القدرات السورية على المواجهة(البريّة-الجويّة-البحريّة-النوويّة) //ملف شامل//
من هي سوريا عسكرياً وماذا تمثل على خريطة العالم كعنصر مواجهة والى أي درجة يخشاها الأخرون
على الرغم من أن الصراع العربى ـ الإسرائيلى يعتبر المحدد الرئيسى والأكثر أهمية فى تخطيط وتنفيذ السياسة الدفاعية السورية، فإن تداعيات الحرب الأمريكية على العراق خلقت تهديداً استراتيجياً بالغ الخطورة أمام سوريا، يتمثل فى الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، بما يعنى أن الولايات المتحدة أصبحت دولة جوار لسوريا، وتسعى من خلال هذه الوضعية الجديدة إلى تكثيف ضغوطها على سوريا لتنفيذ مطالبها وشروطها المتنوعة، سواء فيما يتعلق بالمسألة العراقية أو عملية التسوية العربية ـ الإسرائيلية أو وقف الدعم السورى لجماعات المعارضة الفلسطينية واللبنانية.. وغير ذلك.
ولا ينفى ذلك أن الصراع مع إسرائيل يظل بمثابة الأسبقية الأولى فى السياسة الدفاعية السورية، ولم تهتم سوريا حتى بنشر أعداد يعتد بها من قواتها المسلحة على الحدود مع العراق، تحسباً لأى احتمالات قد تقدم عليها قوات الاحتلال الأمريكية فى العراق، أو حتى استجابة للمطالب الأمريكية لسوريا بنشر قواتها على الحدود مع العراق لمنع تسلل المتطوعين العرب للقتال ضد قوات الاحتلال الأمريكى فى العراق. وفى المقابل، واصلت سوريا تركيزها التقليدى على نشر قواتها فى مناطق الحدود مع إسرائيل، استناداً إلى أن سوريا مازالت فى حالة حرب مع إسرائيل، بسبب احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية.
وتتأثر السياسة الدفاعية السورية بالاعتبارات الجيوبوليتيكية المتمثلة فى حقيقة أن سوريا تعتبر من دول التخوم العربية، أى الدول الواقعة على أطراف العالم العربى، وتربطها بالتالى علاقات جوار جغرافى مع دولة غير عربية (تركيا). ونظرا لوجود مصادر متعددة للصراع بين سوريا وتركيا، فإن سوريا كانت تواجه فى بعض الأحيان تهديدين من جهتى الشمال والجنوب فى آن واحد معا، برغم أن الخلافات السورية ـ التركية لم تتحول قط إلى صراع ساخن بين الجانبين، ولكنها كانت تتسبب بدرجة أو بأخرى فى اضطرار القيادة السورية فى بعض الأحيان إلى نشر جانب من قواتها المسلحة فى المناطق الشمالية من أجل تأمين حدودها مع تركيا. وقد شهدت التفاعلات السورية ـ التركية تطورات إيجابية هامة مع نجاح الجانبين فى تهدئة، ثم تسوية، الصراعات القائمة بينهما منذ عام 1998.
وفى الوقت نفسه، تتأثر السياسة الدفاعية السورية بالأوضاع الداخلية، بما فى ذلك الدور السياسى للقوات المسلحة السورية، حيث أدت الانقلابات العسكرية المتوالية التى قامت بها هذه القوات فى الخمسينيات والستينيات إلى تسييس القوات المسلحة السورية بدرجة كبيرة، بالإضافة إلى أن الأوضاع السياسية الداخلية فى سوريا تسببت فى انغماس القوات المسلحة بدرجة كبيرة ليس فقط فى الحفاظ على أمن نظام الحكم، وإنما المشاركة فى عملية إدارة شئون الدولة السورية ككل، فى ظل هيمنة اعتبارات إعداد الدولة السورية للحرب، وأيضا وفق متطلبات الاستعداد الدائم لمواجهة التهديد الإسرائيلى.
وقد تأثرت السياسة الدفاعية السورية بشدة بالتحولات الجارية فى النظام الدولى، ولاسيما تلك المتعلقة بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى، حيث أدت هذه التحولات إلى حرمان سوريا من الحليف الاستراتيجى الرئيسى الذى كانت تحصل منه على احتياجاتها التسليحية، جنبا إلى جنب مع المساندة السياسية والمساعدات الاقتصادية، بعد أن تبنت روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفيتى السابق، سياسة مختلفة بشأن مبيعات السلاح لسوريا تقوم على السداد النقدى، مع المطالبة بسداد الديون العسكرية القديمة. وقد تسببت هذه التطورات فى إضعاف قدرة القوات المسلحة السورية على تحقيق التوازن الاستراتيجى مع إسرائيل، ولاسيما أن الصعوبات التى يعانى منها الاقتصاد السورى قد حدت كثيرا من قدرة البلاد على توفير المخصصات المالية اللازمة لسداد قيمة الاحتياجات التسليحية نقدا.
وفى ظل تحولات المناخ الدولى فى فترة ما بعد هجمات 11 سبتمبر، برزت تهديدات إضافية أمام الأمن الوطنى السورى، تنبع فى الأساس من محاولة إسرائيل استغلال المناخ الدولى الجديد لتحريض إدارة جورج بوش فى الولايات المتحدة لاتخاذ موقف أكثر عداء إزاء سوريا، بحجة دعمها للإرهاب. وكان ذلك سببا فى ازدياد احتمالات حدوث تصعيد عسكرى عنيف بين سوريا وإسرائيل.
