وائدهما في الدين
نخصص الكلام فيها عن صلة وقطيعة الأرحام وما معناهما وما فوائدهما في الدين.
فالدين الإسلامي فرض علينا في ديننا حقوقاً كثيرة حقوقاً بيننا وبين أنفسنا، وحقوقاً بيننا وبين ربنا، وحقوقاً بيننا وبين غيرنا, فالحقوق التي بين الإنسان وبين غيره تشمل أنواع كثيرة، فمنها: حقوق الجيران وحقوق الوالدين وحقوق الأرحام,
فالأرحام مأمورون بصلتهم وممنوعين من قطيعتهم,
ومعنى كلمة الأرحام جمع رحم وهي تطلق على الرحم العامة وعلى الرحم الخاصة.
فالأول: الرحم العامة: هي رحم الإسلام والمسلمين والمسلمات أينما كانوا وحيثما كانوا فمهما تباعدت ديارهم ومهما اختلفت لغاتهم فكلهم أرحام ينبغي أن يصل بعضهم بعضا.
والثاني: الرحم الخاصة: وهي رحم القرابة فيشمل الأخوان والأخوات والأعمام والعمات وغيرهم من الأقارب من الرجال ومن النساء كباراً وصغاراً أينما كانوا وحيثما كانوا فهؤلاء يعتبرون من الرحم الخاصة, وكلٌ من الرحم الخاصة والرحم العامة ينبغي للإنسان أن يصلهم وليحذر من قطيعتهم وقد حث القرآن الكريم على صلة الأرحام في آيات كثيرة، فمنها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ...)[الرعد:21] وقال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى....)[النساء: 36] وغير ذلك الآيات الكثيرة التي أمرنا فيها بصلة الرحم,
فصلة الرحم لها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: وهي أعلاه أن تنفق على رحمك المحتاج كما تنفق على أولادك نفقة كاملة. وعلى هذا القدم كان الكثير من الصحابة والتابعين فكانوا ينفقون على أقاربهم وعلى أناس كثير من المسلمين والمسلمات من الأسر الفقيرة الذين لا يربطهم شيء إلا رابطة الإسلام, ومنهم سيدنا علي زين العابدين -رحمه الله- ابن الحسين بن علي بن أبي طالب فقد بلغ من صلته لأرحامه أنه كان ينفق على غالب أهل المدينة -أي على غالب الساكنين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم-, وكذلك كان كثيراً من السلف الصالح ممن ينفقون على أسر فقيرة، وعلى أناس ليس بينهم قرابة إلا رحم الإسلام فإذا كانوا ينفقون على أجانب ولا تربطهم قرابة في النسب ولا في الرضاع ولا في المصاهرة فسيكونون حريصين على أن ينفقوا على أقاربهم المحتاجين نسباً أو مصاهرةً أو رضاعةً من باب أولى, وكذلك كان الكثير في حضرموت من آل باعلوي وغيرهم كانوا كثيراً ما ينفقون على أقاربهم وعلى جيرانهم المحتاجين ، فمنهم: سيدنا الإمام عبد الله بن علوي بن سيدنا الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي التريمي الحضرمي كان ينفق على غالب الفقراء من أقاربه وأرحامه وعلى أكثر المقيمين بمدينة تريم ولاسيما جيرانه حتى صار الجيران يخجلون من كثرة عطائه وكثرة مساعدته فصاروا يشعلون النار في سطوح بيوتهم يوهمونه أنهم يعملون الخبز ويولعون النيران في تنانيرهم حتى يوهموه أنهم مستغنين عن مساعدته فلما شك تعرض بذلك الأطفال فكان يسألهم ماذا غدائكم وعشائكم اليوم فيقولون ليس لنا شيء اليوم, فيعرف الحقيقة ويعود حينئذ إلى مساعدتهم وإعطائهم , وهكذا ينبغي للغني القادر أن يتغانم حياته وأن ينفق أكثر ماله في سبيل الله تبارك وتعالى .
