لا أعرف كيف بدأ الأمر.. كل ما أذكره أنني خرجتُ ذات يوم إلى الشارع.. رأيت بعض الناس وقوفاً يرمقون السماء.. لم أعرهم اهتماماً، كان عددهم قليلاً لكن شيئاً فشيئاً بدأ عددهم بالازدياد..
مع مرور الوقت أصبح كل من في المدينة يرمق السماء.. مئات بل آلاف الناس في الشوارع والساحات والبيوت والأسطح وقفوا بجثثهم المنهكة يتطلعون إلى السماء بأعينٍ فارغة. الصبيان أيضاً وقفوا على أسطح الأبنية التي شهقت على طرفي الشوارع ينظرون إلى السماء بعيونهم المستديرة.. لم يعد الرجال يذهبون إلى العمل، ولم تعد النساء يمارسن الجنس مع أزواجهن، ولم يعد هناك أعياد ولا مناسبات ليحتفل بها.. الأطفال توقفوا عن الذهاب إلى المدارس.. توقفت نشرات الأخبار المتكررة واختفت وجوه المذيعات القبيحات عن الشاشة.. وقف الجميع ينظر إلى السماء في الصباح والمساء وبعد الظهر وأيام الجمع والآحاد..
كل يوم كان الصباح يولد كأنثى يانعة ما تلبث أن تتشظّى على ملامحهم الباردة وعيونهم المنطفئة، وكان الصمت يغتصبُ الظلال العاثرة ولا شيء يجرؤ على اختراق حصار الصمت..
..
..
..
مضت ألف سنة ونحن ما زلنا نرقب السماء.. البعض مات وقوفاً.. زحف الموت إليهم بخطى حقيرة.. تصاعدت أرواحهم من أفواههم الطينية وتشققت جلودهم.. وكلما سقط أحدهم تكدّس الآخرون فيه.
البعض الآخر منا ما زال يراقب السماء وينتظر.. الجمود المترامي النهايات أضحى يصلب الوقت على أعناقنا المتيبسة ويقوّض أطرافنا المتجمدة عن الحركة..
ذات يوم خرج طفلٌ من الزقاق وصرخ: “ربما تخلى عنا”؟!!! شهقت أمه وصفعته على فمه.. نَهَرَ الجميع أمه لسوء تربيتها.. صمت الصغير واستمر بمراقبة السماء.
ذو البدلة البنية احتشد بالبذاءة تجاه الصغير ثم قال: “ربما يجب أن نقدم قرباناً..”!! وافقه الجميع.. “قربان.. قربان..”..
ثم بدأنا نقدم قرابين كثيرة منا.. ومع كل قربان كانت السماء تنزلق قليلاً في تجاويف أرواحنا الكئيبة، وكانت عيوننا تتغرغر وتسافر لذات الجهة..
..
..
..
مضت ألف سنة أخرى.. وخرج ذات الطفل مرة أخرى وأخذ يشد بجلباب أمه.. ثم سأل: “ماذا ننتظر؟!!”..
التفت الجميع إليه بدهشة.. ثم عمّت موجة كبيرة من الهمهمة وأصبح الجميع يتساءل: “ماذا ننتظر.. ماذا ننتظر؟!!” وتساءلوا مع بعضهم البعض “ماذا ننتظر؟!!.. ماذا ننتظر؟!!” لكن لم يكن أحد يحمل الإجابة..
بعد فترة توقفت الهمهمة وعاد الصمت يجثم على رؤوسنا وعدنا نراقب السماء وننتظر..