بسم الله الرحمن الرحيم
ألفاظ الجمال في القرآن الكريم
لعل من الطبيعي أن تعنى الأمة المسلمة بأدبـها، كما تُعنى بكل أنشطتها وانجازاتـها، وأن تسعى إلى توجيه ذلك الأدب لكي يكون إسلاميا. ولكن هذا لا يعني انه سيغدو خطابياً ومباشراً أو أنه سيتصف بـهذه الصفة دائماً أو إنه يراد له أن يخلو من العناصر الجمالية والقيم الفنية التي تسم النص وتجعله أدباً مميزاً. وأن الأدباء الإسلاميين على وعي تام بـهذه الحقيقة ما داموا لا يعيشون في وسط منعزل وما داموا في تواصل مع الحركة الأدبية المعاصرة التي تولي هذه العناصر أهمية كبيرة. ولئن وُجِد من بين هؤلاء الأدباء من لم يتبين هذه الحقيقة على وجهها الصحيح فإن من الواجب إلفات انتباهه إلى أن الأدب الإسلامي يكون أدبا حقيقياً حينما يراعي في أداء رسالته القيم الجمالية والفنية، وإن إغفال أدباء آخرين لها ممن ينضوون تحت ألوية اتجاهات مختلفة ليس عذراً للتهاون بشأنـها أو استنباط الظن من عملهم في أنـها عناصر غير جوهرية. ويكفي الأديب المسلم أن يلتفت إلى أمرين اثنين ليتبين أن العناية باللمسات الجمالية أمر متمم ولا مناص منه في كل إبداع، وهذان الأمران هما:
1 - الكون المحيط بالإنسان، لا بتنظيمه ودقته اللذين يشكلان دون أدنى ريب عنصرا جماليا لازما، ولكن بملاحظة كون الجمال صفة مطلوبة لذاتـها في كثير من الموجودات. فعين الإنسان على سبيل المثال تؤدي وظيفتها التي أوجدها الله - سبحانه - من أجلها سواء كانت سوداء أم زرقاء أم خضراء وسواء كانت واسعة أم ضيقة وهي بـهيئاتـها المختلفة تعكس مستويات جمالية متابينة من غير أن يكون لهذا الجمال المستكن فيها وظيفة بيولوجية إضافية تعجز الأعين الأخرى عن أدائها. والحال كذلك بالنسبة إلى منقار الطائر الملون أو جناحه المزركش أو إلى جلود الحيوانات المختلفة في ألوانـها، فهي جميعاً تؤدي وظائفها بكفاءة مساوية لمثيلاتـها المجردة من الصفة الجمالية في الطيور والحيوانات الأخرى. وما من شك في أن الجمال على هذا حاجة كونية وفطرية ولابد للإنسان أن يلتفت إليه وأن يجد في الكون المحيط به مثالا يسعى لجعل الأدب على شاكلته اتقانا وجمالا.
2 - القرآن العظيم، ومع أن هذا الكتاب المقدس يمثل رسالة سماوية تدور بالدرجة الأساس في فلك قيادة الإنسان وإرشاده إلى بارئه - جل وعلا - وفي تعريف هذا الإنسان بالتشريع الذي يرتضيه له ربه فانه يشتمل إلى جانب هذه الوظيفة الوعظية الإرشادية على أعلى درجات الكمال الجمالي والفني حتى إن كثيراً من الناس قد بـهروا بطريقته الفذة في التعبير والبناء والإيقاع وحتى أن علم البلاغة العربية وجدت سبيلها للوجود أساسا من أجل الاحاطة بعناصره الفنية وطرائقه التعبيرية.
وعلى الأديب المسلم أن ينتبه إلى خصوصية التعبير القرآني ليجد في تلك الخصوصية نبراسا يهتدي به في استكشاف طرائق التعبير والتركيب والتنويع الايقاعي وغيرها مما لم يكن الوعظ والتشريع واضعا إياه في قالب مباشر وباهت. ونحن نعلم جميعا أن القرآن الكريم كان معجزة النبي - عليه الصلاة والسلام - للعرب الذين كانوا معروفين أنـهم ذوو بلاغة ولسان وأنـهم مع ذلك وقفوا أمامه مشدوهين ومخذولين عن إمكانية مجاراته. ولا شك أن إعجازه في نظر غير المؤمنين به لم يكن في مضمونه بل في شكله الخلاب. ومن عناصر ذلك الشكل جمال اللفظ والعبارة والإيقاع. وليس القرآن الكريم في هذه الخصيصة بمنعزل عن الكون، إنما هو الصفحة المقروءة منه، وأن الكون كله يتصف بـهذه الخصائص المتفردة التي يتصف بـها القرآن. وما دام الأديب المسلم ينطلق من انسجامه مع الكون ويصدر عن فهم وإدراك للقرآن الكريم فلا بد أن يكون نتاجه منسجما مع ما ينبجس عن الكون وعن القرآن على حد سواء.
