اكتشاف «المادة المظلمة» التي تولد
الجاذبية
لعقود عديدة من السنين، ظل العلماء يقدمون تنظيراتهم حول الكون، وكيف انه
يتكون من مواد غامضة لا يمكن كشفها تسمى «المادة المظلمة» Dark Matter
والطاقة المظلمة Dark Energy. إلا انهم لم يتمكنوا إلا اخيرا من البرهنة
على وجود هذه المادة، التي تصنف ضمن الجسيمات الذرية الدقيقة.
وبعد دراستهم للبيانات المتوفرة من اصطدام وقع قبل زمن بعيد بين مجموعتين
عملاقتين من المجرات، يقول الباحثون الآن انهم اصبحوا متأكدين من وجود
المادة المظلمة التي تلعب دورا مركزيا في توليد الجاذبية وتحديدها عبر كل
أرجاء الكون.
ورغم ان العلماء لا يزالون لا يعرفون ماهية المادة المظلمة هذه، لأن عليهم
اولا التعرف عليها داخل المختبرات، إلا انهم يقولون إن كل نشاط الكون لا
يمكن تفسيره من دونها. ولن يقود الاكتشاف الجديد الى تأثيرات كبرى على
المناقشات الجارية بين علماء الفيزياء وعلماء أبحاث الكون حول المادة
المظلمة فحسب، بل على عملية فهم أسباب الجاذبية التي تساعد المادة المظلمة
على توليدها.
وبالفعل فإن نظرية المادة المظلمة قد نشأت وترعرعت بهدف تفسير الاكتشافات
التي توصل اليها العلماء قبل عقود من السنين، والتي أشارت حينها الى انه لا
توجد في الكون مادة مرئية كافية لتوليد الجاذبية الموجودة فيه، واللازمة
لمنع المجرات من الانطلاق بعيدا عن بعضها البعض. ونقلت صحيفة واشنطن بوست
الأميركية عن داغ كلاو الباحث في جامعة أريزونا في تسكون، الذي قاد الدراسة
التي اشرفت عليها وكالة الطيران والفضاء الاميركية «ناسا» سوية مع جامعة
هارفارد قوله، ان «الكون الذي تهيمن عليه المادة المظلمة، كان يبدو مستحيلا
(أي مناف للعقل والطبيعة)، ولذلك أردنا ان نختبر (الأمر) لتحديد ما اذا
كان تفكيرنا يتسم بعيوب أساسية»، وأضاف ان «هذه النتائج هي برهان مباشر على
ان المادة المظلمة موجودة» فعلا.
وحدث الاكتشاف الخارق عندما استخدم العلماء البيانات التي سجلها مرصد
تشاندرا المداري العامل على الأشعة السينية «أشعة إكس»، وهي البيانات التي
قدمت معلومات عما أسماه العلماء أكبر ظاهرة لتحرر الطاقة المرصودة في الكون
منذ الانفجار العظيم.
وقال العلماء إن مجموعة الطلقة «Bullet Cluster» قد ولدت بعد اصطدام مجموعة
عملاقة من المجرات الواقعة على مبعدة 3 مليارات سنة ضوئية، مع مجموعة
صغيرة من المجرات، وأنها تظهر وجود المادة المظلمة. وفي الواقع فقد جرد هذا
الاصطدام، المادة المظلمة عن المادة المرئية ودفعها بعيدا عنها. وبعد ان
جردت، تم التعرف على المادة المظلمة بوضوح بعد رصد توليدها للجاذبية
الشديدة.
