خصائص الفن المعماري الإسلامي
بداية فن العمارة
.1. منذ أن وجد الإنسان كان الفن، ومغاور (لاسكو) و(التيميرا) تشهد على روائع الفن الذي زين فيه الإنسان؛ ومنذ آلاف السنين، مغائره التي كانت مقره ومسكنه، وتشهد هذه الزينة المؤلفة من رسوم ملونة لحيوانات انقرضت، على مهارة وواقعية، تؤكد أن الفن وسيلة اتصال سبقت اللغة والآداب في حياة الإنسان.
.2. وعندما تقدمت الحضارة، كان المسكن هو الحيز الذي استوعب مهارات ومواهب الفنانين، فالمنازل التي اكتشفت في وادي النطوف (فلسطين)، أو في المريبط (سوريا)، والتي تعود إلى الألف السابعة قبل الميلاد، كانت مزينة بزخارف ملونة.
.3. ولكن العمارة بذاتها، لم تلبث أن أصبحت بمظهرها الخارجي وكتلتها وأقسامها، شيئاً فنياً مجسماً، يحتاج إلى عمل إبداعي، كما يحتاج إلى فكر هندسي، ومع ذلك استمرت العمارة المجال الذي يستوعب جميع أنماط الفن التشكيلي، من تصوير أو نحت. وتجلى ذلك بقوة في العمارة الإسلامية، وشاهدنا ذلك في القصور الأُموية التي تميزت بالنحت الملون أو غير الملون، وبالرسوم الفسيفسائية والتلوينية، التي ما زالت ماثلة أثارها في قصور الحَيْر والمشتى وقصر المفجر وحمام قُصَيْر عَمْرة.
.4. وإذا كان للفن التصويري أن ينفصل عن العمارة؛ لكي يستقر على الأشياء المنقولة، مثل المخطوطات والأواني وتوابع العمارة والأثاث، فإن أساليبه لم تتغير كثيراً، فهي إما أن تكون تشبيهية واقعية، أو تكون زخرفية مجردة، ولقد تنوعت بتنوع الطرائق والاجتهادات حتى اليوم.
على أن العمارة، وقد اعتمدت لغة أخرى غير مفردات لغة الخط واللون، وهي لغة الكتلة والفراغ، قدمت لنا هُوية مستقلة متميزة لم تختلط بهُوية فنون العمارة الأخرى التي عاصرت فن العمارة الإسلامية.
.5. فإذا كان الفن التشكيلي، الرسم والنحت سريع الاندماج بتيارات وشخصيات الفنون الأخرى؛ أخذ منها وانطبع بطابَعها من حيث لا يدري، كما تم في انحراف فن المنمنمات باتجاه الفن الأوربي، فإن انحراف فن العمارة مهما كان ضئيلاً، يفقد أصالته وشخصيته أو يعرضه إلى الانضواء الكامل لسيطرة الأساليب المعمارية الغربية، التي قد تكون أسهل تنفيذاً وأصلح استعمالاً، وأقرب إلى مفهوم الحداثة والزي، ولكنها تبقى مقطوعة الجذور عن نسغها الحضاري الأصلي.
وفي العصور التي تعرضت فيها المِنْطقةُ العربية ـ على سبيل المثال ـ إلى التَّبَعيةِ السياسية والاجتماعية، يبدو ذوبان الشخصية الحضارية أكثر وضوحاً في زوال الطابع المعماري الأصيل.
إن إنشاء العمارة هو عمل إبداعي يتطلب مجتمعاً ومُناخاً حرّاًً، ولقد استطاعت التبعية التي عانتها الشعوب العربية الإسلامية، أن تقمع الإبداع الفني، وأن تفتح الأبواب مشرعة أمام التأثيرات الغربية. وهكذا ظهر الأسلوب الكولونيالي الاستعماري في عمارات القاهرة والإسكندرية والجزائر والرباط والدار البيضاء وحلب وبيروت.