الدرجة الثانية: من صلة الأرحام وهي إنك إذا لم تقدر أن تنفق عليهم نفقة كاملة فإنه ينبغي لك أن تحسن إليهم في المناسبات في الأفراح والأحزان فإذا كان عندهم زواج فتساعدهم في زواجهم وإن كان عندهم أي مناسبة فرح تشاركهم وتساعدهم, وتشاركهم أيضاً في أحزانهم إذا نزل بهم الموت أو نزلت بهم نازلة أو أصيبوا بمصيبة فينبغي أن تشاركهم في أحزانهم وتساعدهم بالمال حسب القدرة والاستطاعة وتساعدهم أيضاً في العطاء من المال حسب القدرة الاستطاعة ولاسيما في رمضان وفي الأعياد وفي غير ذلك من المناسبات .
الدرجة الثالثة: إذا لم تكن تقدر على العطاء كأنك كان الرجل فقير مثلهم فيجب أن تصلهم ولكنك لا تقدر فهنا صلتك لهم بالكلمة الطيبة وزيارتهم إلى بيوتهم في المناسبات وعيادة مريضهم وقضاء حوائجهم ولاسيما الضعفاء من الرجال ومن النساء فخدمتك لهم حسب استطاعتك يعتبر من صلة الأرحام .
وقد حث القرآن الكريم وحث النبي صلى الله عليه وسلم على صلة الأرحام في أحاديث كثيرة فبشر الذي يصل رحمه بطول العمر وسعة الرزق والغنى السريع في الدنيا. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسئ له في أجله فليتق الله وليصل رحمه) أي من أراد أن يطول الله عمره وأن يوسع الله رزقه الحسي فليبر والديه وليصل رحمه، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن أسرع عمل يصل إلى الفاعل جزاء في الدنيا نقداً هو صلة الرحم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعجل البر ثواباً لصاحبه صلة الرحم وأن أهل بيت ليكونون كفره فجرة لتنموا أموالهم ويكثروا عددهم ما تواصلوا بينهم) فإذا كانت صلة الرحم يستفيد منها الكافر والعاصي فكيف بها إذا صدرت من شخص مؤمن صالح فإن استفادته منها أولى من باب أولى, والكلام على صلة الأرحام كثيرة وهذا أقل ما جئنا به في هذه الكلمة المباركة .. أسأل الله أن يجعل فيه الخير والبركة ونسأل الله أن يوفقنا لصلة الأرحام ويحفظنا من قطيعة الأرحام إن شاء الله
قطيعة الأرحام
القطيعة معناها أن تعود رحمك بشيء من البر والمعروف والإحسان قولاً أو فعلاً أو عطاءً ثم تقطعه عنه بغير عذر شرعي وبغير سبب شرعي هذا يسمى قطيعة للرحم، فمثلاً كنت تعمل لرحمك زيارة في أعياد أو مناسبات ثم تقطع تلك الزيارة، وإذا كنت معود رحمك أن تشاركه في أفراحهم أو أحزانهم ثم تقطع تلك العادة, أو كنت معود رحمك أن تساعدهم في شهر رمضان أو في أي مناسبة ثم قطعت تلك المساعدة بغير عذر شرعي مع قدرتك عليها هذا الذي يُسمى بقطيعة الأرحام ,
ومن القطيعة أيضاً الهجر أن يهجر الإنسان رحمه ولا يكلمه ولا يسلم عليه فيعتبر هذا من القطيعة، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا عن هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) فقطيعة الأرحام بهذا المعنى يتعرض صاحبها للعنة الله تبارك وتعالى فإن اللعنة تنزل عليه من السماء مستمرة باستمرار تنزل عليه اللعنة وعلى من جالسه وتمتنع عنه الرحمة الخاصة التي يخص الله بها من شاء من عبادة فلا ينال قاطع الرحم منها شيء لا هو ولا من يجالسه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم ) وقال في نزول اللعنة عليه قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)
ومعنى لعنة الله تبارك وتعالى أن يطرده من رحمته الخاصة وقد أخبر الحق تبارك وتعالى في حديثه القدسي قال: (إنني إذا رضيت على عبدي باركته وليست لبركتي نهاية وإذا غضبت على عبدي لعنته ومحقته ولعنتي تلحق السابع من الولد..) نسأل الله العافية والسلامة,