أولا ـ تحـولات البيئـة الاستراتيجية السورية
لقد ظل الصراع العربى ـ الإسرائيلى على الدوام مصدر التهديد الأكثر خطورة على الأمن الوطنى السورى، ليس فقط بحكم وجود دولة إسرائيل على الحدود الجنوبية لسوريا، ولكن أيضا بسبب تداعيات المسألة الفلسطينية على كافة الأوضاع الداخلية فى سوريا، كما كانت مخاطر هذا التهديد الإسرائيلى تتزايد بقوة حينما تترافق مع تصاعد التهديد التركى، فى ظل علاقات التعاون العسكرى الوثيقة بين تركيا وإسرائيل.
ولذلك، فإن من الممكن وصف السياسة الدفاعية السورية إزاء التعامل مع التهديد الإسرائيلى بأنها كانت على الدوام سياسة البحث على التوازن فى مواجهة إسرائيل، حتى من دون أن يكون ذلك مرتبطا بوجود تصور استراتيجى متكامل لدى القيادة السورية لإدارة هذا الصراع على المدى الطويل. وفى هذا السياق، تراوحت أدوات السياسة الدفاعية السورية فى تحقيق التوازن مع إسرائيل ما بين عدة أدوات، جاء فى مقدمتها سعى سوريا الدائم إلى الانضمام إلى بناء تحالفات سياسية أكبر، بما يوفر لها قدرا أكبر من الحماية والأمان، بالإضافة إلى أن هذا التوجه يتوافق مع المنطلقات القومية لأيديولوجيا البعث الحاكم فى سوريا، علاوة على ما يحققه ذلك من مكاسب سياسية داخل سوريا ذاتها. وقد بدا هذا التوجه واضحا بقوة فى تجربة الوحدة المصرية ـ السورية 1958 ـ 1961، وكذلك التجارب الوحدوية الفاشلة التى مرت بها سوريا فى الفترات اللاحقة، كما يبدو ذلك واضحا فى الحرص على الروابط الوثيقة بين سوريا ولبنان فيما يتعلق بالموقف تجاه إسرائيل. وفى الوقت نفسه، ركزت السياسة السورية على الارتباط بعلاقات استراتيجية وثيقة مع الاتحاد السوفيتى السابق من أجل الحصول على الدعم العسكرى والسياسى اللازم لتمكين سوريا من الصمود فى مواجهة التهديد الإسرائيلى.
وقد كان خروج مصر من ساحة الصراع العربى ـ الإسرائيلى ضربة عنيفة للسياسة الدفاعية السورية، حيث ازداد انكشاف سوريا أمام إسرائيل، مما أضعف بشدة من قدرتها على الدخول فى صراعات مسلحة واسعة النطاق مع إسرائيل، بل عاجزة حتى عن تحقيق التوازن العسكرى معها. وقد حاولت سوريا لفترة قصيرة إعادة بناء التوازن فى مواجهة إسرائيل عن طريق تشكيل ما عرف بـ (الجبهة الشرقية)، بالتعاون مع العراق، والتى تضمنت اتفاق الطرفين على صيغة موسعة للتعاون العسكرى من أجل احتواء الآثار الناجمة عن توقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، إلا أن الخلافات العنيفة سرعان ما دبت بين الجانبين السورى والعراقى، مما أدى إلى انهيار هذه الجبهة، ثم تسبب الغزو الإسرائيلى للبنان فى عام 1982 فى ازدياد هشاشة الموقف الاستراتيجى السورى فى مواجهة إسرائيل.
فى مواجهة هذه التحديات، تبنت سوريا ما عرف بـ (سياسة التوازن الاستراتيجى) منذ أوائل الثمانينات، بالتعاون مع الاتحاد السوفيتى السابق، وحصلت سوريا بموجبها على كميات ضخمة من الأسلحة المتقدمة من الاتحاد السوفيتى السابق لتحقيق التكافؤ العسكرى مع إسرائيل، وللتعويض عن الخلل الاستراتيجى الناجم عن بقاء سوريا وحيدة فى مواجهة إسرائيل. وقد استفادت سوريا بقوة فى تلك الفترة من أن الاتحاد السوفيتى السابق، فى عهد يورى أندروبوف، كان قد تعهد بتطوير القوات المسلحة السورية وتحديثها، من أجل تعويض الضرر الذى تعرضت له مكانته الدولية عقب هزيمة السلاح السوفيتى، الموجود لدى القوات المسلحة السورية، فى مواجهة السلاح الأمريكى، المتوافر لدى إسرائيل، بعد إخفاق الطائرات القتالية السورية فى مواجهة نظيرتها الإسرائيلية، وعقب تدمير شبكة الدفاع الجوى السورية أثناء فترة الغزو الإسرائيلى للبنان. وقد أدى التجاوب السوفيتى مع المطالب التسليحية السورية إلى تمكين سوريا من تحديث وإعادة بناء قواتها المسلحة، مما ساعد على خلق حالة قريبة من التوازن بين سوريا وإسرائيل فى تلك الفترة، إلا أن الوضع اختلف تماما عقب انهيار الاتحاد السوفيتى.
وفى الوقت نفسه، كانت السياسة الدفاعية السورية تتأثر سلبا بالتنافس الأيديولوجى الحاد الذى كان قائما بين حزب البعث الحاكم فى سوريا والبعث العراقى برئاسة صدام حسين. فمع أن هذا التنافس لم يتحول إلى صراع مسلح بين الجانبين، فإنه تسبب من ناحية فى نشوب حرب باردة بين الجانبين اتخذت صورة الحرب الدعائية وتشجيع كل طرف لخصوم الطرف الآخر، مثل تأييد سوريا لإيران أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية أو مناوأة العراق للوجود العسكرى السورى فى لبنان، كما تسبب هذا التنافس من ناحية أخرى فى الإضرار كثيرا بفرص التعاون العسكرى بين الجانبين، وتسبب بصفة خاصة فى انهيار الجبهة الشرقية التى كان يمكنها أن تواجه إسرائيل فى فترة ما بعد خروج مصر من ساحة الصراع.