أ.6. وعندما ظهرت العمارة الحديثة تحت اسم Jugenstil في ألمانيا، وشهد العالم جناح ألمانيا في معرض برشلونة 1929 للمعمار ميس فان در روه المبني من الزجاج والمعدن، كان ذلك نهاية العمارة القديمة، وبداية عهد الإبداع المتطرف والمجرد. والذي كرسته، أيضاً، مدرسة الباوهاوس في فايمر. وكان هذا بداية حداثة العمارة التي قامت على رفض جميع التقاليد المعمارية من أي نوع كانت، والعودة بالهندسة المعمارية إلى الأشكال والحجوم المجردة، وهكذا أصبحت العمارة مكعبات وأهرامات معزولة أو مركبة في تشكيلات لا تخلو من العبث واللعب. وأصبح هم المعمار إثارة الدهشة الخارجية التي تسببها إيقاعات غير متزنة في الحجوم والكتل والفراغات، مع سخاء في استغلال الفراغات الداخلية لوظائف مخصصة، ضمن شروط صعبة تفرضها تجهيزات الكهرباء والإلكترون التي تؤمن الانتقال والصعود والتدفئة والتهوية والأمن.
والسؤال اليوم، أين العمارات المعاصرة من عمارات الماضي؟، يقول (جنكيز) "لم يتبق من العمارة إلا رموز الهندسة، لقد رحل هذا الفن إلى أبعد نقطة تفصله عن التاريخ وعن الإنسان". وهو ينادي بعمارة ما بعد الحداثـةPost Modernism .
إن عمارة الماضي في الهند والمكسيك وفي إيطاليا وفي البلاد العربية وغيرها، مازالت قائمة ترقب بحسرة انهيار مفهومها أمام تجريدية وعبثية العمارة الحديثة، وشيئاً فشيئاًً عاد أنصار الأصالة في كليات العمارة بشن الحرب على الأسلوب الجديد، معبرين عن سخطهم وخيبتهم لمآل الحداثة، وقد وصلت إلى نقطة الصفر
لغة و مفردات العمارة الإسلامية -
.1. لقد نشأت الثقافة المعمارية الإسلامية على أيدي المعمار البسيط، الذي تولى عمليات الإنشاء، والإبداع بشكل تلقائي، يعتمد على حدسه ودربته وانتمائه الاجتماعي والديني، ولم يطلع هذا المعمار الصناع على مراجع ونظريات، بل كانت تجارِبُه وابتكاراته تشكل مدرسة وتقليداً تتبعه الأجيال اللاحقة من المعماريين.
ونشأت عن الممارسات المعمارية لغة معمارية، ومفردات يتناقلها المعماريون، ويتعاملون بها للدلالة على تفاصيل أعمالهم. وكانت هذه المفردات غزيرة ومتنوعة باختلاف المعلمين المعماريين، واختلاف بيئاتهم ولهجاتهم، وهكذا ظهرت مصطلحات ومفردات مختلفة ومتباعدة غير موحدة، ولكنها مباشرة ومعبرة عن مدلولها بمرونة خارقة.
.2. ومع انتشار الثقافة والانتقال من اللهجات المتباينة إلى اللغة العربية المشتركة، وهي لغة القرآن الكريم، ظهرت الحاجة إلى توحيد هذه المفردات والمصطلحات، ولقد قامت المجامع اللغوية بجهود لتحقيق هذا الهدف، وكان على معاهد العمارة أن تتبنى هذه المصطلحات الموحدة، مما يساعد على فهم أسرار فن العمارة وعلى توحيد قراءتها، سعياً لتوطيد وحدة الشخصية المعمارية الإسلامية.
خصائص الفن المعماري الإسلامي
.1. على الرغم من الفرق بين العمارة ومفهوم فن العمارة، فإن ثمة خصائص شاملة للفن المعماري الإسلامي تعتمد على المبدإ الهندسي العلمي والمبدإ الفني الإبداعي.
لقد استوفى فن العمارة في مصر والرافدين وفي الهند وفي الغرب حقَّه من الدراسة النظرية، وكانت مراجع تاريخ العمارة زاخرة بالنظريات التي تناولت هذه الفنون المعمارية، والتي درسها الاختصاصيون في العالم، وانتقلت إلينا مترجمة خالية من دراسة تنظيرية تحدد خصائص الفن المعماري الإسلامي، وكان لابد من سد هذا النقص من خلال مجموعة من المعطيات.