قاطع الرحم أعماله كلها مردودة لا يقبل منه عمل صالح مدى الحياة لهذا قال صلى الله عليه وسلم: (تُعرض الأعمال على الله تبارك وتعالى كل اثنين وخميس لا يقبل منها عمل قاطع رحم),
قاطع الرحم أيضاً لا يُستجاب له دعاء قاطع الرحم تستمر عليه اللعنة حتى وإن مات وسط الكعبة,
قاطع الرحم يُعجل الله العذاب في الدنيا مع ما يعده الله في الآخرة فيجمع الله لقاطع الرحم بين العذابين في الحياتين الحياة الدنيوية والحياة الأخروية فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (كل الذنوب يؤخرها الله منها ما شاء إلا البغي وقطيعة الرحم فيعجله الله لمن شاء مع ما يعد لهم من العذاب في الآخرة ) أعاذنا الله من ذلك ,
قاطع الرحم أيضاً تُنزع البركة من عمره ومن وقته ومن أعماله الدينية والدنيوية ولهذا ينبغي لك يا مسلم أن تبادر إلى إنهاء القطيعة إذا كان بينك وبين رحمك قطيعة أو مشكلة أدت إلى قطيعة فحاول أن تبادر إلى حلها سريعاً حتى لا تتعرض لغضب الله ولعقاب الله تبارك وتعالى وقد نص القرآن الكريم إن قاطع الرحم من الخاسرين، قال تعالى: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
ويعتبر أيضاً قطيعة الرحم من أسباب الشقاء والموت على خاتمة غير حسنة إذا مات و هو مصر على القطيعة, وينبغي لمن عرف إن أُناس متقاطعين أن يصلح بينهم وأن يتدخل بينهم حتى يؤلف بينهم قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ...)
وإذا كان لك هناك أرحام تحسن إليهم ويسئون إليك فلا ينبغي أن تقاطعهم بسبب معاملتهم ولكنك استمر على الإحسان إليهم وعلى معاملتهم المعاملة الحسنة فإن الله يفوقك عليهم في دينك وفي دنياك ولهذا ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد إنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل يا رسول الله إن لي أرحاماً أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيؤن إليَّ, فقال: إن كان الأمر كما قلت فكأنما تسف في وجوههم المل- الرماد الحار- ولا يزال معك من الله ظهيراً عليهم مادمت على ذلك) فبشره صلى الله عليه وسلم بأن الله يفوقه عليهم فيجعله أحسن منهم في الدنيا والآخرة وينصره عليهم ولهذا قال له: (ولا يزال معك من الله ظهيراً) معنى الظهير: الناصر والمعين ظهيراً عليهم، ثم قال: (مادمت على ذلك) أي مادمت تصلهم وتحسن إليهم.
وكما أنه يحرم التسبب في قطيعتهم وكثير من تسبب في القطيعة من النساء ومن الجيران وبعض الناس الذين هم يثيرون الفتنة ويتسببون في القطيعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) وقال تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ .يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.) ولهذا نأمل من كل شخص بينه وبين أرحامه مقاطعة أن ينهي تلك القطيعة وأن يبادر إلى التوبة النصوح وأن يصل أرحامه حتى لا تدوم عليه لعنة الله تبارك وتعالى ولا غضبه فيموت على خاتمة غير حسنة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لصلة الأرحام ويحفظنا من قطيعة الأرحام ويؤلف بين القلوب ويصلح القلوب وينزع منها البغضاء والشحناء وغيرها من الأمراض التي تؤدي إلى مثل هذه المعاصي وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين .