك وسائل الإنتاج هذه بواسطة قلة من الأفراد. وفي بريطانيا اليوم، على سبيل المثال، يمتلك 1% من السكان حوالي 84% من الأسهم والسندات في الصناعة.
كما تتركز في أياديهم آليات التحكم الفعال في الغالبية العظمى من وسائل الإنتاج - مثل الآلات، المصانع، حقول البترول، وأفضل الأراضي الزراعية.
ويستطيع غالبية الجماهير أن يحصلوا على وسائل عيشهم فقط إذا سمح لهم الرأسماليون بالعمل في وبوسائل الإنتاج تلك. إن هذا يعطي الرأسماليين قوة هائلة لاستغلال عمل البشر الآخرين، حتى إذا كان "الكل متساوي" أمام القانون.
لقد مكث الرأسماليون عدة قرون لكي يشيدوا نظم احتكارهم وسيطرتهم على وسائل الإنتاج.
ففي إنجلترا، على سبيل المثال، كان على البرلمان في القرنين السابع والثامن عشر أن يمرّر أولا سلسلة من اللوائح الصارمة والتي قضت على الفلاحين بالطرد من أراضيهم التي حرثوها لقرون عديدة، أي وسائل إنتاجهم.
وأصبحت الأرض ملكاً لقسم من الطبقة الرأسمالية، وتم إجبار سكان الريف على بيع عملهم للرأسماليين أو أن يموتوا من الجوع.
وعندما حقق الرأسماليون هذا الاحتكار على وسائل الإنتاج، منحوا الجماهير الحرية والمساواة الشكلية في ممارسة الحقوق السياسية معهم.
فمهما بلغت "الحرية" بالعمال، كان عليهم أن يعملوا للبقاء على قيد الحياة.
ونجد لدى الاقتصاديين المساندين للرأسمالية تفسيرا بسيطا لما حدث في تلك المرحلة. فهم يقولون أنه بدفعه للأجور، يشتري الرأسمالي عمل العامل.
ويجب عليه أن يدفع ثمنا منصفا له، وإلاّ سوف يتركه العامل ليعمل عند آخر.
فالرأسمالي يعطي "أجر يومي منصف" وفي المقابل يجب أن يعطي العامل "عمل يومي منصف" .
كيف إذن يفسرون الربح؟
يقولون إن الربح يعتبر "مكافأة" للرأسمالي على "تضحيته" في السماح باستخدام وسائل إنتاجه (رأسماله).
وتعتبر هذه الأطروحة غير مقنعة لأي عامل يفكر في الأمر لمدة دقيقة واحدة.
خُذ مثلا شركة تعلن عن "معدل ربح صافي" 10%. فهي تقول أنه إذا كانت تكلفة الآلات والمصانع كلها وغيرها التي تمتلكها تبلغ 100 مليون جنيه إسترليني، فسيتبقى لهم 10 مليون إسترليني كربح بعد دفع الأجور وتكلفة المواد الخام وإحلال الآلات المتهالكة في السنة.
وأنت لا تحتاج أن تكون عبقريا لترى أنه بعد عشرة أعوام ستكون الشركة قد حققت إجمالي ربح 100 مليون جنيه إسترليني - أي التكلفة الكلية لاستثماراتهم في البداية.
فإذا كانت "التضحية" هي التي تُكافَأ، فبالتأكيد بعد العشرة أعوام الأولى ستكون كل الربحية قد انتهت.
وعند هذه النقطة، سيكون الرأسماليون قد حصلوا على المبلغ الكامل الذي وضعوه كرأسمال في البداية. ولكن في الواقع، أصبح الرأسمالي الآن أكثر ثراء عن السابق بالضعف.
فهو يمتلك استثماره الأصلي و الأرباح المتراكمة.
أما بالنسبة للعمال في هذه الأثناء، فهم قد ضحّوا بمعظم طاقتهم التي تعينهم على الحياة وذلك بالعمل في المصنع لمدة 8 ساعات يوميا، أي 48 ساعة أسبوعيا.
هل أصبحوا أكثر ثراء بالضعف في نهاية الأعوام العشرة عن البداية؟
بالطبع لا.
وحتى إذا كان العامل يدّخر بشكل متصل، فهو لن يستطيع أن يشتري أكثر من تليفزيون ملون مثلا أو سيارة مستعملة، أو ما شابه ذلك.
فالعامل لن يتمكن أبدا من أن يدخر المال الذي يجعله قادرا على شراء المصنع الذي يعمل به.
وهكذا، "فالعمل اليومي المنصف مقابل الأجر اليومي المنصف" قد ضاعف من رأسمال الرأسمالي بينما ترك العامل بدون رأسمال وبدون بديل غير أن يستمر في العمل بنفس الأجر تقريبا.
فـ "الحقوق المتساوية" للرأسمالي والعامل قد تزايدت بشكل غير متساوي.