ومن الجدير بالإشارة في هذا المقام أن العناية بجماليات النص الأدبي الإسلامي عربيا كان أو غير عربي لا تتفرع عن عناية الغربيين أو المستغربين بموضوع الجمال بل هي تنبع أساسا من الحاجة إلى تحصين الأدب الإسلامي بما في بنيان القرآن الكريم من شمولية ودقة وإلى تذكير بعض الأدباء الإسلاميين بذلك في سبيل الحفاظ على شخصية الأديب المسلم وهويته الإسلامية أمام الغزو الفكري الذي لا ينفك يتعرض إليه.
ويدور الجمال لدى الغربيين ومن تأثر بـهم على الموضوع من حيث وظيفته أو كماله، وبناء على ذلك انقسم الادباء في نظرهم إلى قسمين:
1. قسم يرى أن جمال النص أو الشيء يتراءى من خلال فائدته، وكلما كانت الفائدة أتم وأجلى كانت درجة الجمال أعلى، فالفائدة هي المعيار الحاسم لدى هؤلاء في الحكم بجمالية الشيء من عدمه. ولعل الأدباء المعتقدين بـهذا الرأي هم الذين رفعوا راية الأدب للمجتمع وهم الذين جعلوا الجمال قرين الالتزام الاجتماعي أو السياسي، ولربما تأثر الأدباء الإسلاميون بـهؤلاء حين قرنوا الجمال بالالتزام الإسلامي.
2. وقسم يرى أن الجمال كامن في اكتمال الشيء واتقانه بصرف النظر عن فائدته الاجتماعية أو السياسية، وهؤلاء هم الذين رفعوا، وكما هو معلوم، لواء الفن للفن.
ولقد يضاف إلى هذين الصنفين، أو يتفرع عنهما، أولئك الذين يرون أن للجمال وجودا خارجيا مستقلا وأن الرائين قد يتفقون فيما بينهم أو يتباينون في الحكم بمداه أو استشفاف درجته وإدراك عناصره تبعا لتباين ثقافاتـهم وحساسياتـهم الجمالية. وعلى النقيض من هؤلاء مال آخرون إلى الاعتقاد بأن الجمال لا يمتلك أي وجود ذاتي حقيقي، وأن الحكم على الشيء بأنه جميل إنما هو تعبير عن احساس الرائي بالشيء وانطباعه عنه ووقع ذلك الشيء في نفسه، وأن درجة الجمال المدركة مرهونة بدرجة هذه الاحساسات المثارة والانطباعات المتروكة في النفس. وعلى هذا فقد يتفاوت الشخص الواحد في إحساسه الجمالي بشيء ما في وقتين مختلفين إذا اختلف انطباعه وتأثره، كما أن الشيء قد يبدو جميلا من وجهة نظر من يعتقد في الوجود المستقل للجمال بينما لا يكون كذلك لدى من يجعل الجمال نتيجة للتأثر الوجداني لسبب بسيط هو ان وجدانه لم ينفعل به، وهكذا.
ومثل هذا الاعتقاد، أي أن يكون الجمال ذا وجود حقيقي مستقل أو أن يكون وجوده مرتبطا بمجرد انطباع في النفس، يقوم على فكرة الغاء طرف من الأطراف المتعاملة مع " الشيء". فالمؤمنون باستقلالية الجمال وبكونه عنصرا ملازما لـ " الشيء " ذاته يلغون دور من ينظر إلى ذلك "الشيء"، أو بالأحرى لا يعنيهم أن يكون الرائي شاعرا بذلك الجمال أو غير شاعر، فـ " الشيء " لدى هؤلاء جميل شاء الرائي أم أبى. بل إن عدم إدراك الرائي لجمالية ذلك "الشيء" أو محدودية إحساسه به قد يصبح سلاحا يشهر في وجهه أو اتـهاما يلصق به عن ضعف قدرته في إدراك الجمال. وتتبين هذه النـزعة الاستلابية على نحو مغاير لدى الذين يحسبون الجمال كامنا في منفعته، إذ يلغي هؤلاء "الشيء" الذي هو ذاته موضوع الجمال. وما دام " الشيء" ليس بذي قيمة في ذاته بل في درجة فائدته فإنه ملغي من كل اعتبار من حيث وجوده المجرد. وهكذا الحال مع أصحاب الرؤى الأخرى.
