مقامة
حكمة الاجداد في دفع الفساد
بقلم الدكتور محسن الصفار
يحكى أنه في قديم الأيام كان هناك رجل ثري طيب القلب له إبن وحيد رعاه ورباه على الخلق الحسن والابتعاد عن حرام , ولما تقدم العمر بالتاجروأحسّ بالموت على بعد خطوات منه خاف أن يغري الميراث الكبير ولده ويجره إلى طريق الإنحراف والرذيلة بعد ان يفقد كل رقابة وارشاد وعلى فراش الموت نادى على إبنه وقال له:
أقول لك أيها الإبن الحبيب
يا من عرفتك باراً ونجيب
لا أريد بعد موتي أي حزن أو نحيب
فالموت قضاء ولكل منا فيه نصيب
ولا يدفع الموت لا دواء ولا طبيب
وما في أمر الله من شيء غريب
نظر الإبن البار إلى والده وعيناه تدمعان لسماع هذه الكلمات:
لا طاب العيش من بعدك يا أب
مكانك في العين والروح والقلب
إبتسم الأب بصعوبة وأكمب حديثه:
أنا أعرف أنك لست بشرير
وليس فيك طبع دون و حقير
ولكنك شاب يافع غض وغرير
ردّ الإبن على أبيه:
إن شاء الله ستجدني عند حسن الظن
بمشيئة الرحمن ذو الجلال والمن
فرح الأب بسماع هذه الكلمات وأكمل:
إن راودتك نفسك على الميسر
وهو داء كالطاعون وأخطر
فإذهب إلى الحمام الأخضر
واسأل عن رجل اسمه أنور
وان راودتك نفسك بحرام النساء
فإذهب إلى بيت إحداهن آخر المساء
وقبل أن يجلي الصبح عن الليل الغشاء
وان وسوسك الشيطان لشرب الخمر
وهو لا نفع فيه وفيه كل الضر
فإذهب إلى حانة قرب الظهر
وانظر الى مايكون عليه الامر
تعجب الإبن من هذه الوصايا العجيبة ولكنه لم يشأ مجادلة أبيه على فراش الموت فوعده بأنه سيفعل كما طلب منه وأقسم على ذلك, فارق الأب الحياة وورث الإبن المال الكثير وإجتمع حوله الأصحاب من المتسكعين والمتبطلين وبدأ بعضهم يغويه ويغريه بأن يلعب القمار ( الميسر ) للتسلية وقضاء الوقت وفي لحظة ضعف بشرية وافق على ذلك ولكنه تذكر فجأة وصية ابيه قبل الموت فذهب وبحث عن الحمام الأخضر وسأل عن رجل إسمه أنور أخذه أحد عمال الحمام إلى رجل عار يجلس في الرماد المتبقي من فحم الموقد كي يستر عورته سلّم عليه وقال له عن وصية والده سمع أنور الكلام وقال وعينه تدمع:
رحمه الله كان من أهل الخير
يحسن لنفسه وأهله وللغير
سأعلمك الآن أيها الإبن النجيب
لم ليس لك في الميسر نصيب
أخذ أنور مكعبي النرد وألقى بهما من شباك الحمام وقال للإبن:
إذهب إلى الشارع وجد النردين
ستجد أحدهما وقف على ثلاثة والاخر على إثنين
خرج الإبن إلى الشارع وبحث عن النردين حتى وجدهما ولدهشته رأى أن احد النردين وقف على الرقم ثلاثة والأخر على الرقم اثنين أخذ النردين وعاد إلى الحمام عندها قال أنور:
إذا كنت أنا بهذه المهارة
وأعرف النرد وجهة الإستدارة
أقف اليوم في كومة القذارة
ألقى الشاب بقليل من النقود إلى أنور واخذ منه وعدا بترك القمار وخرج من الحمام وهو يستغفر ربه أنه أراد لعب القمار والميسر وترحم على والده الذي أنقذه بهذه النصيحة من مصير أسود يخسر فيه كل ما يملك.
عاد الولد إلى حياته ولكن أصحاب السوء دخلوا عليه من باب آخر هذه المرة وأخذ يحدثونه عن الحسناوات والغواني وعن لذة مصاحبتهن خصوصاً وأن لديه المال الوفير ويمكنه الحصول على أجملهن ولما أغواه الشيطان وقرر أن يذهب مع أصدقاءه إلى بيت الفساد تذكر وصية أبيه فذهب إلى بيت إحدى الغواني قرب الفجر دقّ الباب ففتحت له إمرأة عادية تحمل طفلاً وأخبرها عن وصية أبيه فردّت عليه:
رحم الله أبوك كان للرجال زينة
و على رحيله وموته مثلك حزينة
ها أنت تراني في آخر المساء
إمرأة عادية مثلي كمثل النساء
لا فرق بيني وبينهن إلا الطلاء
إجتنب هذا وقاك الله شر البغاء
إذهب وتزوج من خير النساء
أعطى الشاب المرأة مبلغاً كبيراً وإشترط عليها التوبة النصوح إلى الله وترك البغاء والعودة إلى الله فوعدته وشكرته. عاد الولد إلى بيته وشكر ربه أنه وبفضل وصية والده لم ينخدع بعالم بنات الهوى بعد ما رآهن على حقيقتهن.
ولكن الشيطان وأتباعه لا يتركون الإنسان بسهولة فبدأ الأصحاب يحدثونه عن الخمر ولذتها والسكرة ونشوتها وكيف أنها تبعد الهم وتنسي الغم وظلوا بالوسوسة حتى ساورته نفسه أن يجرب شرب الخمر ولكن وصية والده كانت له بالمرصاد فقرر أن يذهب إلى حانة في وقت الظهر، ذهب إلى الحانة قرب الظهر فوجد رجلاً يرقد في حفرة من الماء القذر لا يدرك ما به من أثر السكر رفعه الشاب وأجلسه وحدثه عن وصية والده فأجاب السكير:
رحم الله أبوك من رجل قدير
إنظر إليّ شارب الخمر السكير
أصحى كل يوم في المجارير
مثلي كمثل أنجس الخنازير
فخذ من الشراب كل المحاذير
وإلا تذهب كرامتك وتطير
ويذهب مالك ولو كان حمل بعير
واسير الحانات مثلي تصير
أعطى الإبن مالاً للرجل واستوعده أن يتوب إلى الله ويترك الخمر وذهب إلى بيته وصلى على روح والده وذهب في المساء وخطب للزواج إبنة جيرانهم وحمد الله وشكره على حكمة والده الذي جنّبه المصير الأسود إن هو إنجر إلى جادة الفسادة والإبتعاد عن دين الله.
وقاكم الله ووقانا معصيته وترك دينه.