وبالمثل، تؤثر الانقسامات الداخلية فى المجتمع السورى على السياسة الدفاعية للبلاد. فالمجتمع السورى يشهد انقساما طائفيا ما بين أغلبية إلى أقليات. وقد أثرت هذه الأوضاع الداخلية بقوة على أوضاع القوات المسلحة السورية، حيث أدت الانقلابات العسكرية المتكررة التى شهدتها سوريا خلال الخمسينيات والستينيات، إلى تسييس القوات المسلحة السورية، وبالذات من حيث تدخل الاعتبارات السياسية فى عملية شغل المناصب العليا فى هذه القوات. وفى الوقت نفسه، تؤدى الانقسامات الداخلية إلى مشاركة القوات المسلحة السورية فى الكثير من الأحيان فى عمليات حفظ الأمن الداخلى، مما يؤثر على دورها الرئيسى المتمثل فى مواجهة التهديدات الخارجية، لاسيما فى مواجهة إسرائيل.
أما بالنسبة للصراعات القائمة بين سوريا وتركيا، فإنها تعود إلى العديد من الاعتبارات، بعضها يعود إلى قيام تركيا بضم أراض سورية إليها، وبخاصة لواء الإسكندرونة، الذى اقتطعته فرنسا ومنحته لتركيا عام 1939، عشية الحرب العالمية الثانية. وتعود هذه الصراعات أيضا إلى قيام كل طرف بدعم جماعات معارضة مسلحة تعمل ضد الطرف الآخر، حيث اتهمت سوريا تركيا بدعم تنظيمات إسلامية مسلحة، كانت تعمل فى سوريا خلال السبعينيات وبداية الثمانينيات، فى حين اتهمت تركيا سوريا بدعم حزب العمال الكردستانى بزعامة عبد الله أوجلان، الذى كان يشن عمليات مقاومة مسلحة فى شرق وجنوب شرق الأناضول بتركيا. وفى الوقت نفسه، كانت الصراعات السورية ـ التركية تعود إلى الحساسيات الناجمة عن التقارب السياسى والعسكرى التقليدى بين تركيا وإسرائيل، وهو التقارب الذى بدا فى الكثير من الفترات كما لو كان موجها نحو سوريا، علاوة على الخلاف بين سوريا وتركيا حول مياه الفرات ودجلة، بسبب محاولة تركيا الاستئثار بالمياه بحجة أنها تنبع من أراضيها، بينما تطالب سوريا باتفاق يضمن حصصًا ثابتة على اعتبار أن الفرات ودجلة هما نهران دوليان.
وتنبع خطورة الصراعات القائمة بين سوريا وتركيا من كونها سببا مزمنا للتوتر بين الجانبين، ووضعت الدولتين فى العديد من الحالات على حافة المواجهة العسكرية، كان آخرها وأكثرها خطورة فى عام 1998. وقد تعاملت سوريا مع الصراعات القائمة مع تركيا من خلال سياسة التهدئة والاحتواء، بمعنى أن سوريا كانت توفر الدعم لحزب العمال الكردستانى فى حربه المنخفضة الحدة ضد تركيا، ولكن عندما يؤدى ذلك إلى تصاعد الخلافات بين الجانبين إلى مستويات بالغة الحدة، فإن الجانب السورى كان يتجه نحو التهدئة، تفاديا لوصول الخلاف مع تركيا إلى مستوى التصعيد العسكرى واسع النطاق، على غرار ما حدث فى أزمة 1998.
وقد فرضت تحولات النظام الدولى تهديدات إضافية على الأمن الوطنى السورى، يجئ فى مقدمتها أن انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى قد حرم سوريا من الحليف الاستراتيجى الذى كان يوفر لسوريا الدعم العسكرى والمساندة السياسية والمساعدة الاقتصادية.
وعقب هجمات 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة، برز تأثير هذه التهديدات الدولية على الأمن الوطنى السورى بقوة شديدة، استنادا إلى أن سوريا وجدت نفسها عرضة لاتهامات مكثفة بدعم الإرهاب فى الولايات المتحدة، سواء من جانب الكونجرس ووسائل الإعلام وبعض مسئولى الإدارة، بل إن بعض التقارير تشير إلى أن إدارة بوش كادت أن تضع سوريا كواحدة مما يسمى بـ محور الشر، جنبا إلى جنب مع العراق وإيران وكوريا الشمالية.
وقد برز تأثير كافة هذه الاعتبارات على الموقف الأمريكى من سوريا فور انتهاء إدارة بوش من الحرب على العراق، حيث سارع أركان هذه الإدارة إلى توجيه الاتهامات إلى سوريا بتقديم مساعدات عسكرية لنظام صدام حسين، والسماح لمئات أو آلاف المتطوعين السوريين بالتوجه للعراق للمشاركة فى عمليات المقاومة ضد قوات الغزو الأمريكى ـ البريطانى للعراق، وإيواء سوريا لمسئولين عراقيين بارزين فروا أثناء الحرب. وفى هذا السياق، قام الرئيس جورج بوش وكبار أركان إدارته فى منتصف أبريل 2003 بتوجيه اتهامات عنيفة لسوريا حتى قبل أن تستكمل القوات الأمريكية سيطرتها على مختلف الأراضى العراقية، كما دخلت إسرائيل على الخط من خلال تحديدها لقائمة مطالب تعتزم تقديمها للإدارة الأمريكية، حتى تبلغها للحكومة السورية للالتزام بها. وقد بدا واضحا من جملة هذه التطورات كما لو أن سوريا أصبحت الهدف التالى لإدارة جورج بوش عقب الانتهاء من الإطاحة بنظام صدام حسين.