الإسلام هو الوحيد الذي ينظر إلى الجمال من زواياه المختلفة، من حيث وجوده الذاتي ومنفعته والانفعال به وظاهره وباطنه، ويستعمل لكل مظهر من هذه المظاهر مصطلحاً خاصاً يناسبه. وهو في ذلك كله لا يلغي رؤية على حساب رؤية أخرى وتعامله مع الجمال نابع من واقع الإنسان. والإنسان مجبول على أن ينشرح صدره لما هو جميل وأن يستحسن النافع المفيد، ولأن الإسلام دين الفطرة فإنه يهذب ما جبل في النفس من طبائع بما يتلاءم وتلك الفطرة ولا يقمع مكنوناتـها أو يلغي سجية من سجاياها كما هو ديدن الرؤى الوضعية المختلفة.
ولقد ورد ذكر الجمال، ومفردات أخرى تبدو مرادفة له، في مواضع شتى من القرآن الكريم. وأن الألفاظ الخاصة بالجمال التي يرد ذكرها فيه هي: الجمال، والزينة، والحسن، والتسوية. ولكل منها مجال مخصوص على نحو ما سأذكره فيما بعد، ولكني أريد أن ألفت الانتباه إلى معلم آخر من معالم اختلاف الإسلام مع المناهج الوضعية وهذا المعلم هو تنوع المصطلح في القرآن بحسب الزاوية التي يتم التعامل من خلالها مع الجمال بينما المصطلح الذي تستعمله المناهج الوضعية مصطلح واحد وهو "الجمال" أيا ما كانت زاوية النظر، ولهذا فإن استعمال مصطلح واحد للتعبير عن مواقف متباينة من الجمال يغدو استعمالا مضللا من جهة وتبدو عاجزة عن احتواء المواقف والدلالات المتباينة من جهة أخرى.
إن الألفاظ التي يرد استعمالها في القرآن الكريم للتعبير عن الجمال هي:
1 - الجمال:
ويختص هذا اللفظ في وروده بشعور الإنسان بما يرى بـهجةً ومتعةً، أو بوقع شيء ما في نفسه وقعا مرضيا سواء تحقق هذا الرضى عن طريق الحواس أو عن طريق الإثارة الوجدانية. ففيما يرتبط بالحواس يأتي استعمال هذه الكلمة للتعبير عن إشباع حاجة الإنسان إلى متعة النظر في مثل قوله - سبحانه -: ((والأنعام خلقها لكم فيها دفئ ومنهاتأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم)) [النحل 5 - 7]. فهذه الأنعام نافعة، ولكن القرآن الكريم تحدث عن الإحساس بجمالها في سياق مستقل عن المنفعة وإن ورد هذا السياق بين منفعتين: ((لكم فيها منافع ومنها تأكلون{والمنفعة الثانية هي: {وتحمل أثقالكم إلى بلد... }، وبين هاتين المنفعتين ورد قوله - سبحانه -: { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون}، ولم يكن هذا الشعور بالجمال وكما هو صريح في الآية الكريمة بسبب المنفعة المتأتية من الأنعام، أي أن الأنعام لم تكن جميلة في نظر الناس لأنها كانت نافعة لهم وحسب بل لأنها كانت تشبع حاجة انفعالية معينة في نفوسهم، وكأن إشباع هذه الحاجة يمثل واحداً من منافعها لتستوي فيها المنافع المادية والانفعالية. وبـهذا أيضا فإنك ترى أن هذه الآية الكريمة لا تربط بين الجمال والمنفعة، أي أنـها لا تتحدث عن الجمال المحسوس في الأنعام انطلاقا من كونـها نافعة، وكذلك فإنـها لا تفصل بينهما بل تجعل الشعور المستثار بالجمال واحدة من منافعها وسببا لمتعة النظر وبـهجة القلب. وليس من الضرورة أن يكون مثل هذا الإحساس مرتبطا بحقيقة الجمال الكائن في الشيء المرئي، فقد لا يكون ذلك "الشيء" جميلا من وجهات نظر أخرى، ولكن شعور الرائي بالارتياح النابع من رؤيتها يضفي عليها تلك الصفة.
