بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الارواح بعد مفارقة الابدان إذا تجردت بأي شي يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقا؟
وهل تشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلمس صورته ام كيف يكون حالها
هذه مسأله لا تكاد تجد من تكلم فيها ولا يظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا بغير طائل ، ولا سيما على أصول من يقول بأنها مجردة عن الماده وعلائقها ، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها شكل ولا قدر ولا شخص ، فهذا السؤال على اصولهم مما لاجواب لهم عنه ، وكذلك من يقول : هي عرض من أعراض البدن ، فتمنيزها عن غيرها مشروط بقيامها ببدنها ، فلا تميز لها بعد الموت ، بل لا وجود لها على أصولهم ، بل تعدم وتبطل باضمحلال البدن كما تبطل سائر صفات الحي ، ولا يمكن جواب هذه المسأله إلا على أصول أهل السنه التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنه والآثار والإعتبار والعقل ، والقول إنها ذات قائمه بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيئ وتتحرك وتسكن .
وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقبض والتوفي والرجوع وصعودها إلى السماء وفتح أبوابها لها وغلقها عنها ، فقال تعالى
: (ولو ترى إذ الظالمون في غمراتالموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم )
فقال تعالى :
(ياأيتها النفس المطمئنه ، ارجعي إلى ربك راضية مرضيه، فادخلي في عبادي ، وادخلي جنتي )
وهذا يقال لها عند المفارقه للجسد
فقال تعالى : ( ونفس وما سواها ، فألهما فجورها وتقواها )
فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله تعالى
: ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) فهو سبحانه سوى نفس الإنسان كما سوى بدنه ، بل سوى بدنه كالقالب لنفسه ، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس ، والبدن موضوع لها كالقالب لما هو موضوع له . ومن هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها ، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدنكما يتأثر البدن وينتقل عنها ، فيكتسب البدن الطيب والخبيث من طيب النفس وخبثها ، وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه ، فأشد الأشياء إرتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثراً من أحدهما بالآخر الروح والبدن ، ولهذا يقال لها عند المفارقه : أخرجي أيتها النفس الطيبه كانت في الجسد الطيب واخرجي أيتها النفس الخبيثه كانت في الجسد الخبيث .
وقال تعالى : (
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامهافيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ج) فوصفها بالتوفي والإمساك والإرسال ، كما وصفها بالدخول والخروج والرجوع والتسويه .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم :( أن بصر الميت يتبع نفسه إذا قبضت ) . وأخبر : ( أن الملك يقبضها فتأخذها الملائكه من يده فيوجد لها كاطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على سطح الأرض ) . والأعراض لا ريح لها ولا تمسك ولا تؤخذ من د إلى يد .
وأخبر : أنها تصعد إلى السماء ويصلي عليها كل ملك لله بين السماء والأرض ، وأنها تفتح لها أبواب السماء فتصعد من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل ، فتوقف بين يديه ، ويأمر بكتابة إسمه في ديوان أهل عليين أو ديوان أهل سجين ، ثم ترد إلى الأرض ، وأن روح الكافر تطرح طرحاً ، وأنها تدخل مع البدن في قبره للسؤال .
وقد أخبر النبيصلى الله عليه وسلم : ( بأن نسمة المؤمن وهي روحه طائر يعلق في شجر الجنه حتى يردها الله إلى جسده ) .
وأخبر: ( أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنه وتأكل من ثمارها ) .
وأخبر : ( أن الروح تنعم وتعذب في البرزخ إلى يوم القيامه ) .
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أرواح قوم فرعون : أنها تعرض على النار غدواً وعشياً قبل يوم القيامه ، وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم احياء عند ربهم يرزقون ، وهذه حياة أرواحهم ورزقها دار ، وإلا فالأبدان قد تمزقت ، وقد فسر رسول الله صلى الله غليه وسلم هذه الحياة : ( بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم إطلاعة فقال : ( هل تشتهون شيئاً ؟ قالو : أيُ شيءٍ نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ فعل بهم ذلك ثلاث مرات . فلما رؤا أنهم لن يتركوا من ان يسألوا قالو : نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ) .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم : ( أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنه ) .
وقال غبن عباس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنه وتاكل من ثمارها ، وتاوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا : ياليت إخواننا يعلمون ماصنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلو ا عن الحرب ، فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تحسبن الذين قتلو في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون ) .
وهذا صريح في أكلها وشربها وحركتها وإنتقالاتها وكلامها ،.
وإذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقه يكون أظهر من تمييز الأبدان ، والإشتباه بينها أبعد من إشتباه الأبدان ، فإن الأبدان تشتبه كثيراً ، وأما الأرواح فقلما تشتبه .
وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته ، ألا ترى أن بدن المؤمن والكافر قد يشتبهان كثيراً وبين روحيهما أعظم التباين والتميز ، وانت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في الخلقه غاية الإشتباه وبين روحيهما غاية التميز ، فإذا تجردت هاتان الروحان كان تميزهما في غاية الظهور .
وأخبرك بامر : إذا تأملت أحوال الأنفس والأبدان شاهدته عيانا قل أن ترى بدناً قبيحاً وشكلاص شنيعاً إلا وجدته مركباً على نفس تشاكله وتناسبه ، وقل أن ترى آفة في بدن إلا وفي روح صاحبها آفة تناسبها ، ولهذا تأخذ أصحاب الفراسه أحوال النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها ، فقل أن تخطئ ذلك .
ويحكى عن الشافعي رحمه الله في ذلك عجائب . وقل أن ترى شكلاً حسناً وصورة جميلة وتركيباً لطيفاً إلا وجدت الروح المتعلقه به مناسبة له ، هذا مالم يعارض ذلك مايوجب خلافه من تعلم وتدرب واعتاد.
وإذا كانت الأرواحالعلويه ، وهم الملائكة متميزاً عن بعض من غير أجسام تحملهم ، وكذلك الجن ، فتميز الأرواح البشرية أولى .
كتاب الروح لأبن قيم الجوزيه