.2. ويجب أن يكون واضحاً أن تحديد الخصائص لم يكن سابقاً لتكون فن العمارة الإسلامية، بل هو استدلال نستخلصه من شواهد هذا الفن المعماري. ولكن خصيصة أساسية كانت وراء هذا الفن حددت سمته واسمه، وهي الخصيصة الدينية التي تجلت في الفكر الجمالي الإسلامي، الذي كون الفنون الإسلامية والعمارة.
تتجلى علاقة العمارة بالدين الإسلامي من خلال عقيدة التوحيد كأساس عقائدي، ومن خلال التعاليم والمبادئ والتقاليد الإسلامية.3.
والفكر التوحيدي يقوم على الإيمان بإله واحد مطلق لا شبيه له {ولم يكن له كفواً أحد}، (سورة الإخلاص ، الآية: 4) وهو رب العالمين ورب السماوات والأرض، وبهذا فإنه يختلف عن مفهوم الرب في جميع الأديان والعقائد، حيث يبدو الرب مشخصاً محدداً أو مشبهاً ونسبياً. لقد كان الإطلاق سبباً في البحث المستمر عن أبعاد هذا المطلق، وكان الإيمان ممارسة حضارية تبدو في البحث عن سر المطلق وعن قدراته الهائلة التي تتمثل في الكائنات والطبيعة.
.4. وكان المسجد أول بيت أسس على التقوى يجمع المؤمنين تحت قبة واحدة خاشعين أمام عظمة الخالق سبحانه، يتدبرون سرّاً وعلانية، التقرب منه علماً ويقيناً. وكان شرط عمارة المسجد يقوم على قواعد الصلاة. وانتقلت شروط الإيمان بالله الملاذ الأجل، إلى أشكال العمارة الأخرى، المدرسة والضريح والقصر والبيت.
.5. أما بناء المسجد فإن الزركشي(1)، يتحدث بإسهاب عن شروط بنائه، لكي يساعد المصلي على أداء صلاته براحة، وعلى الاستماع إلى الخطيب بيسر. ومن شروطه التي أوردها نذكر:
. شرط الاتصال بين المصلين وتراص الصفوف.1
. شرط خلو صحن المسجد من الأعمدة التي تقطع صفوف المصلين.2
. شروط تحقيق الاقتداء بعدم وجود حائل يمنع من تلاحق وتتابع صفوف المسلمين.3
. شرط وجود جدار نافذ بين الصحن والحرم.4
. شرط ألا يكون الدخول إلى صحن المسجد مباشراً.5
.6. لعمارة الحمامات شروط لابد من تحقيقها لضمان النظافة والحشمة والبيئة الصحية المواتية، تحدث عنها الكوكباني في (حدائق التمام في الكلام عن الحمام) وهي النظافة والعلاج من بعض الأمراض، وضمان الخدمات عن طريق منبر الإدارة، والمَخْلََع والمخزن وخزائن الأمانات، ويتحدث عن قواعد العمارة برفع مستوى الحمام، وتنظيم مجاري المياه والإكثار من فتحات الإضاءة في القباب.
ويشترط أن يقسم الحمام إلى ثلاثة أقسام. القسم البارد ثم الرطب وثم الساخن المجفف، لكي لا يتأثر المستحمون من تقلبات الجو المفاجئ.
.7. أما المشافي فلقد حددت شروطها الوقفيات وأوامر المحتسب، ونصت على منهجية التصميم والبناء
.8. إضافة إلى الشروط المفروضة المتعلقة بعمارة المباني، هناك شروط تتعلق بالعمران، كان أولها ما وضعه الخليفة عمر بن الخطاب. وأهمها أورده ابن الرامي في كتابه(1)، حيث حدد استعمالات الأراضي وحقوق الارتفاق وحقوق استعمال الطرق. ولقد تناولت المصادر الجَغْرافية وكتب الرحلات شروطاً تتعلق بالتخطيط الحضري، وبخاصة كتاب تاريخ مكة للأزرقي وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وكتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي الذي استوفى التخطيط الحضري الكامل لمدينة القاهرة، كما تضمن الكتاب وصفاً للجوامع والحدائق والزوايا والبيمارستانات والحمامات والخانات، وحدد مواقعها ضمن مخطط القاهرة. ويُعَدُّ كتاب المقريزي أهم مرجع لعلم التخطيط الحضري عامة و لوصف القاهرة خاصة
تحديث فنون العمارة الإسلامية لفائدة ذوي الاختصاص
في العالم الإسلامي وخارجه
الأصالة والحداثة
.1. يُعَدُّ التراث المعماري الإسلامي ثروة حضارية لابد من العناية بها وحمايتها، ولابد من دراستها وإيضاح خصائصها وفوائدها، والعمل على إكمال مسيرة تطورها، لتصبح أكثر ملاءمة مع ظروف العصر والمتحولات الحضارية.