إن مثل هذا الرضى مؤجج للاحساس بالجمال وهو من ثمار الحس (النظر أو السمع أو غيرهما). وقد يتحقق الرضى الوجداني بالوقع العام لموقفٍ ما وهو الشق الثاني الذي ألمحت إليه آنفا من مصدَري الرضى الذي يعبر عنه القرآن الكريم بلفظ الجمال واشتقاقاته. ومن الآيات التي ورد الجمال فيها بـهذا المعنى قوله - جل وعلا - ((فصبر جميل))[يوسـف 83]، ((فاصفح الصفح الجميل)) [الحجر 85]، ((فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا)) [الأحزاب 28]، ((واهجرهم هجرا جميلا)) [المزمل 10]. فالجميل الوارد فيها وفي غيرها من الآيات المباركات صفة لوقع مخصوص للموصوف في نفوس الآخرين، فالصبر الذي يأمر سيدنا يعقوب نفسه به استسلام لقضاء الله وقدره فتهدأ نفسه بذلك من جهة، ويوحي بطمأنة نفوس أبنائه من جهة أخرى حيث لم يتوعدهم بالويل والثبور ولم ينـزل بـهم عقابا، وكذلك الحال بالنسبة إلى ((سراحا جميلا)) أي أن يكون نوع السراح مريحا لنفوس نسائه - عليه الصلاة والسلام -. ومما لا شك فيه أن مفارقة الرجل لنسائه ليس جميلا في حد ذاته بل لعله يكون شديد الوقع على نفس المرأة خاصة، ومع ذلك فإن القرآن الكريم استعمل الجميل صفة للفراق وكذلك استعمله للهجر، ولم يرد الجميل في هذين الموضعين للدلالة على الرفق وحسب بل للدلالة على وقع هذا الرفق في نفوس الآخرين بحيث لا ينتج عن الفعل استثارة سلبية أو ضغينة أو كراهية. فالجمال والجميل صفة شعورية يتحسسها الآخر من غير أن تدل على أن " الشيء " نفسه وفي حد ذاته جميل بل لتدل على أن الجميل إنما هو وقعه لا غير. ولعلك لاحظت أيضا أن الآيات السابقات خلت من الربط بين الجمال والمنفعة، ومن ثم فإنه ليس من الضرورة أن يكون الجمال أو الجميل في استعمالات القرآن الكريم صفة ملازمة للنافع كما أن هذا لا يعني أن المنفعة منحسرة عنه دائما.
2 - الحُسْن:
وهو اللفظ الآخر من ألفاظ الجمال التي يرد ذكرها في القرآن الكريم، وكذلك في الأحاديث النبوية الشريفة. والدلالة الجوهرية لهذه اللفظة منصرفة إلى كون الجمال جزءا من تكوين " الشيء " وحقيقته، وهذا يعني أنه لا يستعمل للدلالة على وقع ذلك " الشيء " في النفس بل للتعبير عن "حقيقته ". من ذلك مثلا قوله - سبحانه - في سورة الأحزاب: ((لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن)) [الأحزاب 52]، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام - في تحذيره للمؤمنين من خضراء الدمن التي بيّن أن المراد بـها هو: " المرأة الحسناء في المنبت السوء ". فالحسن صفة جمالية حقيقية في المرأة، هي تلك الصفة التي يتفق عليها الرائون وهي جمال مادي ملموس وليس معنويا فيها، وهو في الوقت عينه ليس معنويا في الرائي بمعنى أن المرأة تبدو له جميلة مع أنـها ليست في واقع الأمر كذلك، ولئن كان هذا المعنى مقصوداً لكان يقال مثلا ولو أعجبك جمالهن أو المرأة الجميلة في المنبت السوء. "الحسن " إذن صفة جمالية فعلية في الشيء ذاته بغض النظر عن أثره في الآخر أو عدم أثره، وهو يختلف عن " الجمال " من حيث أنه حقيقة بينما الجمال شعورٌ. وهكذا فإن ألفاظ الحسن في الآيات الكريمات تدل على الجمال الفعلي الملموس في الأشياء، من ذلك مثلا قوله - تعالى -: ((والله عنده حسن المئاب))[آل عمران 14]، ((وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب))[ص 40]، ((ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا))[الكـهف 2]، ((قال معاذ الله إنه أحسن مثواي)) [يوسف 23]. وهي جميعا دالة على حقائق الحسن، فحسن المآب يعني أن المآب في حقيقته جميل وليس جماله انطباعا يشعر به الإنسان يوم القيامة. ولهذا أيضا فإن الباري - عز وجل - عندما يوجه عباده بقوله الكريم: (وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة)) [البقرة 83] فإنه يوجههم إلى أن يكون ما يقولونه في جوهره وحقيقته جميلا، لا أن يكون القول مترائيا لسامعه أنه جميل بينما هو ليس كذلك في نفس قائله، فهو يدعو عباده إلى صدق المقال وتجنب النفاق.