إن واحدة من أعظم اكتشافات كارل ماركس هو تفسيره لهذا التناقض الواضح. فليس هناك أي آلية تفرض على الرأسمالي أن يدفع لعماله القيمة الكاملة لعملهم.
فالعامل الذي يعمل في الصناعات الهندسية اليوم، على سبيل المثال، يمكن أن ينتج ما قيمته 400 جنيه إسترليني في الأسبوع الواحد.
ولكن هذا لا يعني أنه سيحصل على نفس هذا المبلغ كأجر، ففي 99% من الحالات، يحصل العامل على أقل بكثير من هذا المبلغ.
أما البديل بالنسبة للعامل فهو أن يجوع (أو يعيش على المبالغ التعيسة التي يقدمها له الضمان الاجتماعي).
ولذلك فالعمال يطالبون ليس بالقيمة الكاملة لما ينتجون، ولكن ما يكفي لتوفير ظروف معيشية محتملة. فالعامل يأخذ أجرا يكفيه فقط لكي يستطيع بذل كل مجهوده وكل قدرته على العمل يوميا (وهو ما أطلق عليه ماركس قوة عمله) لحساب الرأسمالي.
ومن وجهة نظر الرأسمالي، إذا تم دفع أجر للعمال يكفيهم لمواصلة العمل وتنشئة أطفالهم كجيل جديد من العمال، فهم بذلك يحصلون على مبلغ منصف لقوة عملهم.
ولكن قيمة الثروة التي يحتاجونها للحفاظ على مواصلة العمال للعمل أقل كثيرا جدا من قيمة الثروة التي ينتجونها من خلال عملهم - أي قيمة قوة عملهم أقل كثيرا جدا من القيمة التي حققوها من خلال عملهم.
والفرق يذهب إلى جيوب الرأسمالي. أطلق ماركس على ذلك "فائض القيمة".
التوسع الذاتي للرأسمال
إذا قرأت كتابات المتعاطفين مع النظام القائم، فسوف تلاحظ أنهم يشتركون في اعتقاد من نوع غريب.
فالمال بالنسبة لهم له خاصية سحرية، ويمكن أن ينمو مثل النبات أو الحيوان.
فعندما يضع الرأسمالي أمواله في البنك، فهو يتوقع أن قيمتها ستزيد.
وعندما يستثمرها في شراء أسهم شركة ما مثل يونيليفر مثلا، فهو يتوقع أنه سيُكافأ بمبالغ طازجة من الأموال كل عام على هيئة فوائد.
لاحظ كارل ماركس هذه الظاهرة والتي أطلق عليها "التوسع الذاتي للرأسمال" وشرع في تفسيرها.
فكما شهدنا سابقا، لم يبدأ ماركس من نقطة النقود بل من العمل ووسائل الإنتاج.
في مجتمعنا الحالي، أولئك الذين يملكون ثروة كافية يمكنهم شراء وسائل الإنتاج، ثم يفرضون على الأشخاص الآخرين أن يبيعوا لهم العمل الذي يحتاجونه لتوظيف وسائل الإنتاج.
إن سر "التوسع الذاتي للرأسمال"، أو القدرة الإعجازية للنقود على النمو لأولئك الذين يملكون الكثير منها يكمن في بيع وشراء هذا العمل.
دعنا نأخذ مثالاً بعامل، وسوف نطلق عليه جاك.
يجد جاك وظيفة عند أحد الرأسماليين وليكن مثلا السيد براوننج براون.
إن العمل الذي يستطيع جاك أن ينتجه في ثماني ساعات من العمل سوف يحقق قيمة أكبر من الثروة - ربما تبلغ 48 جنيه إسترليني.
ولكن جاك سيكون مستعدا للعمل في مقابل قيمة أقل من ذلك لأن البديل هو الاعتماد على الضمان الاجتماعي.
فجهود أعضاء البرلمان من المناصرين للرأسمالية سوف تحاول بأي طريقة أن يحصل جاك على 12 جنيه إسترليني فقط في اليوم الواحد من الضمان الاجتماعي لكي تضمن أنه سوف يعيش بالكاد على هذا المبلغ هو وأسرته.
وهم يفسرون ذلك بأنهم إذا أعطوه مبلغا أكبر فسوف "يحطم حافزه للعمل".
وإذا أراد جاك أن يحصل على أكثر من 12 جنيه إسترليني في اليوم فعليه أن يبيع قوة عمله حتى إذا كان سيحصل على أقل من 48 جنيه إسترليني كقيمة للثروة التي ينتجها في 8 ساعات عمل.
وربما يكون جاك مستعدا لأن يعمل في مقابل متوسط الأجر الذي يبلغ 28 جنيه إسترليني في اليوم.
أما الـ20 جنيه إسترليني الفارق بين المبلغين فسيذهب إلى جيب السيد براوننج، حيث يعتبر هذا فائض القيمة الذي تحقق للسيد براوننج.