وعلق شون كارول الباحث في علوم الكون في قسم الفيزياء بجامعة شيكاغو الذي
لم يشارك في البحث: «إننا نملك الآن دلائل مباشرة.. ولا يوجد أي سبيل
لتفسير الملاحظات التي رصدت من دون وجود المادة المظلمة». وبينما كان
العلماء يدعمون ولسنوات نظرية وجود المادة المظلمة.. التي أزداد دعمها اكثر
بفضل تأييد كبار العلماء والمؤسسات العلمية في هذا المضمار، فان نظريات
متعارضة لها تقوت أيضا مع الزمن، وكانت تروج لتعديل قوانين الجاذبية التي
وضعها نيوتن واينشتاين. وكانت النظريات المتعارضة تعتقد ان تلك التعديلات
في الجاذبية يمكنها تفسير الجاذبية الكونية اكثر من المادة المظلمة. وكان
ستايسي ماكغاو الباحث في الفيزياء الفلكية في جامعة مارييلاند، واحدا من
المتشككين في نظرية المادة المظلمة، وهو غير مقتنع حتى الآن بوجودها. وقال:
«لقد كنت أعرف بهذه النتائج منذ بعض الوقت، وأوافق على انها مهمة وقد تقدم
تعليلات حول المادة المظلمة، مقبولة اكثر من تفسير الجاذبية البديلة.. ومع
ذلك فمن المبكر القول إنها تقدم ذلك»! وأضاف ماكغاو ان الرصد الأكيد
لدقائق المادة المظلمة سيعني «التقاطها داخل المختبرات وليس القول فقط إن
تأثيراتها هي الوحيدة التي يمكن ان تفسر ما يجري رصده (في الكون)».
وقال الباحثون في «ناسا» الذين شاركوا في البحث، إن المهمة المقبلة ستتمثل
في فهم المادة المظلمة «والطاقة المظلمة المرتبطة بها» والتعرف عليها في
المختبرات. وظلت هذه المهمة صعبة حتى الآن، لأن المادة المظلمة لا تبقي
بعدها أي أثر، سوى توليدها لشدة الجاذبية.
وقال كارول ان «نتائج الاكتشاف لا تشير الى منشأ المادة المظلمة.. فهي تشير
لنا الى أن المادة المظلمة موجودة، إلا انها لا تذكر لنا ماهيتها وكميتها
الكبيرة. إن المغامرة الكبرى لا تزال أمامنا».
وقال العلماء إن المادة التي يمكن رصدها، أي تلك الذرات الموجودة في كل شيء
ابتداء من الغازات ومرورا بالأفيال الى النجوم.. تشمل 5 في المائة من مادة
الكون كله. وتشكل الجسيمات الدقيقة للمادة المظلمة، التي لا تملك سمات
يمكن إدراكها سوى توليدها لمجالات الجاذبية واختراق أي جسم من دون ترك أثر،
حوالي 20 في المائة.. أما البقية الباقية فانها تظل محاطة بألغاز أكبر
وأعمق من المادة المظلمة، وهي التي تملأ فراغ الكون وتجابه الجاذبية فيه
وتبدو وكأنها تدفع الكون نحو التوسع بسرعة أكبر.
وقال مكسيم ماركيفتش الباحث في جامعة هارفارد ـ مركز سميثونيان للفيزياء
الفلكية في كمبردج في ولاية ماساشوسيتس أحد اعضاء فريق البحث، إن اكتشاف
الفريق قد تم بفضل رصد مرصد تشاندرا لآثار الاصطدام بين المجرات. وقد تمكن
المرصد من رصد عملية غير اعتيادية جرى فيها انفصال غازات فائقة الحرارة
لمجموعتي المجرات عن بقية النجوم.
وقال علماء الكون ان الغازات فائقة الحرارة لها صفات تؤهلها لأن تصبح موضعا
لأي مجالات من الجاذبية، إلا انها وبدلا من ذلك توجهت مع النجوم، ولن يحدث
ذلك كما قال ماركوفتش إلا اذا تم انفصال المادة المظلمة عن الغازات
والتحاقها بالنجوم. وتنشر نتائج البحث في مجلة «أستروفيزيكال جورنال
ليترز».
المصدر : صحيفة : «الشرق الأوسط»