ولأن العمارة هي وعاء الحضارة، وتمثل الهُوية الثقافية والمستوى الإبداعي والجمالي للإنسان، كان لابد من التمسك بأصالتها، والعمل على درء الغزو المعماري الغريب الذي غير طابِعَ المدينة الإسلامية، وجعلها كوزموبوليتانية فاقدة الهوية والسمة، منقطعة عن الجذور والبيئة والإنسان.
.2. لقد استطاعت العمارة الإسلامية أن تنتقل من المضارب في البوادي إلى الأكواخ في القرى، ثم إلى المباني والأوابد في المدن، حاملة ملامح أصيلة، منسجمة مع متطلبات الإنسان ومع تقاليد وبيئته. ومن المؤسف أن هذه العمارة انقطعت فجأة عن التطور والنمو الصاعد بسبب احتياج طراز العمارة السهلة البسيطة، التي وفدت مع مستحدثات المدينة في الغرب، إلى جميع البلاد الإسلامية.
.3. ومما لاشك فيه أن مسوغ استقبال هذه العمارة الغربية كان تطور التقنيات الإنشائية، إذ دخل الإسمنت والحديد والزجاج في عمليات البناء والإكساء والزخرفة، وكان للكهرباء الدور الأكبر في تعديل مسيرة تطور العمارة التي اعتمدت كلياً على فوائد هذه الطاقة الجديدة، عند تمديد أسلاك الإنارة، أو بناء أبراج المصاعد أو تركيب أنابيب التدفئة والتهوية. حتى طغت هذه الإضافات على فن العمارة، فأصبح تابعاً لها. وفي بناء حديث مثل مركز بومبيدو في باريس، تبدو هذه الإضافات صريحة وواضحة، بل أصبحت أساسا للتصميم المعماري ذاته.
.4. ولقد تبين أن هذا الطغيان التقني كان خطيراً على فن العمارة، كما هو خطير على الإنسان الذي أصبح يزداد بعداً عن الطبيعة، طالما هو يزداد خضوعاً لظروف التقنيات ومفاعيلها الضارة. وارتفعت تكاليف هذه التقنيات حتى أصبحت عبئاً على اقتصاد المدينة، وهو عبء مستمر لا يمكن الاستغناء عنه بل يصبح غيابه وبالاً على البناء وتعطيلاً لوظيفته.
.5. لعبت السياسة الاقتصادية والاستثمارية دوراً سيئاً في امتصاص قدراتنا عن طريق جعل الاستهلاك التقني ضرورياً لابد منه، ولم يعد ممكناً تطبيق برامج ترشيد الاستهلاك، أمام منشآت ضخمة، من مطارات وفنادق، وجامعات مجهزة بتقنيات فائضة تستهلك قدرات هائلة من الطاقة، كان يمكن توفيرها لمشاريع منتجة أخرى. ومع ضرورة الإفادة من التقنيات الحديثة، فإن ما ننقده هو التجاوز المتطرف في استعمالها إلى الحد الذي تصبح فيه العمارة تابعة لها.
.6. تبقى مسألة التحديث في العمارة مرتبطة بالأصالة، وتبدو العمارة أكثر تعبيراً عن الهُوية، ولا يُعنى بمحاولة تحديث العمارة التفريط بالهُوية الثقافية، وبخاصة إذا كانت هذه الهُوية تتجلى من خلال قيم دينية سامية وبتراث عريق ثابت الشخصية. وليست عملية الربط بين الحداثة والهُوية صعبة، بل إن الحداثة الغربية ذاتها تهفو اليوم للعودة إلى الجذور.