ومع أنه لم يكن واردا أن تبادر الولايات المتحدة فورا إلى القيام بعمل عسكرى ضد سوريا، نظرا لأنها لم تكن قد انتهت بعد حتى من تأمين الأوضاع الداخلية فى العراق، ناهيك عن معالجة القضايا السياسية الكبرى البالغة الخطورة، المتعلقة بمستقبل العراق فى فترة ما بعد صدام حسين، فقد كان واضحا أن التصعيد الشديد من جانب إدارة بوش تجاه سوريا يهدف إلى تكثيف الضغوط السياسية على نظام الرئيس بشار الأسد من أجل الامتناع عن إيواء كبار مسئولى نظام صدام حسين والتوقف عن تطوير أسلحة دمار شامل وفقا للمزاعم الأمريكية، والامتناع عن دعم أى مقاومة عراقية محتملة للوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، علاوة على أن التصعيد الأمريكى تجاه سوريا كان يمثل تجاوبا مع مطالب اليمين المحافظ فى الولايات المتحدة، ومع مطالب حكومة شارون فى إسرائيل، بشأن مطالبة نظام الرئيس بشار الأسد بوقف دعمه لحزب الله اللبنانى والفصائل الفلسطينية، والمطالبة بإنهاء الوجود العسكرى السورى فى لبنان.
ثانيا ـ تحـولات عمليـة بنـاء القـوة العسكريـة السورية
نظرا لأن سوريا ما زالت فى حالة حرب مع إسرائيل، فقد ظلت القيادة السورية حريصة دائما على الاحتفاظ بقوات مسلحة كبيرة وجيدة التسليح، بل والحرص على تحقيق التوازن الاستراتيجى مع إسرائيل فى مختلف مجالات التسلح التقليدى. وبينما كان تحقيق هذا الهدف ممكنا حتى أواخر الثمانينات، فى ظل الدعم التسليحى الضخم الذى كانت سوريا تحصل عليه من الاتحاد السوفيتى السابق، فإن الاستمرار فى سياسة التوازن الاستراتيجى بات بالغ الصعوبة بالنسبة للقيادة السورية، عقب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى، جنبا إلى جنب مع ازدياد الصعوبات الاقتصادية فى سوريا.
لقد انخفضت قدرة سوريا على الاستمرار فى سباق التسلح مع إسرائيل بدرجة كبيرة منذ أواخر الثمانينات. وبينما كان الإنفاق العسكرى السورى يقترب من ثلثى الإنفاق العسكرى الإسرائيلى فى منتصف الثمانينات، فإنه انخفض إلى حوالى نصف نظيره الإسرائيلى. وبالمثل، فإنه بينما كانت واردات السلاح السورية تتفوق من حيث الكفاءة القتالية والمواصفات الفنية على نظيرتها الإسرائيلية حتى أواخر الثمانينات، فإن هذه الواردات أصبحت بعد ذلك أقل كثيرا بالمقارنة مع مشتريات السلاح الإسرائيلية. ولذلك، فإن قدرة سوريا على تنفيذ عمليات التحديث العسكرى قلت بصورة مستمرة منذ أواخر الثمانينات. وكان ذلك عائدا إلى اختفاء الحليف الاستراتيجى السوفيتى الذى كان يقدم الدعم العسكرى والسياسى لسوريا. وقد بدأت روسيا الاتحادية فى التعامل مع سوريا وفق قواعد جديدة بشأن تنظيم مشتريات السلاح السورية، تقوم على الدفع النقدى للمشتريات الجديدة، بالإضافة إلى التشديد على ضرورة الانتظام فى سداد أقساط الديون العسكرية القديمة، والتى تقدرها المصادر الروسية بحوالى 11 مليار دولار. ومع أن بعض المصادر السورية تذهب إلى أن الديون العسكرية السورية لروسيا أقل من ذلك بكثير، فإنها لم تعلن قيمة محددة لهذه الديون. وقد أوقفت روسيا استكمال بعض صفقات السلاح لسوريا بعدما عجزت الحكومة السورية عن سداد أقساط الديون بانتظام.
ونتيجة للظروف الاقتصادية وانتهاء الدعم العسكرى السوفيتى، فإن القيادة السورية اضطرت إلى تخفيض قيمة الإنفاق العسكرى، وهو ما بدا واضحا فى انخفاض نسبة هذا الإنفاق من إجمالى الناتج المحلى السورى من 14% فى أوائل التسعينيات إلى حوالى 7% فى عام 1995، حيث وصل إلى حوالى 3.6 مليار دولار، فى حين وصل إجمالى الناتج المحلى إلى حوالى 49.5 مليار دولار فى نفس العام. وبينما كانت مشتريات السلاح السورية قد وصلت إلى ذروتها فى عام 1987، إذ قدرت وقتذاك بحوالى 2.6 مليار دولار، فإنها انخفضت بشدة بعد ذلك. وكان متوسط قيمة هذه المشتريات خلال الفترة ما بين 1991 - 1994 يقدر بحوالى 400 مليون دولار فى السنة، ولكنه انخفض بعد ذلك إلى متوسط يقدر بحوالى 75 مليون دولار خلال الفترة 1995 ـ 1998.