فلأن لديه ما يكفي من الثروة لشراء السيطرة على وسائل الإنتاج في المقام الأول، فإن السيد براوننج براون يمكنه ضمان أن يصبح أكثر ثراء من خلال الـ20 جنيه إسترليني التي يستخلصها يوميا من كل عامل لديه. وهكذا، فإن أمواله تنمو ورأسماله يتوسع، ليس بسبب قانون ما في الطبيعة، ولكن لأن سيطرته على وسائل الإنتاج تسمح له بأن يحصل على عمل شخص آخر بثمن أرخص.
وبالطبع، فإن السيد براوننج ربما لا يحصل بالضرورة على مبلغ الـ20 جنيه بكامله لنفسه، حيث أنه يمكن أن يكون مؤجّراً للمصنع أو الأرض، أو ربما يكون قد اقترض بعض من رأسماله في البداية من أعضاء آخرين في الطبقة الحاكمة. وبذلك فهم يطالبونه بأن يقتطع من فائض القيمة ليسدد لهم ما اقترضه.
وهكذا، فربما أنه يسدد لهم 10 جنيه كقيمة للإيجار أو الفائدة أو الأسهم المالية، تاركا لنفسه الـ 10 جنيه فقط الأخرى كربح.
إن أولئك الذين يعيشون على عوائد الأسهم والسندات غالبا لم يروا جاك أبدا في حياتهم. وعلى رغم ذلك، لم تكن أبدا القوة الروحية للجنيه هي التي وفرت لهم الدخل، بل القوة البدنية لجاك هي التي فعلت ذلك.
فعوائد الأسهم والفوائد والأرباح قد أتت كلها من فائض القيمة.
فما الذي يحدد على كم يجب أن يحصل جاك كمقابل لعمله؟
إن صاحب العمل سوف يحاول أن يدفع أقل ما يمكن، ولكن في الواقع هناك حدود لا يستطيع أن يتعداها.
أحد هذه الحدود هي القدرة البدنية - فهو لن يستفيد شيئا إذا أعطى العمال أجورا سيئة جدا تجعلهم لا يستطيعون العيش أصحاء ويعانون من سوء التغذية وانعدام القدرة على العمل.
فالعمال يجب أيضا أن تكون لديهم المقدرة البدنية للذهاب والعودة من وإلى العمل يوميا، وأن يكون لديهم مكانا يستريحون فيه في الليل حتى لا ينامون في الصباح على آلاتهم في المصنع.
وانطلاقا من وجهة النظر هذه، فربما يكون من الأفضل دفع أجور تتيح للعمال "بعض من الترفيه" - مثل شرب بعض البيرة في المساء، أو مشاهدة التليفزيون، أو الإجازات الموسمية.
إن هذه الأشياء تجعل العامل أكثر نشاطا وأكثر قدرة على العمل؛ فهي تعمل على تزويده بالوقود لرفع قوة عمله.
وإنها لحقيقة هامة معرفة أنه إذا "انخفضت الأجور كثيرا" فهذا يؤدي إلى انخفاض إنتاجية العمل.
كما أن الرأسمالي لديه أمرا آخر يقلقه.
فشركته سوف تظل في السوق لسنوات طويلة، أي أطول من العمر الافتراضي للطابور الحالي من العمال.
وستصبح الشركة في حاجة إلى عمل أطفالهم، ولذلك فعلى أصحاب العمل أن يدفعوا أجورا للعمال تكفيهم لتنشئة أطفالهم.
ويجب عليهم أيضا أن يتأكدوا من أن الدولة توفر لهؤلاء الأطفال مهارات معينة (مثل القراءة والكتابة) من خلال النظام التعليمي.
ومن واقع الممارسة، هناك شيء آخر هام أيضا: وهو ما يعتقد العامل نفسه أنه "أجر معقول".
فالعامل الذي يحصل على أقل بكثير مما يعتقد أنه أجرا معقولا ربما يهمل عمله ولا يهتم بضياعه حيث أنه أصبح بالنسبة له "غير مُجدي".
إن كل هذه العوامل التي تحدد أجر العامل يوجد بينها شيء مشترك، فهي كلها تتجه نحو التأكد من أن العامل لديه الطاقة الكافية، أو قوة العمل، التي يشتريها الرأسمالي بالساعة.
والعمال يحصلون على الأجور التي تمكنهم وأسرهم من البقاء على قيد الحياة وتكون لديهم القدرة على العمل.
ففي المجتمع الرأسمالي الحالي، هناك نقطة يجب التركيز عليها.
إن هناك مبالغ ضخمة من الثروة تنفق على أشياء مثل قوات البوليس والأسلحة، حيث تستخدم هذه الأشياء لصالح الطبقة الرأسمالية من قبل الدولة. وفي الحقيقة فهي تنتمي للطبقة الرأسمالية على الرغم من أنها تعمل بواسطة الدولة.
والقيمة التي يتم إنفاقها على تلك الأشياء تنتمي للرأسماليين وليس للعمال. ولذلك، فهي تعتبر أيضا جزء من فائض القيمة.