مآل الحداثة
.1. وصلت الحداثة في العمارة الغربية حد التطرف في الانقطاع عن التقاليد وعن الطبيعة وعن الإنسان، حتى انقلبت المدينة الحديثة إلى مجموعة من الكتل الهندسية المجردة، وفقدت العمارة الخارجية طابَعها التقليدي الذي عرف في أوروبا منذ العصور الكلاسيكية إلى عصر النهضة والباروك والكلاسيكية المحدثة والعصر الفكتوري، وظهر اتجاه جديد ينادي بالعودة إلى الهُوية أي العودة إلى الطابَع والشكل المعماري المنسجم مع البيئة والإنسان، وينادي بإنعاش الذاكرة التاريخية والقومية التي تحدد الهُوية المعمارية شكلاً وإبداعاً، بل عاد المعماريون إلى القول إن السكن خلية عمرانية اجتماعية، وليس هو منشأة في فراغ اجتماعي، وهو بذلك يحقق أهدافاً ثلاثة، اللقاء مع الآخرين، والتوافق معهم؛ وتحقيق السكينة والتفرد. وتحدد الحياة ملامح معمارية مختلفة باختلاف الزمان والمكان، ولغة العمارة هي لغة الذاكرة، ويقول الفيلسوف (شولتز) لا يتطلب عصرنا لغة معمارية جديدة نختارها من بين النماذج الأصلية، نؤوّلها بحرية اعتماداً على ذكرياتنا المتنوعة، والتأويل يعني الكشف عن علاقات خفية أكثر مما يعني اختراعاً حراً، ولكن المعمار الألماني (ميس فان در روه) يقول على العمارة أن تخضع للحياه، وأن تخدمها، وليس عليها أن تفرض فرضاً على الإنسان والمجتمع مبرراً بذلك الحداثة التي دعت إلى ربط العمارة بالوظيفة، وإلى تعدد أشكالها بتعدد الوظائف. أي أن العمارة خرجت عن طابَعها الأصلي تائهة في عالم الابتكار والتجريد.
.2. لقد انفصلت العمارة الحداثوية نهائياً عن لغة العمارة، هذه اللغة التاريخية التي عبرت عن الإنسان الذي أنشئت العمارة من أجله، وبقيت العمارة بدون لغة وبدون هُوية، لأن اللغة هي المعبر عن الهُوية. ووجد النقاد أن العمارة الحديثة لا هُوية لها؛ ولا تساعد الإنسان على العيش في بيئته التاريخية والاجتماعية، ولقد كانت العمارة تعبر عن مفهوم قومي، ثم أصبحت اعتباطية فاقدة الشخصية، فالعمارة كما يقول (هيدغر) هي بيت الوجود الزاين.
. 3. إن إهمال لغة الذاكرة التاريخية في العمارة الحديثة، دفع المعمار إلى التعويض عن التاريخ بالحوافز الصناعية، فأصبحت العمارة الحديثة هواية ومغامرة اعتباطية، وقد أصبحت شعارات الحداثة دوغماتية.
ب.4. كان المعمار (جنكز) أول من أعلن نهاية الحداثة، ونادى بعمارة ما بعد الحداثة Post-Modern، ولامست دعوته عواطف الناس الذين باتوا يبحثون، دون جدوى، عن ذواتهم الثقافية من خلال العمارة.
كان المؤرخ توينبي قد استعمل مصطلح ما بعد الحداثة منذ عام 1938 للإشارة إلى العولمة والتعددية الثقافية التي لا بد من ظهورها حسب طبيعة الدور التاريخي. وتعددت الأفكار التي تحدد معنى ما بعد الحداثة المعمارية، ولكن الاتجاه المشترك يدعو إلى الربط بين القديم والحديث، أي بين الأصالة والحداثة، إذ لا يمكن الدعوة إلى مجرد إحياء القديم، ذلك أن عالم التقنيات معاش على أوسع نطاق، ولكن من القديم نستطيع أن نحقق خَيارات متعددة، هذه التعددية Plurality هي من ميزات عمارة ما بعد الحداثة التي تجعل العمارة متجددة متنوعة حسب الثقافات المختلفة.