القــدرات العسكريـــة السوريــــة
العــــدد الــبيـــان
319 القوات النظامية (بالألف)
354 قوات الاحتياط (بالألف)
3 الفيالق العسكرية
12 الفرق العسكرية
4700 دبابات القتال الرئيسية
5025 ناقلات الجنود المدرعة
1630 قطع المدفعية المقطورة
450 قطع المدفعية ذاتية الحركة
480 الراجمات متعددة الفوهات
6050 منصات الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات
850 منصات الصواريخ أرض ـ أرض
2050 المدفعية المضادة للطائرات
4055 منصات الصواريخ المضادة للطائرات
589 إجمالى الطائرات القتالية
90 الهليكوبتر القتالية
2 فرقاطات
10 زوارق الدورية الصاروخية السريعة
8 زوارق الدورية
5 قطع مكافحة الألغام
ولذلك، فقد أدت هذه المشكلات فى أوائل التسعينيات إلى توقف روسيا عن استكمال توريد صفقة أسلحة ضخمة لسوريا، كانت تقدر بحوالى 1.4 مليار دولار، بسبب مشكلات التمويل التى تعانى منها سوريا. وكان الجانبان السورى والروسى قد اتفقا عليها فى عام 1992، وكانت تشمل 24 طائرة (ميج 29)، و12 طائرة (سى يو 27)، ودبابات (تى 72) و(تى 74)، وصواريخ أرض ـ جو (أس 300) و(سام 16). وظلت مشكلات التمويل بمثابة عائق أمام تطوير علاقات التعاون العسكرى والتسليحى بين سوريا وروسيا الاتحادية.
ورغم أن سوريا حاولت الحصول على بعض احتياجاتها العسكرية من شركات السلاح الغربية، إلا أن هذه الشركات كانت تطلب ضمانات قوية لسداد قيمة المبيعات من ناحية، كما أن الاعتبارات السياسية كانت تحد من تجاوب تلك الشركات مع المطالب السورية من ناحية أخرى. وعلى الرغم من أن الصين وكوريا الشمالية كانتا على الدوام مصدرا متاحا للأسلحة والمعدات القتالية، إلا أن قدراتهما التكنولوجية المحدودة نسبيا كانت تجعل من الأسلحة التى تنتجانها ذات مستوى محدود من حيث الكفاءة والتطور التكنولوجى، بما لا يتجاوب قط مع الاحتياجات التسليحية السورية. أضف إلى ذلك، أن المواصفات الفنية للأسلحة والمعدات الصينية والكورية لا تتوافق مع المواصفات الفنية للأسلحة الروسية التى تمثل الأغلبية الساحقة من الأسلحة الموجودة فى الترسانة العسكرية السورية، علاوة على أن تنوع طرازات الأسلحة يخلق مشكلات كبيرة فيما يتعلق بالصيانة والدعم الفنى.
ومن ثم، لم يكن أمام القوات المسلحة السورية أى بديل فعال عن روسيا الاتحادية، وهو ما دفع الجانبين إلى إجراء جولات طويلة ومكثفة من المحادثات، من أجل تسوية قضية الديون العسكرية القديمة. وعقب جولات طويلة من المفاوضات، أعلن الجانبان السورى والروسى فى مناسبات عديدة أنهما نجحا فى تسوية مشكلة الديون العسكرية، ووقعا اتفاقية جديدة بشأن مشتريات السلاح وقطع الغيار فى أبريل 1994، حيث تفاوض الجانبان السورى والروسى على صفقة أسلحة جديدة، تشمل 30 طائرة (سى يو 24)، و50 طائرة (ميج 29)، و14 طائرة (سى يو 17)، و300 دبابة طرازى (تى 72) و(تى 74)، ونظام الدفاع الجوى طراز (أس 300).
وفى فترة لاحقة، أجرى الجانبان مباحثات مكثفة عامى 1997 و1998، مما تمخض عن الإعلان فى فبراير 1999 عن خطط لإبرام صفقة تقدر قيمتها بمليارى دولار من مشتريات السلاح الروسية لسوريا. وقد أجريت مباحثات تفصيلية لاحقة بشأن هذه الصفقة فى مايو 1999، حيث تباحث الجانبان بشأن توسيع التعاون العسكرى بينهما، وبالذات من أجل بيع أسلحة روسية متقدمة لسوريا. وقد أشارت بعض التقارير إلى أن روسيا وافقت وقتذاك على إعادة جدولة ديونها العسكرية على سوريا، كما تفاوض الجانبان على إبرام صفقة تقدر قيمتها بحوالى مليارى دولار. وطلبت سوريا فى هذه المفاوضات الحصول على المقاتلات (سوخوى 27) ونظام الدفاع الجوى (أس 300)، إلا أن روسيا عرضت على سوريا أسلحة أقل سعراً، مثل المقاتلة (سوخوى 29) ونظام الدفاع الجوى (تور أم 1)، حيث رأت روسيا وقتذاك أن هذه الأسلحة تناسب القدرات التمويلية السورية بدرجة أكبر.
وقد قام الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد بزيارة لموسكو خصيصا لهذا الغرض فى يوليو 1999، كما أجرى الجانبان محادثات عالية المستوى فى مجال التعاون العسكرى فى سبتمبر 1999. وتناولت هذه المحادثات صفقة تتراوح قيمتها ما بين 2 ـ 2.5 بليون دولار. ومع أن الناتج الفعلى لهذه المفاوضات لم يكن واضحا بدقة، فإن بعض التقارير يشير إلى أن الجانبين السورى والروسى وقعا على اتفاق للتعاون العسكرى، ينص على قيام روسيا بإمداد سوريا بالأسلحة المتطورة، علاوة على مساعدة روسيا لسوريا فى تحديث ما لديها من الأسلحة والمعدات العسكرية السوفيتية، والتى تمثل النسبة الأكبر على الإطلاق فى الترسانة العسكرية السورية.