فائض القيمة = الربح + الإيجار + الفوائد + الإنفاق على البوليس والجيش وغيرهما.
الفصل الخامس :
نظرية العمل للقيمة
"ولكن الماكينات ورأس المال تنتج السلع مثلها في ذلك مثل العمل. ولذلك، فمن العدل إذن أن يأخذ كل من رأس المال والعمل نصيبه من الثروة المُنتَجة.
إن كل (عنصر إنتاجي) يجب أن يأخذ مكافأته."
هكذا يرد بعض الأشخاص الذين تعلموا القليل عن الاقتصاد الرأسمالي على التحليل الماركسي للاستغلال وفائض القيمة.
وللوهلة الأولى، تبدو هذه المعارضة منطقية إلى حدّ ما.
فبالتأكيد، أنت لا تستطيع إنتاج البضائع بدون رأسمال؟
والماركسيون لم يدّعوا أبدا أن ذلك ممكنا. ولكن نقطة البداية عندنا مختلفة، فنحن نبدأ بالسؤال:
من أين يأتي رأس المال؟
وكيف ظهرت للوجود وسائل الإنتاج أصلا؟
ليس من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة.
فكل شيء استخدمه البشر تاريخيا لإنتاج الثروة - سواء فؤوس العصر الحجري أو الكمبيوتر الحديث - قد أنتجه عمل الإنسان.
فحتى تلك الأدوات التي استخدمت في تشكيل الفؤوس كانت هي نفسها نتاج عمل سابق.
إن هذا هو الذي جعل كارل ماركس يطلق على وسائل الإنتاج بـ "العمل الميت".
فعندما يتفاخر رجال الأعمال برأس المال الذي يملكونه، فإنهم في الحقيقة يتفاخرون بأنهم يمتلكون السيطرة على حجم هائل من عمل الأجيال السابقة - وهذا لا يعني عمل أجدادهم - وهم الذين عملوا بنفس المقدار الذي يعمل به أبناءهم الآن.
إن الفكرة القائلة بأن العمل هو مصدر الثروة - وهو ما يطلق عليه عادة بـ "نظرية العمل للقيمة" - لم تكن في الأساس من اكتشاف ماركس.
فكل كبار الاقتصاديين البرجوازيين حتى وقته قبلوا بهذه النظرية.
فنجد رجال مثل الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث والإنجليزي ديفيد ريكاردو كانوا يكتبون عندما كان نظام الصناعة الرأسمالية ما زال حديثا - في السنوات القليلة التي سبقت وتبعت الثروة الفرنسية.
لم يكن الرأسماليون هم الطبقة المسيطرة بعد وكانوا يحتاجون التعرف على المصدر الحقيقي للثروة إذا كان لهم أن يتحكموا فيه. خدم كل من سميث وريكاردو مصالحهما بإقناعهم أن العمل هو الذي ينتج الثروة، وبالتالي فإذا أرادوا بناء ثرواتهم يجب عليهم أن "يحرروا" العمل من سيطرة الحكام القدامى الذين سبقوهم في عصر ما قبل الرأسمالية.
ولكن بعد وقت ليس بطويل، بدأ المفكرون المقربون من الطبقة العاملة أن يوجهوا تلك النظرية ضد أصدقاء سميث وريكاردو، بقولهم: إذا كان العمل ينتج الثروة، فالعمل ينتج رأس المال. وهكذا، تصبح "حقوق رأس المال" ما هي إلا حقوق اغتصاب العمال.
وبعد وقت قصير، أعلن الاقتصاديون الذين يدعمون رأس المال أن نظرية العمل للقيمة ما هي إلا كلام فارغ. ولكن إذا قمت بطرد الحقيقة من الباب الأمامي فمن عادتها أن تدخل من الباب الخلفي.
قم بفتح الراديو.
استمع إليه فترة كافية وسوف تسمع بعض النقاد أو غيرهم يدعون أن مشكلة الاقتصاد البريطاني تتمثل في أن "الأفراد لا يعملون بجدية بما فيه الكفاية"، أو بطريقة أخرى لقول نفس الشيء، "إن الإنتاجية منخفضة جدا." إنس لدقيقة إذا كانت هذه الأطروحة صحيحة أم لا، وبدلا من ذلك، فكر بعمق في مضمونها. فهم لا يقولون أبدا أن "الآلات لا تعمل بكفاءة عالية". لا، فاللوم دائما يُلقى على البشر - العمال.
إنهم يدعون أنه إذا عمل العمال بكفاءة أكثر، فسوف تزداد الثروة وسوف يسمح ذلك باستثمارات أكبر في آلات جديدة. إن الأفراد الذين يستخدمون هذه الأطروحة ربما لا يعرفون ذلك، ولكنهم يقولون أن العمل الكثير سوف ينتج رأس مال أكثر. فالعمل هو مصدر الثروة.
فمثلا، إذا كان لديّ خمسة جنيهات في جيبي، فما هي فائدتها بالنسبة لي؟ ففي النهاية ما هي إلا ورقة مطبوعة.