.5. يبدو أن الدعوة إلى الأصالة والحداثة في العمارة الإسلامية تتفق مع الدعوة إلى ما بعد الحداثة. ولقد استهوى هذا اللقاء بعض المعماريين المسلمين من أساتذة وطلاب، بل إنهم عادوا إلى آراء الفلاسفة والمعماريين القائلين بمذهب بعد الحداثة، دون أن يرجعوا إلى آراء وتطبيقات العمارة الإسلامية، فخضعوا مرة أخرى إلى التبعية، دون أن تتاح لهم فرصة التعبير عن الذات الثقافية في العمارة الحديثة التي توهموا أنها إسلامية.
.6. فطن المفكرون المسلمون إلى خطورة التبعية المعمارية لعالم الغرب، وكان علي باشا مبارك(1)، أول من لفت الانتباه إلى التبعية في العمارة حيث اتبع الناس في بنائهم الأشكال الرومية، وهجروا الأسلوب القديم، ولما كثر دخول الفرنج هذه الديار المصرية، بعد إحداث السكك الحديدية فيها، أخذت صورة المباني تتغير فيبني كل منهم ما يشبه بناء بلده، فتنوعت صور المباني وزينتها وزخرفها. والواقع أن انتشار الطراز الغربي كان بفعل المستعمر وبفعل الانفتاح الاقتصادي، وكان تأثير الدعوة إلى التمغرب فعالاً في العمارة. إذ استقدم المسؤولون والأثرياء معماريين أجانب لإقامة بيوت لهم في جميع المدن الإسلامية، فظهر طراز أطلق عليه الطراز الكولونيالي، وهو طراز هجين ما زالت عمائره قائمة في الأحياء الجديدة أو في المدن الجديدة.
تحديث التصميم المعماري
.1. ويبقى الإبداع في التصميم الخارجي والزخرفة الداخلية، من خصائص الفن الإسلامي الذي اتسم دائماً بالوحدة والتنوع والتطور، فلقد كانت مجموعة متعاقبة من الطرز دلت على حرية الإبداع في عالم الفن الإسلامي، ولقد أطلق عليها تسميات مرتبطة بالعهود السياسية، كالطراز الأموي والعباسي والفاطمي والأندلسي، والمغولي والصفوي والسلجوقي والعثماني، وهي طرز إبداعية؛ وليست أنظمة ثابتة Orders، كما في الفن الكلاسيكي الإغريقي والروماني. بمعنى أن الفنان المزخرف يستطيع من منطلق مفهوم الفن الإسلامي، أن يبتكر أساليب لا حد لها تصبح مدارس جماعية أو فردية، كما هو الأمر في الفن التشكيلي عامة.
.2. إن السعي وراء تطوير التصميم الخارجي، يتطلب العودة إلى تاريخ هذا التصميم منذ بداية فن العمارة الإسلامي، للتعرف على ملامح التصميم في كل عصر، وبذلك نستطيع رصد التحولات التي تمت عبر العصور وعلى اختلاف الأمصار، ضمن نطاق الوحدة الجمالية التي يتمتع بها الفن الإسلامي.
.3. لقد ظهرت التصاميم المعمارية الأولى مستوحاة من التصاميم التي كانت سائدة في أرض الإسلام، والتي استمرت معلماً هاماً يستوحي منه الفنان في العصر الإسلامي. هذا الفنان الذي أسلم أو بقي على دينه، كان قد نقل تقاليد فن العمارة السائدة قبل الإسلام إلى العمارة الإسلامية، وكان هو نفسه قد قام قبل وبعد الإسلام بدور المعمار والمنشئ، أو هو الوارث المباشر لتقاليد العمارة، إذ لم يكن العرب المسلمون الفاتحون قد حملوا معهم أسساً لعمارة إسلامية، بل هو الفكر الإسلامي الذي نما وانتشر بين الناس بعد قرن من الزمن، فكان أساساً لمفهوم معماري جديد، سار حثيثاً في مضمار الإبداع والتنوع، ولقد رافق تطور الفكر الإسلامي ظهور فكر جمالي تمثل في دراسات إخوان الصفا والجاحظ والتوحيدي وابن خلدون وغيرهم. وفي المشرق الإسلامي كان الشاه أكبر المغولي وأعقابه قد اشتركوا في دعم تطور الفكر الجمالي والإبداع المعماري.