ولم يتضح فيما نشر عن هذا الاتفاق الكيفية التى يمكن لسوريا من خلالها أن تسدد قيمة الأسلحة التى تطلبها سوريا من روسيا الاتحادية، فى ضوء محدودية القدرات التمويلية السورية، والتى لا تتيح حتى توفير نصف قيمة الأسلحة المذكورة. وتشير هذه المصادر أيضا إلى مشكلة أخرى تتمثل فى أنه حتى إذا حصلت سوريا على جميع الأسلحة المتطورة التى تطلبها من روسيا، فإن القوات المسلحة السورية سوف تحتاج إلى ما يتراوح بين 3 ـ 5 سنوات من أجل استيعاب هذه الأسلحة، وإدخالها ضمن الأسلحة العاملة فى صفوف تلك القوات.
ومن ثم، فإن المشكلات الاقتصادية شكلت العائق الأكبر أمام عملية التحديث العسكرى للقوات المسلحة السورية، وتسببت هذه المشكلات فى تعديل اتجاهات السياسة الدفاعية السورية. وقد امتدت التعديلات على السياسة الدفاعية السورية إلى كل من الإطار الاستراتيجى العام والتوجهات التسليحية على حد سواء، حيث تراجعت سياستها عمليا عن سياسة (التوازن الاستراتيجى) مع إسرائيل فى القدرات العسكرية التقليدية.
ولذلك، وجدت القيادة السورية صعوبات جمة فى الحفاظ على كفاءة هيكل القوات المسلحة، أو مواصلة عملية التحديث العسكرى، أو الصمود فى سباق التسلح مع إسرائيل. وتذهب بعض المصادر الغربية إلى أن القيادة السورية باتت تركز فى عمليات البناء العسكرى على ما يمكن وصفه بـ قدرات الحرب غير المتماثلة، حيث ركزت على العناصر الأربعة التالية:
1- التركيز على اقتناء الصواريخ الباليستية بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل، بهدف بناء ذراع هجومية طويلة المدى، حيث تعتبر الصواريخ الباليستية أقل تكلفة من الناحية المادية، من أجل تحييد التفوق التقليدى الإسرائيلى، علاوة على أن ذلك يمنح سوريا قدرة ما على مواجهة القدرات النووية الإسرائيلية.
2- إعطاء الأولوية لوحدات الكوماندوز والقوات الخاصة التى يمكن استخدامها فى الدفاع عن الأهداف الرئيسية فى سوريا، والتى قد تتعرض لهجمات مفاجئة من جانب إسرائيل. ويتسلح الكثير من هذه القوات بقدرات متطورة فى مجال الأسلحة الموجهة المضادة للدبابات والأسلحة المحمولة الحديثة الأخرى، والتى تتيح لهذه القوات الانتشار بسهولة وفاعلية، دون الاعتماد على الدبابات والأسلحة الثقيلة الأخرى التى يمكن لإسرائيل استهدافها بسهولة أكبر، كما أن هذه القوات مزودة بطائرات هليكوبتر هجومية.
3- الحفاظ على قوات كبيرة من دبابات القتال الرئيسية باعتبارها رادعا لأى محاولة إسرائيلية لاختراق الأراضى السورية، والحفاظ على القدرة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلى لهضبة الجولان، حتى لو لم تكن سوريا قادرة على تحقيق التكافؤ العسكرى الإجمالى.
4- الاعتماد على حزب الله وحركة أمل الشيعية فى جنوب لبنان باعتبارهما وكيلين للسياسة السورية فى الهجوم على إسرائيل . ومع أن هذا التكتيك كان متبعاً بصفة خاصة قبل انسحاب الجيش الإسرائيلى من تلك المنطقة من جانب واحد فى عام 2000، فإن سوريا ما زالت تعتمد على هذا التكتيك باعتباره واحداً من أوراق قليلة متاحة لديها للضغط على إسرائيل.
وفى ظل هذه الصعوبات، فإن التحسينات الرئيسية التى نجحت القوات المسلحة السورية فى تحقيقها فى مجال فى مجال التحديث والتطوير اقتصرت على إدخال بعض التحسينات على أسطول الدبابات طراز (تى 55) والصواريخ الموجهة المضادة للدبابات طراز (أيه تى 14 كورنيت) بمساعدة أوكرانيا. وتشير بعض التقارير إلى أن القوات المسلحة السورية بدأت بالفعل فى تسلم بعض الأسلحة الروسية المتطورة المشار إليها سالفا، حيث يشير تقرير الميزان العسكرى لعام 2002 ـ 2003، الصادر عن المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية فى لندن، إلى أن سوريا تسلمت فى السنوات القليلة الماضية 4 مقاتلات (سوخوى 27)، وعددا غير محدد من المقاتلات (ميج 29)، وأسلحة موجهة مضادة للدبابات طراز (أيه تى 14)، فى حين لم يتأكد حصول سوريا على صواريخ الدفاع الجوى (أس 300).
أما من حيث مستوى التدريب والخبرة القتالية، تتمتع القوات السورية عموما بمستوى عال من الكفاءة والخبرة نظرا للتأهيل والتدريب المستمر، لاسيما بسبب الخبرات القتالية الكبيرة التى حصلت عليها من اشتراكها فى العديد من الحروب ضد إسرائيل، وبالذات حرب أكتوبر 1973، والتى دللت على ارتفاع المستوى التدريبى للعسكريين السوريين ونجاحهم فى استيعاب الأسلحة والمعدات المتطورة. وبشكل عام، فإنه على الرغم من الصعوبات الاقتصادية، فإن القيادة السورية تحرص على مواصلة تحديث قواتها المسلحة، بما يضمن لها القدرة على الصمود فى مواجهة إسرائيل فى حالة نشوب صراعات مسلحة بين الجانبين.