ولكن قيمتها بالنسبة لي تكمن في أنني أستطيع - من خلال مبادلتها - أن أحصل على شيء مفيد قام بصناعته شخص آخر بواسطة عمله. فالخمسة جنيهات هذه في الحقيقة ما هي إلا وسيلة للحصول على السلع التي بُذل فيها الكثير من العمل.
وإذا كان لدي عشرة جنيهات فهذا يعني إمكانية الحصول على ضعف العمل المبذول، وهلمّ جرا.
فعندما نقيس الثروة فنحن في الحقيقة نقيس العمل الذي بُذل لإنتاجها.
وبالطبع، ليس كل الأشخاص ينتجون بنفس المقدار وفي نفس الوقت.
فإذا شرعت مثلا في صناعة طاولة، فربما أقضي خمسة أو ستة أضعاف الوقت اللازم للنجار الماهر لينتج نفس الشيء.
ولكن لن يفكر أحد أبدا أن ما صنعته يساوي خمسة أو ستة أضعاف قيمة الطاولة التي صنعها النجار الماهر . فقيمة الطاولة سوف تقدّر طبقا لكمّ العمل الذي يحتاجه النجار لإنتاجها، وليس عملي أنا.
قل مثلا أن الطاولة سوف تأخذ ساعة من النجار لصناعتها، ففي هذه الحالة سيقال أن قيمة الطاولة بالنسبة لهم تساوي ساعة من العمل. ويصبح هذا هو الوقت الضروري لصناعتها بافتراض نفس المستوى المعتاد في الصناعة والتكنولوجيا والمهارات المستخدمة في المجتمع الحالي.
ولهذا السبب، فلقد أصر ماركس على أن مقياس قيمة شيء ما ليس هو مجرد الوقت الذي يأخذه الفرد لصناعتها، ولكن الوقت اللازم الذي سيأخذه الفرد الذي يعمل في مستوى متوسط من التكنولوجيا والمهارة - وهو الذي أطلق عليه ماركس "وقت العمل الضروري اجتماعيا." وتعتبر هذه النقطة هامة لأن التطور التكنولوجي للرأسمالية يتقدم بشكل مستمر وهذا يعني أن إنتاج السلع سوف يحتاج عمل أقل فأقل.
فعلى سبيل المثال، عندما صُنع الراديو صنع من صمامات ثرمونية مما جعل سعره غاليا جدا لأنه أخذ عملا شاقا في صناعة الصمامات وربطها بالأسلاك الكهربية …
إلخ.
ثم تم اكتشاف الترانزستور والذي تم صناعته وربطه بجهد عمل أقل بكثير. وفجأة، وجد كل العمال في المصانع التي مازالت تنتج الراديو ذو الصمامات أن قيمة الذي يصنعونه انخفضت.
فقيمة الراديو لم تعد تحسب بوقت العمل اللازم لصناعتها بواسطة الصمامات، ولكن بدلا من ذلك فهي تحسب بالوقت المستخدم في صناعة الترانزستور.
وهناك نقطة أخيرة حول هذا الموضوع. إن أسعار بعض السلع تتذبذب بشكل كبير - من يوم لآخر أو من أسبوع لآخر.
ويمكن أن تحدث هذه التغيرات نتيجة العديد من الأشياء إلى جانب التغيرات في كمّ العمل المبذول في صناعتها.
عندما قتل الصقيع في البرازيل كل نبات القهوة، ارتفع سعر القهوة كثيرا بسبب حدوث نقص في العالم كله، كما أن الناس كانت مستعدة لأن تدفع أكثر.
وغدا، إذا حدثت كارثة طبيعية دمرت كل التليفزيونات في بريطانيا مثلا، فبالتأكيد سوف ترتفع أسعار التليفزيونات بنفس الطريقة.
فما يطلق عليه الاقتصاديون بـ "العرض والطلب" يؤدي باستمرار إلى تلك التقلبات في الأسعار.
ولهذا السبب، فالعديد من الاقتصاديين المؤيدين للرأسمالية يقولون أن نظرية العمل للقيمة ليس لها معنى، ويضيفون أن ما يعنيهم فقط هو العرض والطلب.
ولكن هذا يعتبر كلاما فارغا.
فهذه الأطروحة تتناسى أنه عندما تتقلب الأشياء فهي عادة تتقلب بمقدار مستوى معين.
إن البحر يعلو ويهبط بسبب المدّ والجذر، ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع القول بأن هناك نقطة ثابتة بالنسبة لحركته وهي ما نطلق عليها "مستوى البحر."
وبنفس الطريقة، فحقيقة أن الأسعار تعلو وتهبط من يوم إلى آخر لا يعني أنه ليس هناك قيمة ثابتة يتم حولها هذا التقلب.