تطور فن العمارة الإسلامية
.1. لقد حكم الأمويون المسلمين الأوائل ، وكانت عاصمتهم دمشق الشام، وعلى امتداد الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت في عهد الأمويين من الصين إلى الأندلس، كانت ثمة تقاليد معمارية أهمها التقاليد الرومانية والبيزنطية، التي فرضت هويتها على الأقل من خلال إعادة استعمال العناصر المعمارية في المعابد والمنشآت، من أعمدة وتيجان وسواكف وأفاريز في بناء المساجد الأولى، مثل المسجد الأقصى ومسجد دمشق ومسجد القيروان وجامع قرطبة وجامع القرويين بفاس.
.2 . ولكن شروط الصلاة في هذه المساجد كانت سبباً في تأسيس مفهوم عمارة إسلامية؛ تختلف عن العمارة السابقة، لاختلاف وظائفها، واختلاف انتمائها العقائدي. وهكذا ظهرت المئذنة لتحل محل برج الأجراس، وظهرت القبة لكي تكون الشعار المعماري المعبر عن قبة السماء الحادبة على المؤمنين، وظهر المحراب موئلاً للزخارف والإبداع، وغطيت جدران المساجد بالرخام وبالفسيفساء لتغطية الأحجار القديمة المعاد استعمالها.
.3. لقد كان عبد الملك بن مروان وولداه الوليد وهشام من أكثر خلفاء المسلمين اهتماماً بالعمارة، ومازالت آثارهم قائمة في دمشق والقدس ودياربكر والفسطاط والقيروان. ومازالت قصورهم قائمة في بادية الشام والأردن وفلسطين مثل قصر الحَيْر الغربي والحََيْر الشرقي وقصر المَشْتى الذي نقلت واجهته إلى مُتحف برلين، وقصر المُفَجِّر قرب أريحا في فلسطين وقصر عَنْجَر في لبنان، وقُصَيْر عَمْرةَ وحمام الصرح وغيرها في بادية الأردن. ولقد كانت العناصر المعمارية في القصور والمساجد تتمثل في الأقواس والسواكف والزخارف التشبيهيه، كما في قَصْرَي الحَيْر وقصر المُفَجّر وقُصَيْر عمره، أوغيرتشبيهيه كما في قصر المشتى وفي جميع النقوش الجصية التي توزعت في القصور والمساجد.
.4. وتنتقل العاصمة الإسلامية من دمشق إلى بغداد في عهد العباسيين، وتبقى فيها حتى سقوط بغداد على يد المغول 656 هـ/1258م. فتتسم العمارة الإسلامية في هذا العهد بالتنوع بسبب التجزئة والانقسام السياسي، وبسبب النفوذ الثقافي الفارسي والتركي والجركسي الذي ظهر مع الإخشيديين والفاطميين ثم السلاجقة والأتابكة والأيوبيين والمماليك وأخيراً مع العثمانيين، عدا الدول التي حكمها المغول والصفويون في المشرق، والمرابطون والموحدون وأتباعهم في المغرب والأندلس. ومازالت كتب تاريخ فن العمارة الإسلامية تتحدث عن خصائص كل أسلوب على حدة، وكأنه من نتاج الحكام، وليس من نتاج الصناع والفنانين المسلمين، الذين قدموا أساليبهم المبتكرة بحسب براعاتهم وعبقرياتهم، وبحسب التقاليد السائدة في بيئتهم، مستوحين دائماً؛ وبشكل موحد من دينهم الإسلامي الحنيف. وما زال مؤرخو الفن بِحَيْرة عند تصنيف أساليب فن العمارة الإسلامية، وبعضهم يلجأ إلى التصنيف الجَغْرافي، وبعضهم يلجأ إلى التصنيف السياسي، ويفضل البعض اللجوء إلى التصنيفين الجَغْرافي والسياسي معاً.