ثالثا ـ جـذور التصعيد العسكرى بين سـوريا وإسرائيل
لم يكن التصعيد العسكرى بين سوريا وإسرائيل خلال عام 2003، وما انطوى عليه من قيام الطائرات القتالية الإسرائيلية بشن غارة جوية على ضواحى دمشق فى أوائل أكتوبر2003، تصعيداً مفاجئاً، بل جاء نتاجاً لسلسلة طويلة من التطورات السابقة، والتى كانت جميعها تؤكد على أن التصعيد بين الجانبين واقع لا محالة، حتى لو تأخر هذا التصعيد لاعتبارات سياسية مؤقتة. ويعود هذا الوضع فى جوهره إلى الرغبة العارمة من جانب حكومة أرييل شارون فى إسرائيل لاستغلال الحرب الأمريكية على ما يسمى بـ الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 فى نيويورك وواشنطن، من أجل إعادة ترتيب الأوضاع فى الاتجاه الشمالى لإسرائيل، من خلال ضرب القدرة العسكرية السورية والقضاء تماما على حزب الله فى الجنوب اللبنانى.
وقد استندت احتمالات اندلاع الحرب بين سوريا وإسرائيل خلال الفترة المذكورة على العديد من الدوافع، أبرزها رغبة حكومة شارون العارمة فى القضاء على القوة العسكرية السورية التى تمثل من وجهة النظر الإسرائيلية المصدر الرئيسى لتحدى إسرائيل، بالإضافة إلى محاولة وقف الدعم السورى المزعوم لحزب الله، علاوة على القلق الإسرائيلى من العلاقات الاستراتيجية القائمة بين سوريا وإيران، والتى يخشى الإسرائيليون من أن تكون هذه العلاقات موجهة ضدهم، بالإضافة إلى رغبة حكومة إسرائيل فى تصفية القضية الفلسطينية، ومحاولة حكومة شارون إبعاد الانتباه الدولى والإقليمى عن الانتفاضة الفلسطينية، ربما من خلال الاندفاع لخوض حرب مع سوريا، استنادا إلى اعتقاد بأن الجيش الإسرائيلى يستطيع أن يثبت وجوده وقوته فى معارك تقليدية كبيرة، بينما يصعب عليه ذلك فى مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، التى استنزفت قوة الجيش الإسرائيلى.
ومنذ هجمات سبتمبر فى الولايات المتحدة، سعت حكومة شارون بكافة الطرق إلى استعداء إدارة جورج بوش بكافة الطرق ضد سوريا، بحجة أن الأخيرة تدعم حزب الله، وهو الحزب الذى تصنفه الإدارة الأمريكية ضمن الجماعات الإرهابية، وحاولت حكومة شارون إدراج مثل هذا الهجوم ضمن ما يسمى بـ الحرب على الإرهاب. وزعمت حكومة شارون أن سوريا لم تعد تكتفى بالدعم غير المباشر لحزب الله، وأنها بدأت فى القيام بتقديم الدعم المباشر لحزب الله من خلال تزويده بالأسلحة، بما فى ذلك تزويده بصواريخ يصل مداها إلى حوالى 11 كيلومترا، وتوفر التدريب والدراسة لعناصر الحزب، بالإضافة إلى استمرارها فى السماح بوصول الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله عن طريق سوريا.
وقبيل الحرب الأمريكية ـ البريطانية على العراق، أضافت حكومة شارون سبباً جديداً لموقفها العدوانى ضد سوريا يتمثل فى محاولتها إلصاق التهمة لها بإخفاء أسلحة دمار شامل عراقية جرى تهريبها من العراق، ونشرها فى الأراضى السورية، بعيدا عن فرق التفتيش الدولية العاملة فى العراق، إلا أن سوريا نفت من جانبها هذه الاتهامات الإسرائيلية بشدة، واعتبرتها محاولة من جانب إسرائيل للتحرش بها، واستعداء الولايات المتحدة ضدها.
وكان كبار المسئولين العسكريين الإسرائيليين قد بدأوا منذ أوائل عام 2002 فى التمهيد بكل الطرق لشن الحرب على سوريا، بل وأعلن الكثيرون منهم صراحة أن الحرب مع سوريا واقعة لا محالة، وأن هذه الحرب قد بدأت عمليا، ولاسيما من حيث بدء الاستعدادات الخاصة بهذه الحرب على الجانبين، ولكنهم أشاروا إلى أن الجانب العسكرى الميدانى فى هذه الحرب يعتبر مسألة وقت لا أكثر. ومن خلال التسريبات التى أطلقها المسئولون العسكريون الإسرائيليون منذ ذلك الحين، بدا واضحاً أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أعدت الخطط العسكرية الخاصة بضرب سوريا منذ عدة سنوات، ولكن كان يتم تعديلها بصورة دورية طبقا لتطورات الموقف فى كل مرحلة، وكان آخر تعديل لهذه الخطط قد تم فى أوائل عام 2002. وأشارت التسريبات الصحفية إلى أن الجيش الإسرائيلى كان قد استعد لتنفيذ هذه الخطط فى منتصف مارس 2002، ردا على العملية الفدائية الفلسطينية التى كانت قد وقعت فى شمال إسرائيل، على مقربة من الحدود اللبنانية، التى قام خلالها مسلح فلسطينى بإطلاق الرصاص على عدد من السيارات العسكرية والمدنية الإسرائيلية، وقتل خلال العملية 7 إسرائيليين.
وقد اعتبرت الحكومة الإسرائيلية سوريا مسئولة عن هذه العملية نظرا لما تردد من أن منفذ تلك العملية كان قد تسلل من لبنان أو أنه عضو فى حزب الله اللبنانى. وكانت الخطط الانتقامية الإسرائيلية تشتمل على ضرب أهداف داخل سوريا، دون الاقتصار فقط على لبنان، إلا أن الولايات المتحدة وفرنسا تدخلتا لوقف تنفيذ هذه الخطط الإسرائيلية، ومنعتا نشوب الحرب بين الجانبين السورى والإسرائيلى.