فعلى سبيل المثال، إذا دُمرّت كل التليفزيونات فإن أول الإنتاج الجديد سيكون عليه طلب كثير وسيكون سعره عاليا. ولكن بعد وقت قصير ستنتج تليفزيونات أكثر فأكثر في السوق وستتنافس مع بعضها حتى تجعل الأسعار تنخفض لتتقارب مع قيمتها في وقت العمل المبذول لصناعتها.
الفصل السادس :
المنافسة والتراكم
كان هناك وقت بدت فيه الرأسمالية كنظام ديناميكي وتقدمي.
وعلى مدار معظم تاريخ الإنسان، كان يسيطر على حياة غالبية الرجال والنساء الكدح والاستغلال.
ولم تغير الرأسمالية الصناعية هذا الوضع عندما ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ولكن بدا أن الرأسمالية قد وجهت هذا الكدح والاستغلال لهدف مفيد لها.
فبدلا من إهدار كميات ضخمة من الثروة على رفاهية بعض الأرستقراطيين الطفيليين أو في بناء مقابر فخمة للملوك الميتين أو في حروب بلا جدوى يريد من خلالها ابن أحد الملوك أن يحكم مكان ما، قامت الرأسمالية باستخدام الثروة من أجل إنتاج ثروة أكبر.
فلقد شهدت فترة نمو الرأسمالية نموا في الصناعة والمدن ووسائل المواصلات على مستوى ليس له مثيل من قبل في تاريخ الإنسانية.
ومن الغريب كما يبدو اليوم أن تكون أماكن مثل أولدهام وهاليفاكس وبينجلي (مدن في إنجلترا - المترجم) مقرا للمعجزات. فلم تشهد الإنسانية من قبل ذلك الكمّ من القطن والصوف الخام تتحول بسرعة شديدة إلى أقمشة من أجل توفير الملبس للملايين. ولم يحدث هذا بسبب فضائل خاصة عند الرأسماليين.
فهم غالبا ما كانوا قوماً متعجرفين تتملكهم فقط الرغبة في الحصول على ثروة أكبر في أيديهم، وذلك بدفع أقل الأجور الممكنة للعمل الذي يستخدمونه.
لقد كان هناك العديد من طبقات الحكام من قبلهم مثلهم تماما في ذلك، ولكن بدون هدف بناء الصناعة. اختلف الرأسماليون عنهم في نقطتين أساسيتين.
النقطة الأولى قد عرضناها من قبل، وهي تتلخص في أنهم لم يملكوا العمال.
ولكن بدلا من ذلك، فهم يدفعون لهم أجرا على أساس قدرتهم على العمل في الساعة، أي قوة عملهم. كما أنهم استخدموا العبيد المأجورين، وليس العبيد. أما النقطة الثانية فهي أنهم لم يستهلكوا بأنفسهم السلع التي أنتجها عمالهم.
فبالنسبة للإقطاعيين، فلقد عاشوا مباشرة على اللحم والخبز والجبن والخمور التي أنتجها عبيدهم.
أما الرأسماليين، فهم يعيشون من خلال بيع السلع التي أنتجها العمال لأناس آخرين.
ولقد أعطى هذا الأفراد الرأسماليين حرية أقل عن مالك العبد أو الإقطاعي في التعامل بالطريقة التي يفضلها. فمن أجل بيع السلع، كان على الرأسماليين أن ينتجوها بأسعار رخيصة بقدر الإمكان.
فلقد امتلك الرأسمالي المصنع وكان قويا للغاية داخله.
ولكنه لم يستطع استخدام قوته كما أراد، وكان عليه أن يحني رأسه أمام متطلبات المنافسة مع المصانع الأخرى.
ولنرجع مرة أخرى إلى صديقنا الرأسمالي السيد براوننج براون. حاول أن تفترض أن الكمية المنتجة من الأقمشة القطنية في مصنعه تأخذ 10 ساعات من وقت العمال لإنتاجها، بينما هناك مصنع آخر يستطيع إنتاج نفس الكمية في 5 ساعات فقط من وقت العمال.
إن السيد براوننج لن يستطيع أن يبيع بضاعته بسعر يساوي العشر ساعات عمل.
فلن يفكر أحد أبدا أن يشتري بسعر أعلى بينما هناك ملابس أرخص في محل قريب.
إن أي رأسمالي يود أن يستمر في البيزنس يجب ان يضمن أن عماله يعملون بأقصى سرعة ممكنة. ولكن ليست هذه هي نهاية القصة. إنه يجب أن يضمن أيضا أن عماله يعملون طبقا لأحدث تقنية متوفرة بحيث ينتج عملهم في الساعة أكبر كمية من السلع كما ينتج عمال الرأسماليين الآخرين.
فالرأسمالي الذي يريد أن يستمر في البيزنس يجب ان يضمن أنه يمتلك أكبر كمية من وسائل الإنتاج، أو - كما أشار ماركس - أن يراكم رأس المال!
إن المنافسة بين الرأسماليين أنتجت قوة نظام السوق، وهي القوة التي سيطرت تماما على الجميع.
فهي التي أجبرتهم على الإسراع في عملية الإنتاج طوال الوقت وعلى أن يستثمروا كل ما يستطيعونه في شراء الآلات الجديدة.
