الأصالة والمعاصرة وإشكالية العمارة العربية بين الماضي والحاضر
الدكتور : وليد أحمد السيد
دكتوراه نظرية العمارة - جامعة لندن
قارئ في العمارة العربية المعاصرة وفي مضمونها التراثي
تعالت وما تزال تتعالى ومنذ زمن غير يسير على طول امتداد الوطن العربي اصوات تنادي بتنامي ازمة في الفكر والثقافة المعاصرة. هذه الازمة شملت البيئة المبنية الى جانب مناحي الحياة الاخرى المختلفة، وذلك على اثر التداخل الثقافي مع (الغرب) تجسد وتبلور على اثر الاستعمار العسكري لمعظم اجزاء الوطن العربي مع نهاية القرن التاسع عشر والذي كان نتيجة حتمية لما مهد له الاستشراق الذي تسلل الى العالم العربي تحت ستار البحث العلمي والاستكشاف على ايدي الباحثين الغربيين بغية معرفة كنه (الشرق) واستكشافه. بيد ان هذه الحملات الاستكشافية سرعان ما تحولت الى طلائع الفلول التي انهالت على جسد الوطن العربي تنهش اجزاء ه وتتناوش اعضاءه. واذا كان من ثمة امر كان من الممكن ان يتفق عليه خصوم (الشرق) فقد كان تقسيم العالم العربي فيما بينهم بما يمتلكه من مخزون تراثي ممتد عبر القرون الخالية، والذي شكل (الحلقة المفقودة) في الوعي الغربي بين اعظم انجازات الاغريق والرومان وبين ما شكل انطلاقة النهضة الغربية الحديثة ، والتي يعترف منصفو الغرب ان العرب المسلمين كان لهم الباع الطولى في مد الجسر الثقافي لهذه النهضة،ونقل علوم الاغريق والرومان الى الثقافة العربية من خلال الترجمة التي قاد لواءها المأمون خلال ما عرف (بعصر التدوين والترجمة)، حيث نشطت حركة البحث العلمي آنذاك بما اغدقه الخليفة على العلم والعلماء ما يزن الكتاب من الذهب الخالص. هذه الحركة النشطة تخطت حدود الصفحات المكتوبة لتبرعم في البيئة المبنية تاركة مآثر عمرانية يقف امامها معماريو العالم العربي المعاصرمشدوهين،ومعلنين ضمنيا من خلال عجزهم عن مجاراة الابداع فيها عن اتساع الهوة بين هذا المخزون (التراثي) وبين العمارة (المعاصرة)، فما هي أزمة الاصالة والمعاصرة في العمارة العربية الاسلامية ؟ وما هي ابعادها؟.
قضية الاصالة والمعاصرة
رغم كونها منطقيا قضية ازلية قديمة منذ ان وجد الانسان، اذ لا بد من تابع ومقلد، من اب وابن، من قديم وحديث، من ماض وحاضر. و بذا فهي كائنة ويمكن لها ان تتبلور طبيعيا ضمن اية حقبة تاريخية لدى اية امة من الامم - تعني ببساطة حوار الماضي مع الحاضر حوارا يكون للحاضر فيه زمام المبادرة، وهي بدهيا ظاهرة صحية تؤدي الى النشوء والارتقاء بالحضارة. الا انها وبالشكل الذي تبلورت فيه وبالظروف التي نشأت بها تأخذ ابعادا عميقة وخطيرة في العمارة العربية الاسلامية للعديد من الاسباب: اولها ان تبلور هذه الازمة لم يكن طبيعيا ضمن اطار الثقافة والحضارة العربية الاسلامية، انما كان وليدا اما (كفعل) من (الآخر)، او (كرد فعل) تجاه التداخل الخارجي مع الآخر، وكلتا الحالتين اسوأ من الاخرى. ثانيها ان هذه الازمة تبلورت في حالة من التخلف والضعف شديدتين تنتابان العالم العربي، وبذا فانها تكرس ازمة و(اشكالية) بدل ان تتبلور كظاهرة تطور طبيعية تصيب الحضارة لترتقي بها من الماضي عبر الحاضر. ثالثها ان الحاضر لم يكن من الكفاءة بمكان كي يستطيع اخذ زمام المبادرة بل اضحى مأخوذا بروعة الماضي وعاش ضمن اساره وقيوده. ونتيجة لهذه الاسباب فإن ما كان يعتبر ظاهرة طبيعية للنشوء والارتقاء قد اصبح بوتقة وقمقما انحشر فيه الابداع المعاصر وما يكاد يفارقه او يملك منه فكاكا.