.5. نلاحظ تطور فن العمارة والزخرفة من خلال ظهور أنواع جديدة من الأقواس والقباب والأواوين، أو من خلال ظهور المقرنصات والشراشيف، أو من خلال تطور الخط العربي وتطور فن الرقش العربي بشكليه الهندسي والنباتي منقوشاً على الخشب أو الحجر والمعدن، أو من خلال تطور شكل المئذنة، والتي أصبحت علامة أساسية من علامات فن العمارة الإسلامية، بدءاًَ بالمئذنة السورية التي ظهرت في الجامع الأُموي بدمشق، وكانت مربعة انتشرت في شمالي أفريقيا، ومازالت شواهدها واضحة في القيروان وفي مراكش مئذنة الكتبية، وفي الرباط مئذنة حسان، وفي إشبيلية. وفي العصور اللاحقة نرى المئذنة الأسطوانية التي تعلو واجهة المسجد من طرفيه في أصفهان وبخارى، ثم نرى المئذنة الرشيقة ذات الشرفات المتعددة في العصر المملوكي في القاهرة ودمشق، كما نرى المآذن التركية العثمانية أشبه بالرمح المقذوف إلى السماء في مساجد استنبول وأدرنه وقونيه وبورصة.
.6. لقد تميزت العمارة المغولية بإقامة الأضرحة الضخمة كضريح تاج محل في أغرا وكضريح أكبر. وتميزت العمارة الصفوية بالعمارات المتكاملة، كما في ميدان شاه في أصفهان. وفي تركيا كانت الكليات، وهي منشآت تضم المسجد الضخم والمدرسة والمكتبة والضريح. وامتازت العمارة السلجوقية ببناء المدارس الضخمة كالمدرسة النظامية
العوامل المؤثرة على العمارة الإسلامية
يكاد يكون من المتعذر القول بأن هناك في العمارة الإسلامية والفن الإسلامي اتجاهاً عربيًّا أو فارسيًّا أو تركيًّا أو هنديًّا موحداً؛ لأن إرادة الحاكم في تلك العصور الإسلامية كانت تلعب دورًا أساسيًّا
كما كان لوحدة العقيدة الدينية تأثير كبير على وحدة التطور، ويمكن تلخيص الظروف والمؤثرات التي أثرت على العمارة والفنون الإسلامية بما يأتي :-
فتوحات الإسلام في بلاد متحضرة شرقًا وغربًا واتساع نطاق الإمبراطورية الإسلامية من الهند إلى الأندلس -
البواعث الدينية والنظم السياسية والاجتماعية والتشريعية التي أوجدها الإسلام، ومفهوم كل شعب منها -
فنون الأمم العربية التي استوطنت أطراف الجزيرة ومجاورتها للأمم المتمدينة، وتأثير فنون هذه الأمم على فنون العمارة -
ظهور الطراز المعماري الأول في سوريا، حيث أقام الأمويون دولتهم، فتأثرت عمارته بعمارة الفن البيزنطي -
ما نقله أحمد بن طولون من أساليب العمارة إلى مصر عند تأسيس الدولة الطولونية -
- الاقتباس من فنون الأمم التي أصبحت تحت حكم العرب مع صبغها بالروح الإسلامية وبقاء صبغها محليًّا، واستخدام الصناع من مختلف البلاد وتأثير مهارتهم على الفنون الإسلامية
انتشار الوعي الثقافي العربي عبر العالم بأسره بسرعة مذهلة أثارت الدهشة -
تعدد مواد البناء وأنواعها في مختلف الأقاليم -
- اختلاف الطقس والمناخ ، بحيث يكون معتدلا على سواحل البحر الأبيض، غزير الأمطار في الشتاء، شديد الحرارة ومشمسًا، ويكون هناك أمطار نادرة في معظم أنحاء البلدان العربية، أمطار غزيرة وثلج في الأندلس، وبعض المناطق الجبلية
الامتزاج بين الثقافة الإسلامية والعقائد المحلية في بلاد فارس -
فنون العمارة الإسلامية وخصائصها في مناهج التدريس
د. عفيف البهنسى