وهم يستطيعون أن يشتروا الآلات الجديدة ( وبالطبع وسائل رفاهيتهم من جانب آخر) فقط إذا جعلوا أجور العمال منخفضة قدر استطاعتهم.
لقد كتب ماركس في أكبر أعماله رأس المال، أن الرأسماليين يشبهون البخيل الذي يسيطر عليه هدف الحصول على المزيد والمزيد من الثروة. ولكن:
"ما نراه في البخيل كخاصية في شخصيته، نجده عند الرأسمالي نتاج لآلية اجتماعية حيث يمثل هو فيها ترساً واحداً …
فتطور الإنتاج الرأسمالي يجعل من الضروري باستمرار الزيادة من حجم رأس المال المستثمر في صناعة معينة، والمنافسة تجعل كل فرد رأسمالي يشعر بالقوانين الهامة للإنتاج الرأسمالي كنوع من القوانين القهرية التي تُفرض عليه من الخارج. وهي تضطره لأن يوسّع من رأسماله باستمرار من أجل الحفاظ عليه.
وهو لا يستطيع زيادة رأس المال إلا بوسائل التراكم المستمرة."
"التراكم، التراكم! فهذا هو موسى وأنبيائه."
إن الإنتاج لا يتم من أجل تلبية الاحتياجات الإنسانية - حتى الاحتياجات الإنسانية لدى الطبقة الرأسمالية - ولكن لكي يجعل الرأسمالي يعيش في تنافس مع رأسمالي آخر.
والعمال الذين يعملون لدى كل فرد رأسمالي يجدون أن حياتهم تسيطر عليها نزعة أصحاب العمل نحو تحقيق التراكم بسرعة لكي يسبقوا منافسيهم.
وكما كتب ماركس في البيان الشيوعي:
"في المجتمع البرجوازي، يعتبر العمل الحي وسيلة لتراكم العمل الميت …
فالرأسمال يمتاز بالاستقلالية والفردية، بينما الإنسان الحي يعتمد على الآخرين ولا يتمتع بالفردية."
إن الدافع المُلزم للرأسماليين للتراكم والمنافسة بين بعضهم البعض يفسر السرعة الشديدة للأمام نحو التصنيع وذلك في السنوات الأولى للنظام.
ولكن كانت النتيجة شيئا آخر - أزمة اقتصادية متكررة. والأزمة ليست بالشيء الجديد، فهي قديمة قدم النظام نفسه.
6 كارثة اقتصادية
"تراكم الثروة من ناحية، والفقر من ناحية أخرى".
هكذا لخص ماركس اتجاه الرأسمالية. كل رأسمالي يخشى المنافسة من الآخرين، لذلك يشغل موظفيه بأقصى طاقة ممكنة، ويدفع أقل أجور يمكن أن يفلت بها.
النتيجة هي عدم تناسب بين النمو الكبير لوسائل الإنتاج من ناحية، والنمو المحدود في الأجور وعدد العمال الموظفين ( المستخدمين)على الناحية الأخرى. هذا، كما أصر ماركس كان السبب الرئيسي لكارثة اقتصادية.
أسهل طريقة للنظر لهذا هو أن نسأل :
من يشتري كمية البضائع المتزايدة بكثرة؟
الأجور المنخفضة للعمال تعني أنهم لا يستطيعون تحمل شراء البضائع التي أنتجها عملهم هم. والرأسماليون لا يستطيعون زيادة الأجور، لأن هذا سيدمر الربح، القوة الدافعة للنظام.
لكن إذا كانت الشركات لا تستطيع بيع البضائع التي تنتجها، يكون عليهم إغلاق المصانع وطرد العمال.
بهذا ينخفض الإجمالي الكلي للأجور أكثر، وبالتالي لا تستطيع المزيد من الشركات بيع بضائعها. تبدأ " كارثة إفراط في الإنتاج"، حيث تكدس البضائع في السوق، ولا يستطيع الناس تحمل شراؤها.
كان هذا ملمح متواتر للمجتمع الرأسمالي خلال ال 180 عاما الماضية.
لكن أي فهم سريع وفطن للنظام سيشير بسرعة إلى أنه يجب أن يكون هناك طريق سهل للخروج من الكارثة.
كل ما نحتاجه هو أن يستثمر الرأسماليون أرباحهم في مصانع وآلات جديدة.
هذا سيوفر وظائف للعمال، الذين بدورهم سيكونون وقتها قادرين على شراء البضائع غير المباعة. هذا يعني أنه طالما يوجد استثمار جديد يمكن بيع كل البضائع المنتجة ويمكن للنظام أن يوفر توظيف كامل.
لم يكن ماركس غبيا وأدرك هذا.
بالفعل كما رأينا، لقد أدرط أن ضغط المنافسة على الرأسماليين ليستثمروا، كان جوهريا للنظام.