وقد ارتبطت هذه القضية وما تزال ترتبط بالعديد من المفاهيم المتداخلة والمترابطة ثقافيا، اذ ترتبط هذه (الثنائية) اللفظية بالعديد من الثنائيات الاخرى مثل: تراث وتاريخ، تراث وحداثة. ودرج الاستعمال اللفظي من قبل الباحثين والمفكرين على استعمالها جميعا للدلالة على نفس المضمون، مما نجم عنه ليس فقط التباس في الاستعمال اللفظي، بل تعداه - وخاصة في مجال العمارة والعمران- الى التباس حضاري شمل الهوية والخلط ما بين الماضي الذي يخص (الحضارة ذاتها) وبين ما يقع ضمن نطاق (الآخر) الذي كان جزءا من التاريخ الاستعماري الذي تحرر منه العالم العربي (حسيا فقط) قبل زمن يسير. كما نجم عنه قضية اخطر تمثلت في رؤية الماضي او التراث بالصورة التي ارادها (الاستشراق) سواء أكانت ايجابية ام سلبية. ولذا فسنتطرق الى معنى هذه الثنائية (اصالة، معاصرة) فما هو ما تعنيه هاتان الكلمتان البسيطتان وما هو الفرق بينهما؟.
يعمد الباحثون في مفهوم الاصالة الى تعريفها شتى التعريفات التي تراوح ما بين الاصطلاحي منها وما بين الايديولوجي، فمن مجمل التعريفات يبدو ان لفظة (اصالة) يمكن ان تكون صفة تطلق على اي عمل يبرز فيه نوع من انواع الابداع. اذ يشير البعض الى ان هذه الاصالة يمكن ان تدل على معنيين، احدهما زمني والآخر منهجي، او كلاهما معا، وحسب تعريف فؤاد زكريا مما يتفق مع هذا المفهوم نجد انه يميز بين هذين المعنيين، ويستبعد الاشارة الى الزمن، على اساس ان الاصيل يتجاوز مفهوم الزمن؛ ويتفق مع هذا التجاوز لمفهوم الزمن مفكرون آخرون كالجابري وحنفي، بينما نجد ان كوكبة اخرى من المفكرين تعمد الى ربط هذا المفهوم بالماضي وبالتراث، مما يعني الاشارة الضمنية الى ان الاصيل ينتمي زمنيا الى الماضي بحيث ان الاصالة تنحصر في القديم وان كان نسبيا، وهكذا نجد زاويتين مختلفتين لرؤية المفاهيم من خلال طروحات المفكرين، وعلى اية حال يمكن ان نجد اتفاقا على بعض الخطوط العامة لمفهوم الاصالة ندرجها فيما يلي: اولها ان الاصالة تحوي صفة الابداع، وان كان الابداع يختلف بين امة واخرى، مما يعني ان الاصالة مرتبطة خصوصيا بالثقافة، اذ تستمد قيمها الداخلية من القيم التي تفرزها الثقافة الواحدة، ثانيها: ان الاصالة تحوي ضمن تركيبها الداخلي (حركية)، بمعنى قابلية التطور والتجديد، وباعتبار هذه الخصيصة يمكن لنا ان نتبنى الرأي الذي يميل اليه الجابري وحنفي، ان الاصالة تتجاوز مفهوم الزمن، اي انها لحظة ابداع لا زمنية، وفي نفس الوقت تحوي ضمن طياتها بذور التجديد والاستمرار لا الانغلاق، فما هو اصيل يرى كذلك لا في زمانه فقط، انما يبقى كذلك لاجيال تلي، انما المشكلة تكمن لاحقا في رؤيته كنموذج تام الاغلاق والكمال لا يمكن الاستمرار منه، وهي الاشكالية التي تعاني منها العمارة العربية المعاصرة، اذ يعتبر معظم المعماريين المعاصرين ان العمارة التراثية شكلت قمة نتاج العصر الذهبي للحضارة الاسلامية -وهي كذلك فعلا- انما لا يمكن الانطلاق منها او مجاراتها، وبذا لا يسعنا الا تقليدها او النقل الحرفي منها، واحضارها الى زماننا واستعمالها في مختلف ارجاء الوطن العربي، كنوع من التقديس والاحترام، وهو مزلق خطير يعني من جهة عجز الحاضر عن التعبير عن نفسه، ومن جهة اخرى يعني عدم فهم الاصيل والاساءة اليه باتهامه بالجمود والانغلاق ضمن لحظة زمنية من الابداع هي