أحسّ بها تنظر باتّجاهه، ثم سرعان ما قاوم إحساسه... وتطلع إلى ناحيتها مرة أخرى، وحين لمحها تبتسم... تفاجأ، «هناك ما يدعوها للابتسام...» قال لنفسه، فتفقّد ربطة عنقه بسرعة ، ونظر إلى ساعته دون داع ... واعتدل في جلسته دون داع أيضاً !
مضى وقت، فشعر بعينيها ترمقانه من جديد، نظر نحوها، فوجدها تبتسم... تطلّع حوله في حيرة وهو يقول: «لا بد أنها تعرف أحدهم ممن حولي... تأمل من حوله باهتمام، فوجد أحدهم يتثاءب، والآخر منشغل بالحديث مع جاره، فتطلع نحوها وعلى شفتيه ابتسامة كأنها اعتذار عنهما بالنيابة... وتفقد ربطة عنقه من جديد!
في مناسبة أخرى، وفيما كان يقف وحيداً بعيداً عن الجمع، فوجىء بها تقترب منه وتحييه، فردّ التحية بسرعة، وتنحنح قليلاً، ثم شغل نفسه بالنظر إلى ساعته... وجدها تقول: «الجوَ حار... أليس كذلك؟ « فتنحنح مرة أخرى وقال: «نعم حرّ!».
ثم خطر له أنها قالت ذلك إشارة منها إلى أنه يقف قرب النافذة، فابتعد عنها بسرعة متوقعاً أن تشكره على لماحيته ودقة ملاحظته... لكنها لم تفعل، بل شغلت نفسها بالنظر إلى ساعتها!
في مناسبة أخرى أيضاً، وفيما كان يستمع لحديث ممل من أحدهم، فوجىء بها تقترب منه لتمد له كوباً من الشاي وهي تقول: «هذا لك، أحضرته خصيصاً... تفضّل...»
مدّ يده مرتبكة نحو الكوب الساخن، ودلق الرشفة الأولى في جوفه بسرعة ليقول بصوت مشوب بغصة: «حر... حرارة لا تطاق، أليس كذلك؟»
ولم يسمع ماذا قالت، ومرّت لحظة كأنها الدهر، ثم استأذنت بالانصراف وابتعدت...
مضى زمن، فجمعتهما مناسبة جديدة، ولمحها تقف في البعيد، فحياها بحركة برأسه... ثم تشاغل بالنظر إلى سقف القاعة، ولم تمض ثوان حتى وجدها تقف أمامه لتقول: «لا أعلم لماذا أشعر بأني أعرفك منذ زمن بعيد...» وبصوت لم يخل من بعض الأسى أضافت وهي مطرقة: «ربما منذ ألف عام...».
ذهل، اضطرب، واستسلم لدهشة ألجمته عن التفكير في تعليق مناسب، وفيما سرح يبحث عن جملة لائقة... كانت هي قد ابتعدت، وغادرت المكان تماماً!
وبعد...
مازال يرتاد كل المناسبات التي يمكن أن يلتقيها فيها، دون جدوى، إذ لم يحدث أن صادفها بعد تلك المرة.
ومازال يُشاهد وهو يقف وحيداً في انتظار ابتسامة تأتيه من بعد، أو كوب شاي يصله فجأة... ما زال ينتظرها ليقول لها كلاماً كان يخبئه لها منذ ألف عام!
د. لانا مامكغ