إن الجمال لفظ يعكس تأثير الشيء المرئي في النفس، والحسن لفظ يعكس الجمال الذي يوجد حقيقةً في ذلك الشيء والذي يتفق عليه الرائون بدرجات متفاوتة. وأن من أهم صفات الحسن امتزاجه بكينونة الشيء وملازمته له، وبعبارة موجزة: الجمال كلمة تدل على شعور عارض والحسن لفظة تنبيء عن جمال مادي حقيقي دائم. على أن هناك جمالا عارضا وظاهريا كأن يكون في اللباس أو في نوع تصفيف الشعر أو ما إليهما مما هو قابل للإزالة أو التغيير خلال أمد قصير. وللدلالة على هذا الضرب من الجمال العارض استعمل القرآن الكريم لفظ الزينة.
3 - الزينة:
فالزينة عنصر جمالي غير ممتزج بكينونة الشيء ولا يدل إيراده على تأثيره في الآخرين. إن ألوان العيون المجتلبة صناعيا، مثلا، ليست إلا زينة طالما أن استبدالها وتغييرها من الأمور الممكنة، وإن ما يرتديه الإنسان محض زينة طالما أنه سيخلعه ويستبدل به غيره. ولهذا فإن معظم الآيات المشتملة على هذه اللفظة تنصرف إلى هذا المعنى كقوله - سبحانه -: ((قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى))[طه 59]، ((ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم))[طه 87]، ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم))[الحديد 20]، ((يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد))[الأعراف 31]، ((فخرج على قومه في زينته)) [القصص 79] وغيرها من الآيات الكريمات. وقد وردت "زينة " في مواضع أخرى تبدو في ظاهرها وكأنـها تعكس الأثر الجمالي في النفس من مثل قوله - سبحانه -: : ((والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)) [النحل 8]. على أننا إذا ما أنعمنا النظر في الآية لتبين لنا أنـها لا تدل على ذلك الأثر؛ ذلك أن " زينة " وردت ههنا غير مخصوصة، وهي تختلف في هذا الصدد عن الجمال التي وردت في قوله - تعالى -: ((ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون))، وهي الآية التي أوردناها من قبل، فـ " جمال " مخصوصة بالمخاطبين " لكم فيها " تلميحا إلى تأثير الأنعام فيهم، بينما وردت " زينة " مطلقة لتشير إلى كونـها ملكا زائلا.
إن الألفاظ السابقة وهي: الجمال، والحسن، والزينة، تدور جميعا ومن جهة أخرى، على التعامل مع الظاهر فقط ولكن بمعيار التأثير والثبات والتغير. فالجمال ظاهر مؤثر، والحسن ظاهر ثابت، والزينة ظاهر متغير. ثم إنـها ظاهر لأنـها تكشف عن رؤية الإنسان وموقفه، والإنسان لا يرى الا الظاهر الذي يتطلب ألفاظا تنسجم كل واحدة منها مع وجه من وجوهه.
4 - التسوية:
على أن القرآن، وهو الكتاب الشامل المحيط، يتجاوز الظاهر في بيان تقدير الجمال إلى المكنون أيضا، فإذا كان " الشيء " متناسقا وكاملا وتاما في ظاهره وفي باطنه على حد سواء فإنه يستعمل لهذا الضرب من الجمال لفظة " التسوية ". وبما أن الإنسان لا يقف إلا عند الظاهر فإن كلمة " التسوية " لم تقترن بإدراكه في استعمالات القرآن الكريم بل وردت مقرونة بالباري - عز وجل - دون سواه لأنه هو وحده - سبحانه وتعالى- يرى ظاهر الشيء وباطنه. ((فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) [الحجر 15]، وهو وكما هو جلي كمال الخلقة وتمامها داخليا وخارجيا. أو كقوله - سبحانه -: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا)) [الكهف 18]، ((الذي خلقك فسواك فعدلك))[الانفطار 7]، ((ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات))[البقرة 29]، وغير ذلك من الآيات الكريمات.
فالتسوية، إذن، تمثل أعلى درجات الاكتمال والاعتدال والجمال، وهي اللفظة الوحيدة من بين ألفاظ الجمال في القرآن الكريم الدالة على ملاحظة الجمال في بعديه الظاهر والباطن. وبـهذا الالتفات إلى المستويين لا يكون القرآن الكريم أرقى نظرا إلى الجمال وتقديرا له قياسا بالفلسفات الوضعية وحسب، وهذا في حد ذاته يفتح آفاقا واسعة في العناية بالعنصر الجمالي لدى الأديب الإسلامي، بل يكون أيضا منسجما مع الإرشاد العام الذي يرسمه للإنسان في ألا يقف عند ظواهر الأشياء وفي أن يتخطاها من اجل استكشاف ما هو كامن وراءها وفي أغوارها..