لكنه تسائل، هل هذا يعني أن الرأسماليين سيستثمرون كل أرباحهم، كل الوقت؟
الرأسمالي سيستثمر البضائع فقط إذا أعتقد أنه يضمن تحقيق ربح معقول.
إذا لم يكن يعتقد أنه يمكن تحقيق مثل هذا الربح، فلن يخاطر بأمواله في استثمار. سيضعها في البنك ويتركها هناك.
إذا كان الرأسمالي سيستثمر أم لا يعتمد على كيفية تقديره للوضع الاقتصادي عندما يبدو ملائما، وقتها يسرع كل الرأسماليين للاستثمار في نفس الوقت.
يتصارعون معا بحثا عن مواقع للإنشاءات، يشترون الآلات، يطوفون الأرض بحثا عن مواد خام، يدفعون أكثر من أجل العمالة الماهرة. عادة ما يسمى هذا الوضع بالرواج.
لكن المنافسة المجنونة على الأرض، المواد الخام والعمالة الماهرة ترفع أسعار هذه الأشياء.
وفجأة يتم الوصول إلى نقطة تكتشف عندها بعض الشركات أن تكاليفها قد ارتفعت كثيرا مما جعل كل أرباحهم تختفي.
وهكذا يهوي الرواج الاستثماري في الحال إلى كساد استثماري. لا أحد يريد آلات جديدة فتدخل صناعة المعدات والآلات في أزمة.
لا أحد يريد كل الحديد والصلب الذي يتم إنتاجه ـ فجأة تصبح صناعة الصلب تعمل بأقل من قدرتها وتصبح غير مربحة، ينتشر الإغلاق والإقفال من صناعة لصناعة، مما يدمر الوظائف ـ ومعها قدرة العمال على شراء منتجات صناعاتهم.
تاريخ الرأسمالية هو تاريخ مثل هذه الترنحات الدورية التي تؤدي إلى جنون جوع العمال العاطلين خارج المصانع الفارغة، بينما يتعفن مخزون البضائع غير المرغوب فيها.
تخلق الرأسمالية أزمات الإفراط في الإنتاج هذه دوريا، لأنه لا يوجد تخطيط، لذلك لا توجد طريقة لوقف فرار رأس المال من وإلى الاستثمار كله مرة واحدة.
اعتاد الناس الاعتقاد أن الدولة لا تستطيع وقف هذا عن طريق التدخل في الاقتصاد، زيادة استثمار الدولة عندما كان الاستثمار الخاص منخفضا، وبالتالي خفضه عندما يلحق به الاستثمار الخاص. الدولة ستستمر في الإنتاج على ….
متساوية، لكن الأيام الحالية استثمار الدولة أيضا هو جزء من الجنون.
انظر إلى الصلب البريطاني.
منذ سنوات مضت، عندما كانت الشركة مازالت قطاع عام، قيل لعمال الصلب أن وظائفهم تتقلص لإفساح الطريق للقمائن الأوتوماتيكية الحديثة المصممة لإنتاج المزيد من الصلب بأسعار أكثر رخصا.
الآن يقال لهم إنه مازال هناك المزيد من العمال الذين يجب أن يفقدوا وظائفهم ـ لأن بريطانيا لم تكن الدولة الوحيدة التي أقدمت عتلى هذه الخطط الاستثمنارية الضخمة.
فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة، البرازيل، أوربا الشرقية وحتى كوريا الجنوبية، كلهم فعلوا نفس الشيء. الآن يوجد فائض عالمي من الصلب ـ أزمة زيادة في الإنتاج.يتم تخفيض الاستثمار الحكومي وبالطبع عمال الصلب يعانون في كلا الحالتين.
هذا هو الثمن الذي ما زالت الإنسانية تدفعه لنظام اقتصادي يتم فيه التحكم في إنتاج الثروة الضخمة عن طريق مجموعة صغيرة محظوظة مهتمة فقط بالربح.
لا يهم إذا كانت هذه المجموعات الصغيرة المحظوظة هذه تمتلك الصناعة مباشرة، أو تتحكم فيها بشكل غير مباشر من خلال تحكمها في الحكومة ( كما في حالة الصلب البريطاني).
بينما تستخدم هذا التحكم للمنافسة مع بعضهم البعض على أكبر نصيب من الأرباح، سواء محليا أو عالميا، فإن العمال هم الذين يعانون على الناحية الأخرى.
الجنون الأخير للنظام هو أن أزمة الإفراط في الإنتاج، ليست إفراطا في الإنتاج على الإطلاق. كل هذا الصلب الفائض، على سبيل المثال، يمكن أن يساعد على حل مشكلة الجوع في العالم.
الفلاحون حول العالم يضطرون لحرث الأرض باستخدام أسلحة خشبية للمحاريث ـ الأسلحة الصلب يمكن أن تزيد إنتاج الطعام. لكن الفلاحين لا يملكون نقودا على أية حال، لذلك النظام الرأسمالي ليس مهتما ـ لا يوجد ربح يمكن تحقيقه.