ورغم هذه التدخلات الأمريكية ـ الفرنسية، فإن تقديرات المسئولين العسكريين الإسرائيليين ارتكزت على أن ضرب سوريا أصبح الخيار الرئيسى المسيطر على فكر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بالكامل. وأشار رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال أهارون زئيفى فركش فى شهادة أمام لجنة الخارجية والأمن بالكنيست الإسرائيلى فى يونيو 2002 إلى أن الحرب كانت قريبة جداً فى تلك الفترة، لكن القيادة السياسية منعتها، وأن هذا المنع كان مؤقتا. وأكد على أن وقوع هذه الحرب يظل مسألة وقت لا أكثر، حيث أن الدوافع الداخلية لهذه الحرب باتت تعمل بقوة وفاعلية، وهو ما سوف يؤدى بالتالى إلى انفجارها الحتمى بين الجانبين.
وبشكل عام، فإن التقديرات الإسرائيلية الخاصة بشن الحرب على سوريا ارتكزت على العديد من الاعتبارات، يأتى فى مقدمتها متغيران بالغا الأهمية، وهما:
1- التفوق العسكرى الإسرائيلى، حيث يزعم كبار المسئولين العسكريين الإسرائيليين أن الأسلحة ومعدات القتال الرئيسية المتاحة لدى الجيش السورى أصبحت متخلفة فى معظمها، وأن هناك هوة متزايدة وآخذة فى الاتساع بين مستوى الأسلحة والمعدات الموجودة لدى الجيش السورى وبين مستوى الأسلحة الإسرائيلية. وبالتالى، فإن من الأفضل لإسرائيل من وجهة نظرهم استغلال هذا التفوق الآن للهجوم على سوريا. وقد عمل كبار القادة العسكريين الإسرائيليين على الترويج لهذه الفكرة فى وسائل الإعلام الإسرائيلية، بما فى ذلك الجنرال بينى جنتس قائد المنطقة الشمالية الإسرائيلية.
2- المناخ القائم فى ظل الحرب الأمريكية على الإرهاب، حيث كان الكثير من كبار المسئولين فى حكومة شارون يرون إن الحملة الأمريكية ضد ما يسمى بـ الإرهاب توفر فرصا مثالية أمام إسرائيل لضرب سوريا، اعتمادا على أن إدارة جورج بوش لن تعترض على قيام الجيش الإسرائيلى بالهجوم على سوريا، لأن هذه الإدارة تعارض بشدة على الدعم السورى لما تصفه الإدارة الأمريكية بـ التنظيمات الإرهابية، على نحو ما سبق ذكره.
وقد زعم شارون وكبار مساعديه أن إسرائيل ترغب فى ضرب سوريا كمساهمة منها فى الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، كما زعموا أن الإدارة الأمريكية كانت دائما على إطلاع دقيق بالخطط الإسرائيلية لضرب سوريا، حيث قام الجنرال موشيه يعلون رئيس الأركان الإسرائيلى بزيارة للولايات المتحدة فى مايو 2002، أى قبل توليه منصبه بأسابيع قليلة، وناقش مع المسئولين الأمريكيين مسألة ضرب سوريا، وترك لدى كبار المسئولين الأمريكيين الانطباع بأن الحرب مع سوريا أصبحت حتمية، وأن إسرائيل سوف تقوم بذلك مساهمة منها فى الحرب الأمريكية ضد الإرهاب.
وقد نجح التحريض الإسرائيلى للإدارة الأمريكية ضد سوريا بالفعل فى قيام الرئيس جورج بوش بالإشارة فى إحدى خطبه فى يونيو 2002 إلى ضرورة قيام سوريا بإغلاق معسكرات التدريب الخاصة بالتنظيمات الإرهابية، ثم ازداد التصعيد الأمريكى إزاء سوريا عقب انتهاء الحرب على العراق. ويزعم المسئولون الإسرائيليون أن الإدارة الأمريكية تشترك معهم فى التصورات والخطط الخاصة بالتعامل مع سوريا، وأنها لم تعترض على الخطط الإسرائيلية فى هذا الشأن.
وفى سياق الاستعدادات الأمريكية للحرب على العراق، حاولت حكومة شارون ربط تحركاتها الرامية للهجوم على سوريا بالحرب الأمريكية على العراق، استنادا إلى أن ظروف الاستعدادات الأمريكية للإطاحة بنظام حكم صدام حسين فى العراق توفر الفرصة لإسرائيل من أجل شن حرب مماثلة فى المنطقة المحيطة بها، بما لا يقتصر فقط على توجيه ضربات عنيفة ضد حزب الله فى لبنان، ولكن أيضاً مهاجمة القوات السورية فى لبنان، بالإضافة إلى شن هجمات شاملة ضد أهداف حيوية داخل سوريا ذاتها.
ولكن هذه الجهود الإسرائيلية باءت بالفشل بسبب الموقف الأمريكى الرافض لفكرة فتح جبهتين فى آن واحد معاً، حيث رفضت إدارة جورج بوش التجاوب مع الرغبة الإسرائيلية لضرب سوريا، استناداً إلى أن ذلك سوف يتسبب فى تعقيد الحرب على العراق، والتى كانت تعانى بالفعل من معارضة عارمة على امتداد الساحة الدولية، شعبياً ورسمياً، ولم تكن الإدارة الأمريكية على استعداد لتأجيج هذه المعارضة الواسعة بحرب إسرائيلية جديدة ضد سوريا