لحظة مولده والتي بالتالي تشكل - حسب منظور الحاضر- لحظة موته ايضا، وثالث هذه الخصائص (وتلك مهمة) هي ضرورة تعبيرية الاصالة عن الواقع الذي انبثقت عنه، اذ لا يكون الاصيل كذلك في بيئة غريبة عن قيمه الداخلية التي منها يستمد اصالته، وان لم تكن للاصيل دلالة ايجابية فاعلة في الحاضر، مما يستلزم الصدق في التعبير، فلا يمكن ان يكون الاصيل اصيلا، ورابع هذه الخصائص: انها تنبع من الواقع والبيئة المحيطة وتعكس نظمها وقوانينها، اذ انها لا تسقط اسقاطا من الخارج ولا ينبغي لها ذلك، مثال ذلك في العمارة ان الاصيل من العمارة يعكس نظم الحياة الاجتماعية، والثقافية والاقتصادية والبيئية وغيرها ضمن اطار الحضارة التي نشأت بها، وهذا (الاصيل) الذي نشأ في اطار ثقافة وحضارة معينة لا يمكن ان يكون كذلك ان لم تنطبق شروط ميلاده على البيئة التي تتبناه وان تم تبنيه في غير بيئته فان مدى غرابته يعتمد على مدى الشروط المتحققه في البيئة المتبنية، وبذا فان المثال البسيط الواضح ان المبنى الزجاجي الذي كان نتاجا لشروط معينة في (الغرب) لا يمكن ان يكون اصيلا في دول (خط الاستواء من عربية وغيرها) لاسباب عديدة ابسطها مناخية، ناهيك عن الاسباب المتعلقة بالهوية والنواحي الاقتصادية وغيرها، هذا من ناحية فيما يتعلق بمفهوم الاصالة، فماذا تعني المعاصرة (الزوج الآخر في هذه الثنائية)؟.
ترتبط المعاصرة بمفهومها العام بالزمن، اذ ان معاصرة شيئين لاحدهما تعني الاتصال الزمني بينهما، بيد ان هذا المعنى هو المعنى الاولي جدا اذ ينزع العديد من المفكرين الى ربطها بالتعاطف والتواصل، اذ ليس كل ما هو معاصر لنا ما يمكن ان نتبناه الا من خلال انتمائنا له وانسجامنا معه، اذ ان الفكر العالمي وكذا العمارة العالمية هي معاصرة لنا، ولكننا لا ننتمي اليهما بالكلية، وبذا فهما معاصران لنا زمنيا لا ضمنيا، ويعمد البعض الى استبدال لفظة (معاصرة) بكلمة (حداثة) على اعتبار ان الاخيرة ادق من حيث احتوائها الضمني على الاختيار الواعي بدل الوجود الزمني الذي قد لا يعني الاختيار بالضرورة،
ويؤكد محمد اركون هذه الفكرة اذ ينفي عنصر الزمن من مفهوم الحداثة، حيث ان الحداثة لا يمكن النظر اليها على اساس التسلسل الزمني الخطي، بل انها مفهوم ينتمي لكل الازمان وهي لحظة ابداع لازمنية بمعنى ان ما قد ابدع في الماضي قد يفوق الحاضر، وهذه الفكرة تحض على النظر في المحتوى لا لحظة المولد.
والتساؤل الذي يطرح نفسه هو: من خلال ما تم التوصل اليه نجد انه ليس فقط هناك خلط في استعمال المفاهيم، انما يبدو ان الزوج (اصالة، معاصرة) قد لا يكون صحيحا من حيث الاستعمال كزوج ضمن ثنائية، و هل ينبغي ان نستبدل الزوج (اصالة، معاصرة) بالزوج (اصالة، حداثة) اذا كنا نعني عملية الابداع المتواصلة بين الاجيال المتعاقبة، مع ما في هذه العملية المتواصلة من تفهم واع ودقيق لظروف مولد - واحيانا موت تراث ما- ضمن نفس الثقافة والحضارة؟ اذا كان ذلك كذلك فإن هذا يعني وجود ازمة ليس فقط في استعمال المصطلح انما يتجاوز ذلك الى القدرة على فهم العلاقات المجردة وتتبع الهدف المقصود. اذ ان ازمة الفكر والعمارة العربية المعاصرين تكمن في تشوش وضوحية ادراك المشكلة وغياب الهدف المقصود مما يقود الى حلقة جوفاء من المحاولات التي تراوح مكانها، ان لم تكن تؤدي الى مزيد من التشوش والتعقيد للاشكالية.